تأليف: شوشانا زوبوف
عرض: علي الرواحي
مع العصر الرقمي الذي نعيشه حاليا، تظهر الكثير من التحديات المختلفة، والتي تؤثر بشكلأساسي على المستقبل البشري من مختلف الجوانب والأصعدة، ففي ظل الأتمتة، وسيطرة الآلة على الكثير من مفاصل الحياة المعاصرة، تصبح الحياة أسهل من جهة، لكنها تواجه من الجهة الأخرى الكثير من التحديات غير المسبوقة على جميع المستويات بما في ذلك مستوى المستقبل البشري برمته. تسيطر وتنتشر في هذا العصر مصطلحات جديدة ترتبط بهذا العصر الرقمي، مثل مصطلح "رأسمالية الرقابة" أو "الرقابة الرأسمالية" الذي يشير إلى تسليع المعلومات الشخصية بين الشركات الكبرى، وتحديداتلك الشركات التي تتصدر قائمة الأرباح من جهة، وتزايد أعداد المستخدمين من الجهة الأخرى، بالرغم من وجود البدائل بين فترة وأخرى.
وتطرح ملامح العصر الرقمي الكثير من الأسئلة التي تؤرق المهتمين بالمستقبل البشري في مقابل حلول الآلة محل الكثير من الوظائف والمهام؛ ومنها: هل سيعمل الجنس البشري لدى آلات ذكية؟ أم أن لدينا أشخاصا أذكياء يعملون بجانب آلات ذكية؟
لم يعُد هذا السؤال جديدا، فقد طُرح منذ ما يزيد على 30 عاما، بصيغمختلفة، وعن طريق الكثير من الأشخاص الذين يعملون أو يتابعون منتجات العصر الرقمي بكل شغف وترقب، حيث نجد أن مؤلفة هذا العمل – على سبيل المثال-طرحت قبل 30 عاماسؤالامن خلال كتابها بعنوان "عصر الآلات الذكية: مستقبل العمل والسلطة"، وهو يسعى في تلك الفترة كما هي حال العمل الحالي إلى فتح فصول جديدة في الفهم، والتعامل، وسن القوانين المختلفة للدخول في العصر الرقمي الذي تتسع بوابته كل يوم.
ولفهم جذور أو أصول مصطلح الرقابة الرأسمالية تعيدنا الكاتبة إلى العام 2011م؛ حيث نجد في شهر أغسطس من نفس العام، قد وقعت ثلاثة أحداث متباعدة، ومتفرقة ولكنها تشير إلى هذا الاتجاه، حيث أن الحدث الأول كان في وادي السيلكون عن طريق رائدة الأعمال الكبيرة شركة آبل الشهيرة التي استحدثت حلولا رقمية للكثير من المصاعب والتحديات الاقتصادية التقليدية التي تمر بها المجتمعات المختلفة. وثانيا: عندما أطلقت الشرطة البريطانية النار على مواطن أشعلت على أثره الشغب على نطاق واسع في كل أرجاء المدينة، وذلك بعد الاكتشاف المتأخر بأن النمو الرقمي العالمي قد أخفق في التقليل من اللامساواة بين البشر، بل وأعاد إنتاجها بطرق مختلفة. كما أن السبب الثالث يعود إلى إصرار شاب أسباني عن طريق تحدي شركة جوجل بطلبه منها الحق في التخلي، أو النسيان، أو المحو كما يطلق عليه البعض، وهي تعني وجود الحق لدى المواطن الأوروبي تحديدا، وربما بشكلحصري إلى حدكبير على الطلب من جوجل أن يتم محو كل البيانات المتوفرة عنه بناءعلى طلبه الخاص به.
