معنى الحياة.. محاورات حول جوهر وجودنا

9789045039329-1.jpg

فوكه أوبيما

سعيد الجريري*

هناك إجابات مقترحة، عبر التاريخ، عن السؤال الأنطولوجي العابر للثقافات، عن معنى الحياة ومغزى الوجود. ذلك السؤال الذي لا اتفاق إجماعياً على إجابته، إذ تتعدد الإجابات دائماً والسؤال واحد، سواء في القطعيات الدينية أو المقاربات الفلسفية والفكرية، وما يتعداها إلى المحاولات الفردية البسيطة، كتطوير الذات وإسعادها، أو خدمة الآخرين، والمساهمة الإيجابية إجتماعياً، أو المكانة والنجاح، إلى آخر ما ينفتح عليه السؤال من آفاق الإجابات المتجددة. لكن هذا الكتاب يهيئ مناخاً، في سياق البحث عن ذلك المعنى، لنقطة انطلاق لتسمية الأشياء ذات الأهمية الاستثنائية في الحياة، بطريقة جديدة.

الصحفي الهولندي فوكه أوبيما الذي أصيب بسكتة قلبية قبل عامين، مات على إثرها مؤقتاً، ثم عاد إلى الحياة، بعد إسعافه في غرفة العناية المركزة، يعاين في كتابه "مغزى الحياة" هذا السؤال، من واقع تجربته مع فقدان الإحساس بالسيطرة على وجوده، من خلال التحديد الدقيق الذي يمنح نظرة ثاقبة إلى ما هو مهم، وأولويات الناس. ولأهمية الكتاب وجدليته، وحيوية موضوعه لدى المتلقي الهولندي، فقد صدر في سبع طبعات متوالية في مدة قصيرة جداً (سبتمبر - ديسمبر 2019)، محققاً بذلك صدارة لافتة في أكثر الكتب مبيعاً، رشحته لنيل جائزة Tegel، وهي أعلى جائزة صحفية في مجاله.

محتوى الكتاب أربعون محاورة، بعدد ساعات غيبوبة الموت التي قضاها المؤلف في العناية المركزة، كان قد نشرها في صحيفة فولكس كرانت، بين سبتمبر 2018 ويوليو 2019، وأثارت ردود فعل كثيرة من جمهور قراء الصحيفة الواسعة الانتشار في هولندا. وقد عقّب المؤلف على تلك المحاورات في خاتمة الكتاب التحليلية برؤى مستخلصة منها.

ويدير أوبيما محاوراته المعمقة عن مغزى الحياة، مع أربعين شخصية مختارة من حقول معرفية وثقافية ومهنية مختلفة، فثمة الفيلسوف، القس، الطبيب، النفساني، عالم الكيمياء والأحياء، عالم البيولوجيا، عالم الفيزياء الفلكية، عالم الاجتماع، الفلكي، الأستاذ، الشاعر، الكاتب، الفنان، المؤلف، المخرج، الممثل، العازف، المستشار، تقني المعلومات، المحامي، الوسيط العقاري، مدير التخطيط، متسلق الجبال، وخبير الطيور... إلخ. وبقدر اختلاف حقولهم المعرفية والثقافية والاجتماعية، فإن هناك اتفاقا بينهم، من حيث أن لا أحد يمتلك الجواب النهائي على السؤال، إذ يغدو طرح السؤال هو الإجابة، مما جعل المؤلف المحاوِر أكثر انفتاحاً واهتماماً بالأفكار التي لا تمثل إجابات نهائية، ويفتح التفكير فيها أفقاً على عينة ملونة من تجارب الحياة.

ولئن نأسف لعدم وجود إجابة نهائية، لنجدنَّ مجالاً لحرية تجعل للوجود مغزى. إنه شكل من أشكال البحث اللا نهائي، ولكنه ليس عديم الجدوى، فهو يساعد على الأقل - يقول أوبيما - على التمييز وفهم القضايا الأساسية.

لقد تغيّا المؤلف استكشاف أوسع مجموعة ممكنة من وجهات النظر، فتبين له أن محاوريه ينتظمون في فئتين رئيستين: الأشخاص الذين بحثوا عن جوهر الوجود من تلقاء أنفسهم وغالبا منذ الطفولة، ومعظمهم من الفلاسفة، والكتاب، وذوي الخلفيات الدينية، والأشخاص الذين تعرضوا لمواقف قاسية، فاضطروا إلى مواجهة السؤال، بجدية، للمرة الأولى. ذلك السؤال الذي يحفز، بقدرما أرّق أوبيما على نحو فجائي، على تعلُّم أن نعيش مرة أخرى، كما لو كان علينا أن نتعلم المشي مرة أخرى. فالوجود لم يعد بديهيًا، بعد ما حدث له، فقد أصبح كل شيء خاصًا، وليس أقله حقيقة أنه مازال موجوداً، فانهيار قلبه لفترة من الوقت عطل وجوده، وأثار أسئلة الحياة والإنسان وجوهرهما.

