ناصر الحارثي
يسعى الكاتب خالد بلانكشب في مقاله المعنون بـ "المفاهيم المتشابهة للحرب والسلام بين العرب والغرب" إلى دراسة منطلقات الحرب وضوابطها في الإسلام وفي المسيحية عند الغرب، مبيناً أن حجم التناقض الشديد في الطرح الغربي عند ذكر أسباب الحرب عند الغرب وعند المُسلمين، من خلال الكيل بمكيالين متناقضين وخلق مجموعة من التبريرات لكافة الحروب الغربية مع مختلف الخصوم، وفي المقابل شيطنة كافة الحروب الإسلامية وارتباطها بالمقدس ووحشيتها المتجذرة على أسس دينية. ولقد عمد الكاتب إلى مقارنة الدوافع بين الغرب والإسلام؛ ليخلص إلى أن حروب الإسلام والغرب تنطلق من نفس الدوافع، مع تباين التعبيرات إلا أنَّ الإسلام كان أكثر إنسانية بحكم المُعطيات الزمنية وهذا ما سنقوم باستعراضه في هذا المقال.
إنَّ الصورة الأكثر بروزا في وسائل الإعلام الغربية حول الحرب في بلاد الإسلام هي صورة الحرب المقدسة، وهو ما يسمى بالجهاد والذي تسميه المنابر الإعلامية في الغرب "Jihadism" وتعني كافة الحركات العسكرية القتالية من منطلق إسلامي، في حين توصف الحروب التي يشنها الغرب بمسمى "الحروب العادلة"، والتي تطورت تعبيراتها لاحقاً باسم الحرية أو الديموقراطية، وهنا يشير الكاتب إلى النظرة المثالية للغرب حول حروبهم مقابل النظرة السوداوية للإسلام، ولقد وقع الكاتب في إشكالية ضبابية تحديد المنطلق لنقد الغرب، فتارة ينقد الغرب على أساس مسيحي وتارة على أساس أوروبي وأمريكي أي قومي، في حين أنه يدافع عن المُسلمين من منطلق الإسلام وتارة يبرر الهجوم من منطلق أنها قضايا متعلقة بشأن الدول وسياساتها، فتجده أحيانًا يرتكز على القاعدة الدينية أو الانطلاق من مسوغات ثيوقراطية، وفي أحيان أخرى الاحتكام للدوافع السياسية. وعلى الرغم من المغالطة المنطقية التي وقع فيها الكاتب إلا أنه استطاع أن يضع النقاط على الحروف في مسألة دوافع الحرب في الإسلام والمسيحية، مبينًا أن المسيحية مع اعتبارها أن الحرب شر، إلا أن أوغسطين وتوما الأكويني وهيوغرشيوش وضعا أسبابا للحرب تشابه إلى حد كبير الأسباب التي وضعها الإسلام، ومنها حق الحرب: أي أن الحرب لا تثار إلا لأجل تحقيق العدالة والنزاهة وهو ما يحاكي الآية الكريمة من سورة المائدة: " مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا "، وأيضًا النية الحسنة أو الهدف الحسن فلا تشن الحرب لمصلحة حاكم ما لأجل ترسيخ ثروته أو سلطته، وهو ما يناظره في الإسلام أن يكون القتال خالصًا لوجه الله وحده دون التفات لجاه أو مال. وكذلك يجب ألا تشن الحرب إلا مع إمام عادل وضد جهة باغية، كما أن المسلمين يرفضون قيام الحرب دون إذن من الحاكم، لأنه الأدرى بمصلحة بلده، ويرى غروشيوش جواز حرب الجماعة الخاصة عند الثورة أو وقوع الظلم، وهو ما يحاكي قتال الحاكم الظالم عند المسلمين، وكذلك ضرورة التكافؤ بين الطرفين في القتال مع تحريم الإسراف في القتل، وأهمية احتمال النجاح حتى لا تتعرض البلاد للدمار وهو ما حدث مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في صلح الحديبية والذي استمر لعامين. كما يتفق الإسلام مع الغرب أيضًا حول اعتبار خيار الحرب هو الحل الأخير، كما أن الإسلام جاء متسقاً مع مواثيق جنيف 1864، وهاغ 1899 و1907 حول مبدأ التمييز أو السلوك الصحيح في الحرب، من خلال عدم قتال المدنيين والضعفاء وكبار السن وكل من ليس له علاقة بالحرب، ولا يمكن استخدام مصطلح الضرر المتبادل لتبرير القتل، وكذلك اتفاق الإسلام مع الغرب على ضرورة إنهاء الحرب بطريقة عادلة وهو أن يتحقق السلام، ولو أن هذا المبدأ تم استغلاله كثيرًا لدى الطرفين بطريقة خاطئة، فعند المسلمين يجب ألا ينتهي القتال إلا بتحقيق النصر، وعند الغرب الأمريكي "استسلام الخصم دون شروط".