وتعتبر هذه الأحداث الثلاثة المتفرقة بمثابة إنذار تنبيهي عن تعلق الأحلام البشرية التي تسعى لمزيد من العدالة والديمقراطية الرقمية، والتي تحولت إلى ما يشبه الكابوس، عن تعلقها بالطموحات الرقمية، والإمكانيات الرأسمالية المتزايدة، فهي لم تعد كذلك، مع النمو المتزايد للشركات والمؤسسات التي تقوم بترويض وتدجين الكائن البشري، وفي المقابل تقوم بتسمية كل شيء، وجعله يندرج ضمن شبكة كبيرة من التسميات والرموز المختلفة والدالة؛ الأمر الذي أنتج فائضافي السلوكيات البشرية المكتسبة، جعلت الشركات الكبيرة والرائدة مثل جوجل تجري الكثير من الدراسات في هذا الشأن، كما هو الحال في السابق مع شركة فورد، أو جنرال موتورز... وغيرها، وهو ما أنتج نمطا اقتصاديا جديدا، أصبحت بموجبه شركة جوجل رائدة في مجالات مختلفة من بينها الرقابة الرأسمالية، كما أصبحت نموذجايحتذى به من قبل الكثير من الشركات الصغيرة والناشئة، من نواحي مختلفة، كالإنفاق على البحث، والاكتشافات المختلفة، أو ظهور لغة ومصطلحات جديدة غير مسبوقة، وغير مستخدمة في السابق، مما يوحي بأن السلطة التي تؤسسها الشركات ذات أبعاد مختلفة، ولا تقتصر فقط على جانب واحد دون الجوانب الأخرى. وربما أهمها كما كانت تطمح هذه الشركات في بداياتها هو نشر الديمقراطية والمعرفة في المجتمعات المختلفة، ومن ضمنها المجتمعات والأنظمة الشمولية، وذلك عن طريق نشر المعرفة والمعلومة للجميع، وهو ما أتاح لهذه الشركات في الجانب الآخر أن تستغل هذه المعلومات واستثمارها، فهي تعمل على جهات متعددة أو أكثر من جهة، وليس من طرف واحد، يمكنها من خلاله توزيع سلوكيات المستخدم المختلفة إلى الكثير من المؤسسات والشركات التي تعمل في هذا المجال.
وفي هذا المجال، من الضروري تلخيص الخطوات المختلفة للرقابة الرأسمالية (ص:93)، حيث نجد أن هناك منطقايقف خلفها، يعتمد على أخذ المعلومة أو السلوكيات من طرف إلى أطراف أخرى، أو أطراف متعددة. يتم ترجمة هذه المعلومات أو البيانات إلى عدد كبير من الدراسات والبحوث والإعلانات المختلفة التي تخاطب هذا المستهلك بهذه الصيغة دون غيرها، وهو ما يمكن هذه الشركات من تحويل هذه السلوكيات إلى سلع تباع في أسواق الشركات التجارية، حيث أنها تتحول لمصدر دخل كبير للشركة التي تمتلك هذه المعلومات الخامة التي لم يتم استخدامها أو استغلالها.
وفي الجانب الآخر، فإن معنى الإنتاج قد تغير أيضافي هذا السياق؛ فالمنتجات لم تعد ملموسة كما هو السابق، بل أخذت منحى آخر، واتجاهات مختلفة، فهي تعتمد على المنتجات غير المرئية، حتى وإن كانت هذه المنتجات مرئية في جانب من جوانبها، ذلك أنها تأتي من آلات ذكية، مبرمجة بشكلدقيق، وكبير، وربما لا يقبل الخطأ. وهو ما أثر على موضع السوق أو مكان بيع هذه المنتجات، فهي ليست كما في السابق تباع في مكان معروف، بالرغم من وجود هذه الأسواق بكثرة.
غير أنَّ هذه القلعة التي تبدو محصنة بحسب الكاتبة، وهي هنا قلعة الشركات الكبيرة والواثقة من نفسها إلى درجة الغطرسة، والأحادية، محاطة بخندق يمكن من خلاله أن يتسلل الكثير من الأسئلة الحساسة حول مستقبل الطبيعة البشرية، في ظل صعود الآلة، والتلاعب بالكثير من البيانات والمعلومات الشخصية للمستهلكين، وبشكلخاص فيما يتعلق بالحرية الفردية والخصوصية، وهي القضايا التي أصبحت محل جدل كبير في الفترة الأخيرة، وبشكلخاص بعد فضيحة شركة كامبريدج انالتيكا... وغيرها.