وفي نهاية الكتاب، يبسط المؤلف تأملاته في طبيعة المحاورات الأربعين، محللاً، في سياق بحثه، المؤتلف والمختلف بين محاوريه النموذجيين، مستنبطاً عدداً من الأفكار الجوهرية، لخصها في سبع رؤى جوهرية من قبيل: الضعف باعتباره جوهراً وأهمية الاتصال - المرونة جنباً إلى جنب الشعور بالامتنان -الحياة كمدرسة للتعلم- الاعتراف بحدود العلوم وتقدير التقاليد الدينية -الأمل في التقدم في مسار وعي اخلاقي أكبر- فائدة الموت والبحث عن الجوهر -ما يعنيه اللامعنى من معنى.

فالنجاح والمكانة -يؤكد أوبيما- قيمتان اجتماعيتان أساسيتان تؤكدان رغبتنا في البقاء، ونحمي من خلالهما مواطن ضعفنا، بينما يقتضي الاتصال والانفتاح إظهار الضعف الذي يتطلب الثقة بالآخر. فالضعف بقدرما هو حماقة على حد وصف أحد المحاورين، إلا أنه أيضًا شرط لكل شيء جميل وقيم في هذه الحياة.

وبصرف النظر عما إذا كان المحاور متدينًا أو ملحدًا، ذكرًا أو أنثى، كبيرًا أو شابًا، فقد أكد الجميع تقريبًا أهمية الاتصال في الحياة اليومية، وهي واسعة النطاق، كما يؤكد أوبيما: يمكن أن يكون الاتصال مع الطبيعة أو الموسيقى أو كتاب جميل. يمكنك أيضًا أن تشعر بأنك متصل بمفردك. إنه شيء متآلف للغاية، نعرفه جميعًا عن الحزن ولكن الفرح أيضًا. فالقدرة على المشاركة أمر ضروري، وهو ما يحدد ما إذا كنا سعداء.

وينوّه المؤلف بمرونة الأشخاص الذين تعرضوا لخسائر كبيرة، غيّرت نظرتهم بحيث أصبحوا باحثين عن معنى، أو يرغبون في إعطاء وجودهم معنى ما بطريقة أو بأخرى. وإذ قارن حالته بحالات بعض من حاورهم، بدا له أن السكتة القلبية أشبه بالمشي في الحديقة، فهو لم يعانِ من أي ضرر جسدي مثلهم، ما جعله يدرك أن المرونة والامتنان للحياة، قد سارتا جنبًا إلى جنب. ولقد أدرك أن الأشياء الصغيرة في الحياة مهمة، ما عزز لديه أهمية أن تشعر بالامتنان لما لديك، فهذا الشعور يجعلك والآخرين من حولك أكثر سعادة. فالأشخاص الذين يعبرون عن امتنانهم (العام أو الخاص) بشكل منتظم هم أكثر سعادة. ذلك أن للامتنان آثاراً إيجابية عديدة. فهو، على سبيل المثال، يزيد من شعورك باحترام الذات، والثقة بالنفس، ويجعلك أقل مادية.

ومما استوقف المؤلف، مثلاً، إشارة أحد محاوريه ذي الخلفية الهندوسية "كن إنسانًا"، فالحياة هي عملية تعليمية مستمرة تهدف إلى اكتشاف معناها. أنت لست بشرًا بعد، فعليك أن تصبحه وأن تتحول إلى فرد يفكر بنفسه، ويحدد أخلاقياته، وقبل كل شيء، يختبر نفسه... والقصد من ذلك هو أن تكون روحك قادرة على الاستمرار في طريقها الروحي. ففي الرؤية الهندوسية تؤدي المعرفة بالنفس المكتسبة بهذه الطريقة، إلى "الاتحاد مع الإلهي"، وليست الحكمة نظرة ثاقبة في لحظة واحدة، ولكنها شيء يجب عليك الوصول إليه من خلال الممارسة، ويمكن القيام بذلك بعدة طرق، منها التأمل على سبيل المثال.

ويكتشف المؤلف مع أحد محاوريه، وهو طبيب أصيب بسرطان البروستاتا لمدة ستة عشر عاماً، تعلم كيفية مواجهة المرض كل يوم، وما يؤدي إليه: تعلُّم أن ترى بشكل أفضل ما هو جوهر الحياة. أن تدرك ما تغافلت عنه عندما كنت بصحة جيدة، كجمال الطبيعة الذي لم يكن يراه قبل المرض.