وفي الشطر الثاني يشرح الكاتب واقع الحروب شارحًا تسمية الحرب بين الذات والآخر عند الغرب، حيث لا يأنف الغرب من استخدام مصطلح الحرب العادلة في وصف حروب بلاده ومصطلح الحرب المقدسة في حروب المسلمين والتي ظهرت في الأدبيات الغربية في القرنين السادس والسابع عشر، وهو ما يُخالف الواقع بطبيعة الحال، إذ لازمت الدوافع الدينية للقتال عند الأوروبيين حتى في العصر الحديث وهو ما يعكسه تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق بوش بأن حربه على الإرهاب "حرب صليبية". ويشير التراث الإسلامي والمسيحي إلى أهمية تقليل الضرر في الحروب، وهو ما لا يتحقق عادة بسبب عدم مسؤولية المقاتلين وقيامهم بسياسات تدميرية كسياسة الأرض المحروقة، وفي خضم تأمل الكاتب لواقع الحروب مقارنة بالتنظير التقليدي في الإسلام والمسيحية فإنه يرى أن القتال في العصور القديمة أقل عنفًا من العصور الوسطى، والعصور الوسطى أقل وحشية وضررًا بالمدنيين من العصور الحديثة، وإذا ما تأملنا العصر الحديث نجد أن الحرب العالمية الأولى تسببت في قتل مدنيين يتجاوز عدد المقتولين من المحاربين، في حين أن الحرب العالمية الثانية تسببت في مقتل المدنيين بأرقام تصل إلى ضعف عدد الموتى من المقاتلين، وهو ما يشير إلى وحشية القتال بالأسلحة والأساليب الحديثة، كما أشار الكاتب بأن عمليات الإرغام أو الإكراه على اعتناق الدين مُحرمة في الأديان ولكنها تمارس في بعض الحروب ويتم تجنبها في بعضها الآخر في كلا الطرفين تبعاً لأهداف القتال ذاته. ولقد أوضح الكاتب في هذا السياق أن الحروب بمفهوم دار الإسلام ودار الكفر انتهت منذ زمن هشام بن عبد الملك الأموي عام 122 هجري ولم يتم إحياء هذه الحروب إلا في نيجيريا أواخر القرن الثامن عشر زمن عثمان بن فودي، دون إيضاح من الكاتب حول طبيعة الحروب في عدد من الدول الإسلامية في الأزمنة التي عقبت فترة حكم هشام بن عبد الملك.
إنَّ فهم طبيعة الحروب وأسبابها السياسية والدينية والاقتصادية هي من أهم القضايا المعاصرة، ولا يمكن أن نضعها في إطار تاريخي مغلق؛ لأنها تؤثر على واقعنا في عدة مستويات، فمن الأهمية بمكان دراسة التراث الإسلامي وشرعية الدولة وعلاقتها بالدين؛ حتى نستطيع قراءة التراث بالطريقة الأمثل دون الاحتكام إلى الانتماء والتوجهات الأيدولوجية، لذلك يرى الكاتب أن السياسات الحالية صارت تستعين بشعار الدفاع عن النفس لتسويغ حروبها ضد الآخر، في حين نجد أن الكثير من المسلمين لا زالوا متأثرين وبشكل كبير بمصطلح الفتوحات الإسلامية ودار الإسلام ودار الكفر بسبب غياب النظرة العلمية المحايدة للتاريخ.
وفي الختام فإنه لا يخفى على أحد تسويق الإعلام الأمريكي للحركات الجهادية باسم الدين في الشرق الأوسط، ولكن الحقائق كما يذكر أحد الاقتصاديين الصينيين بأن الولايات المتحدة الأمريكية شاركت خلال العقود الثلاثة الماضية في 13 حرباً وأنفقت فيها أكثر من 14 تريليون دولار، وهو ما يعكس التباين الدائم بين المبادئ والواقع في الحروب.
