تأليف : مهرسا بارداران
عرض: محمد السالمي
نعيش في عالم غير متكافئ للغاية.. كثيرٌ من الناس على دراية بالإحصاءات الشائعة حول عدم المساواة في الدخل. وفي سياق الولايات المتحدة، 1% يملكون حوالي 40% من إجمالي الثروة. وفقا لمجلة الإيكونيميست، فعلى الرغم من مرور أكثر من 150 عاما منذ توقيع إعلان تحرير العبيد في العام 1863، لا تزال فجوة الثروة بين المجتمع الأبيض والأسود تتزحزح ببطأ شديد.
وفي كتاب "لون النقود"، تقوم مهرسا باردارانبتحليل العلاقة بين السياسة العامة والواقع الاقتصادي الأسود؛ حيث تجادل بأن عدم المساواة في الثروة في الولايات المتحدة قد نشأ واستمر لعقود من الزمن من خلال التشريعات المصرفية التي تميز السود منذ تحررهم من العبودية. كما تؤكد البيانات أن كلا من رأس المال، والتجارة، والممتلكات كانت من نصيب البيض. علاوة على ذلك، فإن الكاتبة تحلل دور البنوك السوداء في تضييق الفجوة الاقتصادية القائمة منذ زمن طويل. تاريخيا، تم الإشادة بالبنوك السوداء لإمكاناتها في القضاء على فجوة الثروة العرقية من خلال توفير الفرص الاقتصادية للسود. ومع ذلك، لم تقترب البنوك السوداء من إنهاء الممارسات التي تركت السود في حالة من النقص الاقتصادي. إن الحصيلةمن العمليات المصرفية السوداء هي أن المؤسسات ذاتها اللازمة لمساعدة المجتمعات على الهروب من الفقر المدقع الناجم عن التمييز والعزل أصبحت ضحية لهذا الفقر نفسه.
مهرسا براداران هي أستاذة متخصصة في القانون المصرفي بجامعة كاليفورنيا، وقد قدمت المشورة لعدد من السياسيين في مجال الخدمات المصرفية البريدية، بما في ذلك السناتور كيرستن جيلبراند والسناتور إليزابيث وارين. ودائما ما تحظى مؤلفاتها بتغطية إعلامية ودولية.
وينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول تغطي الفترة من عام 1865 إلى الوقت الحاضر مع ملاحظات تاريخية ومعاصرة. ويبدأ بالتاريخ المبكر للبنك الأسود في أعقاب الحرب الأهلية. ومن ثم ينتقل الكتاب بشكل ملحوظ إلى مناقشة أكثر تركيزًا حول تأثير السياسات المصرفية الأوسع على السود في الشمال الحضري. بعد ذلك، تتعامل براداران مع تأثير السياسات الاقتصادية الرئيسية من الكساد العظيم إلى حركة الحقوق المدنية. ومن ثم تنتقل الكاتبة في الفصل الأخير إلى العصر الحديث.
وتوضح بارداران كيف أن تاريخ المال والأعمال المصرفية في الولايات المتحدة يتسم بالعنصرية. توثق المؤلفة العبوديةفي الولايات المتحدة؛ حيث تمت طباعة صور العبيد حرفيًا على النقود في الجنوب، وكان العبيد بمثابة ضمانة، إلى السود المحررين الذين يمتلكون ويديرون رأس المال. عندما انتهت عبودية شاتيل "العبودية التقليدية" في الولايات المتحدة، وعدت أوامر شيرمان والمعروفة بـ"الأوامر الميدانية الخاصة 15" بتوطين العبيد الأفارقة على طول الساحل في ساوث كارولينا وجورجيا وفلوريدا، ولكنها لا تصنف على أنها ملكية دائمة للأرض. وبدلاً من الوصول إلى الثروة، تم تزويدهم بالبنك؛ حيث تعود أصول المصرفية السوداء إلى البنوك العسكرية الصغيرة التي تشكلت خلال الحرب الأهلية في الستينيات من القرن التاسع عشر وذلك للاحتفاظ برواتب الجنود السود. ومن الأمثلة المهمة بشكل خاص في هذا الصدد: بنك فريدمان، الذي كان ينظر إليه من قبل الجمهور على أنه جدير بالثقة لأنه كان مدعومًا من حكومة أبراهام لنكولن، والذي يهدف بشكل خاص لخدمة مجتمع السود. من حيث المبدأ، سيساعد البنك السود المحررين على توفير الأراضي وشرائها في نهاية المطاف. كان يدار فعلًا كبنك استثماري خاص يعمل فيه موظفو الإدارة بنشاط في المضاربة. ومما يسّر في هذه الإستراتيجية هو رغبة المجتمع الأسود في استخدام المؤسسة "كحصالة"؛ حيث سعت إدارتها إلى غرس قيم التوفير والرأسمالية. ومع ذلك، فقد فشل البنك بسبب عدم وجود شرط مسبق بالغ الأهمية للبنوك الناجحة وهي الحاجة إلى كميات كبيرة من رأس المال في المقام الأول لزيادة نمو الأموال. ومع امتلاك السود أقل من واحد في المائة فقط من ثروة البلاد عندما تم توقيع إعلان التحرير، كانت المهمة لا يمكن التغلب عليها.