وبالرغم من اتساع نطاق المنظور العلمي، بفضل التقدم الهائل الذي أحل العلم محل الدين، في الإجابة عن الأسئلة الوجودية القديمة، فإن هناك شكوكاً لما تزل حول إمكانية الإجابة العلمية النهائية عليها. ويتساءل: ألا نمنح العلم سلطة أكبر مما يجب؟ لعل من أكبر الإشكاليات في عصرنا أن الإيمان بالعلم صار مطلقاً للغاية. لا ريب أنه من أجمل ما أنتجه الإنسان -يقول أوبيما- لكن يجب علينا أن نستمر في رؤية حدوده. لقد وضعناه بديلاً للدين، حيث لا مجال للإبدال. فالموت هذا العابر هو جوهر ضعف وجودنا الذي نوقش طويلاً، والقدر المشترك هو الذي يجعلنا "إخوة في الموت" بتعبير نيتشه، ما يجعل من الضرورة أن يتعلم هؤلاء الإخوة كيفية إبداء "المزيد من التعاطف والتضامن" في ما بينهم.

ومهما تتعدد الرؤى والتصورات الفلسفية والدينية لمعنى الحياة، فالإنسان هو الحياة المدفوعة بالسؤال للبحث عن المعنى. ذلك الشيء المبثوث طوال الحياة، في كل أنواع الأشياء الصغيرة. لكن ماذا لو كنا نعرف معنى الحياة؟ إن عدم المعرفة أمر جيد أيضًا، فهو المحفّز على الحياة، وعلى البحث عن المعنى المستحيل، لكن في غضون ذلك نتعلم كثيراً، وذلك هو تاريخ الإنسان.

لكن من الحقائق التي لا مماراة فيها أن لا أحد على الأرض يعرف حقًا الإجابة. قد يتظاهر بعض الناس، وربما يعرفون مزيداً، لكن لا أحد يعرف ذلك حقًا. لا يمكن تأمين الثقة بإجابة واحدة، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أننا تموت. وهذا هو السبب في وجود سؤال جوهري ومحوري حول معنى الحياة. لكن الحياة لا معنى لها. إنها تسير بطريقتها الخاصة. وما تم العثور عليه جوهريًا حولها تم وضعه من قبل الناس أنفسهم، وعادةً ما يكون مستمدًا من الكتب الدينية أو الأيديولوجيات، وهو ما لا يمكن أن يكون جوهريًا حقًا، ما دام الكثير من الناس لا يعيشون بتلك الكتب والأيديولوجيات، فعندما تكون الحياة غير منطقية بحد ذاتها، يستطيع أي شخص أن يصدر الحكم بنفسه. فثمة فرضية أن الناس، عادةً، لا يتفحّصون حياتهم بدقة، فكل منهم مشغول جدًا بالحياة نفسها. ما ينتج عنه، في كثير من الأحيان، مواجهات قاسية مع ما يسميه أوبيما بـ"جوهر الوجود"، عندما يحدث شيء دراماتيكي، كالسكتة القلبية التي تعرض لها بغتة.

لعلَّ ما يُميز هذا الكتاب هو أن كل محادثة من محادثاته الأربعين تستميلك بوجهة نظر صاحبها أو صاحبتها، حتى إذا قرأت المحادثة التالية، وجدتك في مهب استمالة أخرى، لأن لا أحد يعرف معنى الحياة، وإن يكونوا جميعاً، في الوقت نفسه، يعرفونه. فمعنى الحياة شخصي للغاية، موصول في النهاية بأهمية الارتباط والاتصال: بنفسك، بالطبيعة، بالآخرين، بقوة أعلى. أي بتوسيع شبكة الاتصال، على غرار الإنترنت كمثل تقريبي، لإعطاء أكبر قدر ممكن من الأهمية لحياتنا من خلال الاتصال بالآخرين، الثقافة، الأشياء وغيرها. وكلما كانت الشبكة أكبر، شعرنا بأن أو كأن لحياتنا معنى. لكن هل هذا هو معنى الحياة نفسه؟ لا إجابة نهائية. فحياة كل منا هي معنى بحد ذاته للحياة، بحيث يمكن القول إن معنى الحياة متعدد بعدد الأشخاص، في هذا العالم المترع بالمعاني التي تتمثل في الآخرين الذين يتجلى وجودنا، ويتطورالإحساس به، بالارتباط بهم.

-----------------------

- الكتاب: معنى الحياة.

- المؤلف: فوكه أوبيما.

- الناشر: Atlas contact، أمستردام، 2019، بالهولندية.

- عدد الصفحات: 377 صفحة.

* باحث زائر في معهد هيجنز للتاريخ الهولندي

أخبار ذات صلة