فإذا كانت الرقابة الرأسمالية تستخدم في السابق بعض الإستراتيجيات التي تناسب تلك الفترة الزمنية والأدوات المستخدمة آنذاك، فإن هذه الأدوات قد تغيرت وتطورت هي الأخرى، فبالعودة لتصريحات أريك شميدت الرئيس السابق والمدير التنفيذي لشركة جوجل في منتدى دافوس عام 2015م، عندما قال بأن الانترنت سوف تنتهي في السنوات المقبلة، ذلك لأنه سيظهر الكثير من العناوين الالكترونية، والكثير من الأجهزة الحساسة وأشياء سنلبسها جميعا، أشياء نتفاعل معها بشكلمباشر، ستكون جزءامن الحضور البشري في السنوات القادمة. فبامكانك أن تتخيل بأنك تمشي في الغرفة وبأن هذه الغرفة تتفاعل بشكل دينامكي معك بشكل لحظي ومباشر.
فبالعودة إلى خطابات سابقة، ومؤلفات ما قبل هذا الخطاب، نجد أن شميدت يقوم بإعادة صياغة خطابات قيلت سابقابطرق مختلفة تذهب في نفس السياق، وهذه اللغة يتم تأكيدها في كل حديث يخرج من أباطرة وادي السليكون والمدراء التنفيذيين لشركات التقنية الكبيرة في العالم.
لكنه، وبالعودة إلى معنى الإنتاج عن طريق المرور بأدوات جديدة، نجد أن هذا المعنى قد تغير إلى درجة كبيرة، وربما جذرية، حيث إنه يعني تعديل السلوك البشري وتهذيبه، فعن طريق هذا التعديل من الممكن استبدال الثقة، ومفهوم العلاقات بين البشر والآلة بشكل شبه طبيعي. وهذا يجعل الحديث عن أنواع السلطات أو القوى حديثالا يمكن تجاهله أو القفز فوقه، لأن هناك حديثامنتشراعن وجود الأدواتية في التنبؤ بالسلوك البشري، من حيث السيطرة عليه والتحكم به، من خلال الكثير من الأدوات والأجهزة التقنية المختلفة، وذلك عن طريق جعل هذه السلوكيات متوقعة، مقاسة ضمن الخط التاريخي أو التجارب السابقة للفرد. ومن هنا يتحول المشترك من فرد يتسوق، ويتجول، ويكتشف الحياة، إلى شخص يتم التعامل معه من قبل الشركات المختلفة، والمؤسسات التجارية إلى مشترك أو مستهلك مستهدف في كل تحركاته ليس من الشركات التجارية فقط، بل يتم استخدامه حتى من قبل الأنظمة السياسية التي وللغرابة تنتمي لمختلف اتجاهات حكم مختلفة، منها ما هو ديمقراطي أو بعضها شمولي أيضا.
وفي هذا السياق، نجد أن الشمولية كنمط حكم سياسي، يعتبر حسب الكاتبة، بأنه في طريقه للعودة من جديد، ولكن بطرق مختلفة، وأشكال تقنية ليست كالسابق؛ ذلك لأن الديمقراطية يعاد تشكليها في الفترة الحالية، كما يعاد تهذيب الكثير من أبعادها وطموحاتها، وبشكلخاص في ظل الحديث عن الخصوصية، كما يتم طرحها من قبل الكثير من المختصين في التقنية، وعلماء الاجتماع، وتصاعد التحذيرات من المساس بها، وتسليعها كما هو الحال في السلع الأخرى المنتشرة في المحلات التجارية.
هذه الرقابة لا تقوم فقط بتقويض الديمقراطية من الجانب السفلي، بل تعمل أيضاعلى الجانب الفوقي لها، وذلك عن طريق تعميق اللامساواة بين الأفراد والطبقات في المجتمع الواحد، ولكن ليس بالمعنى القديم والتقليدي للتقسيم حسب العمل، أو كما كان في الحقب الزمنية السابقة، لأنه مع دخولنا العصر الرقمي أو المعلوماتي الجديد، وبالرغم من وجود نسبة كبيرة من الحرية للوصول إلى المعلومات، فإن هناك تهديداكبيرايواجه الأنظمة الاجتماعية في الكثير من بقاع العالم المختلفة، وبشكلخاص في الأنظمة الديمقراطية. وإذ اخذنا بالحسبان نسبة المعلومات المتوفرة عن البشر فيما بعد 2013م، نجد أن نسبة كبيرة من هذه المعلومات قد أصبحت متوفرة في الشبكة العالمية الانترنت، وهي من الممكن استخدامها كطريقة أو وسيلة لمعرفة كل ما يتعلق بالأفراد في تحركاتهم المختلفة. في المقابل، نجد أن النظام الديمقراطي قد سعى منذ البداية أو منذ فترات طويلة للتقليل من فجوة اللامساواة، وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي تعتبر الدعامة الأساسية والهامة للنظام الديمقراطي، وهي ليست موجهة لأولئك الذين نعرفهم، بل وبشكل خاص أيضاللجماعات المجهولة، تلك التي لا تؤثر في مجريات الأحداث السياسية والاقتصادية وغيرها، ولكن لها كيانات، ووجود، وهويات مستقلة، ومغايرة.