وتُشير الكاتبةإلى أن أحد الأسباب وراء الحركة المصرفية السوداء، هو أنه يمكنها السيطرة على الدولار الأسود "أموال السود" وتنميته، لكي يكون له دور في سد فجوة الثروة العرقية. إن أبرز سمة للرأسمالية هي قدرة رأس المال على التكاثر من خلال الائتمان وبهذا كان يتعين على البنوك السوداء أن تنمي رأس المال بمعدل أسرع من البنوك البيضاء. علاوة على ذلك، تجاهل دعاة البنوك السوداء العديد من التحديات التي واجهتها تاريخياً. فمن ناحية، لم يكن لدى المجتمع الأسود سوى القليل من الثروة الأولية لدعم البنوك؛ حيث تعزز نضالهم من قبل المؤسسات القانونية التي تحرم باستمرار الأسر السوداء من القدرة على توليد الثروة. وبالنظر إلى النظام المصرفي الوليد، فإنه مبني على الودائع السوداء والتي تتكون أساسًا من الأجور، مع العلم أنها كانت ضرورية للعيش يوميًا. ومن هنا، أدى ذلك إلى درجة عالية من التقلب، وبالتالي إلى ارتفاع تكاليف التشغيل بشكل ملحوظ مقارنة بالبنوك البيضاء. في النهاية، انهار البنك بعد تكبده خسائر فادحة حيث أصبحت البنوك السوداء الوسيلة التي يتم بها تدفق الأموال من المجتمع الأسود إلى الاقتصاد الأبيض. تم استخدام جزء كبير من الأموال في الاستثمار في الضواحي البيضاء، مما قوض فكرة أن هذه المؤسسات ستستثمر في المجتمع الأسود وسد فجوة الثروة العرقية. بالنسبة للكثيرين في المجتمع السود، فإن انهيار هذه المؤسسة أدى إلى انعدام ثقة عميق في مؤسسات الدولة وكذلك البنوك بشكل عام؛ فإن انتشار المصارف السوداء ليس فقط لأن العديد من الزعماء السود يعملون فيها، ولكن أيضًا إضفاء الشرعية على قوانين مثل جيم كرو "التمييز العنصري" قضوا فعليًّا على المجتمع الأسود من الحياة العامة في أمريكا.
وفي هذا الإطار المعزول عرقياً، لم يكن من المستحيل أن تكون الخدمات المصرفية السوداء منفصلة ومتساوية، بل لا يمكن أن تكون منفصلة ومربحة كما تشير المؤلفة.
وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، توسع نطاق المصارف السوداء بشكل كبير لعدة أسباب؛ أبرزهاعدم تمكن المجتمع الأسود من الحصول على ائتمان أو تأمين من بنك أبيض أو شراء منزل من سمسار عقارات أبيض، كانت تكلفة تجميع رأس المال دائمًا أعلى. ونتيجة لذلك كان على هذه المصارف السوداء البحث عن عملاء سود، في حين أن الشركات البيضاء يمكنها بيع سلعها لأي شخص مما أدى إلى تنافس الشركات السوداء مع بعضها البعض وكذلك مع الشركات البيضاء. على سبيل المثال، لم تقرض البنوك البيضاء عمومًا السود، وحتى عندما يفعلون، كان سعر الفائدة أعلى بكثير من المعتاد. وبالتالي، أصبحت محافظ البنوك السوداء محفوفة بالقروض السكنية الخطيرة. إضافة إلى ظاهرة عنصرية تتمثل في الجهود الصاخبة التي يبذلها البيض لإبعاد السود عن أحيائهم. كل ذلك أدى إلى فجوة في الثروة بين السود والبيض.
وعلى الرغم من أن النجاحات التي حققتها حركة الحقوق المدنية والتي اكتسبت قوة هائلة في الستينيات من القرن الماضي تعني أن المجتمع الأسود مُنح المساواة في شكل حقوق قانونية وسياسية، فإن الإنجاز لا يزال بعيد المنال. عندما تولى الرئيس نيكسون في العام 1969، واجهت حركة سوداء راديكالية رد فعل أبيض قويًا، تضمنت استجابة نيكسون المحنكة سياسياً في معارضة جميع أشكال التمييز العرقي القانوني مع رفض أي جهود حكومية للتكامل. وهكذا أصبحت الخدمات المصرفية السوداء سمة مهمة للرأسمالية وبهذا تم تقديمها كبرنامج للحكومة لتلبية مطالب الجالية السوداء.
وتنتقل براداران إلى العصر الحديث في فصلها الأخير. وتشير هنا إلى أن فجوة الثروة بين السود والبيض موجودة في كل من مستويي الدخل والتعليم؛ حيث تجادل حولالفكرة الخاطئة بأن فجوة الثروة العرقية هي نتيجة ثانوية للسلوك الأسود وذلك عبر تقديم بيانات ودلائل إحصائية، مثل حقيقة أن الأسر السوداء تدخر فعليًا جزءًا أكبر من دخلها مقارنةبالبيض. إضافة إلى ذلك، تقوم بتوثيق استمرار الملعب غير المتكافئ من خلال كل من السياسة العامة والإجراءات الخاصة للبنوك. وتشدد الكاتبة على أن عدم المساواة في الماضي يديم عدم المساواة في الحاضر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالثروة. من هنا فإن الكاتبة تؤكد، أن أغلب الثروة ليس مكتسبا بل موروث.
كانت الأزمة المالية في 2008-2009الأسوأ منذ الكساد العظيم، وكانت صعبة على جميع الأمريكيين. ولكن يمكن القول إن الأمريكيين من أصل إفريقي هم بالفعل الشريحة الأكثر هشاشة من الناحيتين الاقتصادية والمالية.
وحتى اليوم، وبعد عقد من الأزمة المالية، ما زال السود يتعافون تمامًا ولا يزالون في حالة مالية غير مستقرة.. ويشير مكتب تعدادالولايات المتحدة، إلى أنه قبل الركود في 2008كان متوسط دخل الأسرة السوداء " متوسطة الدخل " يعادل 64% فقط من دخل الأسرة البيضاء. كما تشير البيانات إلى أن الأمريكيين من أصل إفريقي أكثر العاطلين عن العمل مقارنة بالأعراق الأخرى. في السنوات التي سبقت الكساد العظيم في عام 2008على سبيل المثال، كان معدل البطالة بين السود حوالي 10%، أي أكثر من ضعف ما كان عليه بالنسبة للبيض.
وفي الختام، تشرح براداران أن الهدف من الكتاب ليس توفير حلول للفجوة في الثروة العرقية، وإنما لتوثيق كيف أن الجهود السابقة قد اختفت، حتى تفاقمت المشكلة. وبدون حلول سياسية جريئة، لن تسد الجهود المبذولة فجوة الثروة العرقية. في المقابل،يروج كثير من المصرفيين وأصحاب السياسة المركزية للحلول المالية وغيرها من التعديلات حول الهوامش، ولكنها تتجاهل الحقائق، ولن توفر سبلا ملموسة لسد فجوة الثروة العرقية.
هذاالكتاب هو سرد تاريخي حول عدم المساواة في الثروة في سياق التمييز العنصري، لكنه يحتوي أيضًا على مواد غنية حول مواضيع أخرى، تتمثل حول الاقتصاد السياسي للمؤسسات المالية، ودور سياسة الملكيات في تكرار عدم المساواة. يستحق كتاب "لون النقود" أن يكون في مكتبة أي شخص يتعامل أو يفكر بجدية في قضية التمييز العنصري.
ويعطي الكتاب آفاقا بحثية؛ عبر توسيع دائرة المناقشة في تفاوت عدم المساوة لتشمل دولا أخرى، خاصة تلك التي تتميز بالتنوع العرقي، لتعطي إضافة مهمة في علم الاقتصاد. وإضافة إلى ذلك، لاقى الكتاب إشادة من النقاد والقراء ونال استحسانهم.
------------------
- الكتاب: "لون النقود: البنوك السوداء وفجوة الثروة العرقية".
المؤلف: مهرسا بارداران.
- الناشر: Harvard University Press، 2019، بالإنجليزية.
- عدد الصفحات:348صفحة.