وفي الجانب الآخر، فإنَّ الرقابة الرأسمالية أسهمت في تقويض الديمقراطية من الأسفل أيضا، وذلك عن طريق تهديدها المستمر للحرية التي تعني حرية الإرادة، والقيام بأشياء أو أفعال غير متوقعة، وليست خاضعة للقياس، أو المعايير السابقة أو المتعارف عليها، فهي تمارين بشرية على قدرتنا على الفعل، أو الإرادة، غير أن ذلك يتنافى مع القدرة على التنبؤ أو التوقع أو القياس التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات التقنية المختلفة، وهو ما يعني أن المزيد من اليقين والوثوق لهذه الشركات يقابله القليل من الحرية أو القدرة على التحكم بالنفس. وفي المقابل، فإن الاستقلالية أو حرية الإرادة أصبحت في مواضع حرجة، مع سيطرة الأخ الأكبر الرقمي على كل مفاصل الحياة.
إضافة لذلك، نجد أنَّ هذه التقنيات الجديدة بالرغم من كونها توفر الكثير من الخدمات والتسهيلات المريحة للجنس البشري، فإنها تهدد اليوتوبيا التي أخذتها التقنية على عاتقها، بما فيها تقليص الخيارات الفردية التي كانت متوفرة فيما مضى؛ فالاهتمام العام للجمهور يتركز في الفترة الأخيرة على الكثير من القضايا مثل الخصوصية، ورغبة تقليص السيطرة، والتقليل من الاحتكار، والتدخلات الكثيرة من أطراف مختلفة، واتقاء التدفق الكبير للمعلومات المضللة، والخوف على المساحة المتوفرة من الحرية.
لا تقتصر هذه الرقابة الرأسمالية على وسائل التواصل فقط، بل تمتد إلى منتجات تقنية مختلفة، كما هي الحال في الألعاب الإلكترونية التي أصبحت منتشرة في كل الأماكن: الافتراضية والواقعية، والتي يمكن من خلالها الربط بين فائض السلوك والسيطرة النفسية. فبمجرد بدء اللاعب بتحميل الألعاب أو البدء بها، فإنه يخرج من الواقع المعيشي إلى واقع ملفق، أو مُخترع، كما حدث في الفترات السابقة مع اللعبة الشهيرة "بوكيمون جو" والتي تسببت بالكثير من الأحداث الغريبة، والملفتة للنظر إلى درجة كبيرة. ففي تلك اللعبة على سبيل المثال يعتقد اللاعبون بأنهم يلعبون لعبة واحدة، مؤلفة من واقع واحد، في حين أن هناك الكثير من الجوانب والأبعاد غير المرئية التي لا تظهر للمستخدمين، والتي من خلالها يتم تخزين، وتجميع الكثير من البيانات الشخصية الخاصة بالمستخدم.
وفي النهاية، من الممكن اعتبار هذا العمل الذي قضت الكاتبة في تأليفه سنوات طويلة، ومن خلاله استخدمت الكثير من العلوم المتداخلة كعلم النفس والحاسوب وغيرها، وبحسب الكثير من الآراء المختلفة، بأنه يدق ناقوس الخطر أمام الاجتياح الرقمي والتقني لكل مفاصل الحياة المعاصرة، والتي لا تقتصر على مجالدون الآخر، بل طالت كل المجالات: التجارية، والطبية وغيرها. إن هذا الاجتياح بالرغم من الكثير من الإغراءات التي تحيط به، فإنه يقتحم الخصوصية الفردية، ويقوم بإعادة تشكيل الكثير من القيم التي تأسست عليها المجتمعات الحديثة كالفردية، والحرية... وغيرها.
-------------------------------------------
- الكتاب: "عصر الرقابة الرأسمالية".
- المؤلف: شوشانا زوبوف.
- الناشر: Profile Books ;2019، بالإنجليزية.
- عدد الصفحات: 690 صفحة.
