أحمد المكتومي
تقع مدينة المنستير على الساحل الشرقي للبلاد التونسية وهي على خط عرض القيروان وتفصلها عنها قرابة 70 كم. قبل أن تشتهر هذه المدينة بكونها مسقط رأس الزعيم الحبيب بورقيبة فقد كانت ذات مكانة عظيمة في القرون الخمسة الأولى من الهجرة بوصفها مركز رباط وعبادة وقلعة من قلاع السنة المالكية. يطلعنا أستاذ الآثار الإسلامية رياض المرابط في مقالة في مجلة التفاهم والذي عنونة بـ (المنستير: مدينة الرباطات والزهاد في العصر الوسيط) على أهميّة المدن الإسلامية ومكانتها وثقل كيانها في المجتمعات الإسلامية وكيف أثرت هذه المدن في قلوب المرابطين والمجاهدين الإسلاميين.
في بداية الأمر يجب علينا أن نعرض ما ذهب إليه الأستاذ الإسباني ميقول دي ايبالزا في دراسة حول "منستير شرق الأندلس" من أنّ عبارة المنستير ليست اسم مكان بقدر ما هي اسم المؤسسة ذاتها التي انتشرت في المغرب الإسلامي انطلاقا من منستير إفريقية. وما عبارة رباط المنستير سوى تجميع إعلامي لمصطلحين يعنيان حقيقة واحدة في عصور مختلفة فالمنستير إلى القرن الحادي عشر ميلاي والرباط انطلاقا من القرن الحادي عشر. فمن وجهة نظر الأستاذ رياض في أنّ تسمية المنستير تأتي تحت اعتبارات أربعة وهي:
أولا: أنّ لفظ المنستير ليس عربيا. ثانيًا: أنّ تسمية المنستير لا يمكن أن تعبر عن المؤسسة الدفاعية، فلو كان الأمر كذلك لتحدثت النصوص عن منستيرات بعدد الحصون والرابطات التي انتشرت على كامل السواحل الإفريقية منذ القرن الثاني الهجري. ثالثا: أنّ تسمية منستير شرق الأندلس لا يمكن أن تكون حجة على ما ذهب إلية الأستاذ لأنّ العادة جرت أن تستعار أسماء المواقع للدلالة على أخرى من قبيل التيمن. رابعًا: أن الموقع يحمل اسم المنستير قبل إنشاء الرباط أصلا. يبدو أنّ موقع المنستير لم يكن خلاءً وقفرًا وإنّما وجدت به جماعة مسلمة منذ القرن الثاني للهجرة على الأقل فقد أبرزت حفريات قصر السيدة أم ملال قواعد لمسجد صغير يقع نصفه الغربي خارج أسس القصر وهو ما يؤكد وجود جالية مسلمة بالموقع قبل حلول هرثمة.
ما زال يذهب في ظن الكثيرين أنّ التاريخ الإفريقي يبدأ بحلول الأميرة الكنعانية عليسة وتأسيسها في أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد قرت حدشت أو المدينة الجديدة التي عرفت بصياغتها اللاتينية قرطاج، والحال أن التوسع الفينيقي وإقامة المستوطنات الكنعانية بهذه الربوع قد بدأ على الأقل منذ القرن الثاني عشر الميلادي، والأهم من ذلك أنّ هذه الربوع لم تكن قفرا لا من الناحية البشرية ولا من الناحية الحضارية. وبالنسبة لشبه جزيرة المنستير فإنّ أقدم شواهد الحضارة البشرية بها تعود إلى نحو ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد فهي تحتوي على الكهوف المنقورة والمستعملة كمدافن. أعطى الكنعانيون أو الفينيقيون للمنستير أقدم أسماءها المعروفة: روش بينا (رأس الزاوية)، وهو ذاته الاسم الذي صار روسيينا في المصادر اللاتينية. كان من المؤمل أن تتدارك المعطيات الأثرية النقص الواضح في المادة الإخبارية للنصوص القديمة إلا أننا لم نظفر سوى بشواهد متفرقة في مدينة المنستير.
يقول الدكتور حسين مؤنس في مقدمة كتابة المعنون بـ "رياض النفوس" أنّه إذا كانت المالكية هي العصب الأول للتاريخ الإفريقي فإنّ الرباط هي عصبها الثاني، ويختزل تاريخ المنستير بهذه المقولة أيّما اختزال ذلك أنّ ظهورها وتطورها قد ارتبطا بشكل واضح بتطور الجهاز الدفاعي الإفريقي ومن ثمّ الاستراتيجيات العسكرية لكل من الأغالية ثم الفاطميين كما ارتباطا بالمناخ السياسي والثقافي للأفريقيين.
الجدير بالذكر أن ظروف الخلافة إثر استقرار العرب ببلاد المغرب وظروف إفريقية نفسها لم تكن تسمح بالانطلاق في مشاريع كبيرة نظرا لانشغال الإدارة بهاجسين متزامنين وهما هاجس داخلي ويتمثل في انتفاضات المغاربة وشغب الجند وهاجس خارجي ويتمثل في الخطر البيزنطي من جهة البحر. وفي ظل هذه الظروف العصيبة استغل العرب في عهد الأمويين على الأقل الحصون البيزنطية الساحلية للمرابطة مثل قصر ينقة الذي كان عامرًا بالمرابطين في القرن الثاني الهجري ومع قيام الدولة العباسية تضاعف الخطر البيزنطي وخاصة بالنسبة للجناح الغربي من الدولة أكثر من السعي في التوسع، ذلك إذن هو الإطار الحقيقي لقدوم هرثمة واليا على إفريقية سنة 788م لدرء المخاطر الداخلية والخارجية. ولا يغيب عن أذهاننا أن ابن أعين هو الذي أشرف بنفسه على تنفيذ الحملة العسكرية لهارون الرشيد المتمثلة في إلغاء نظام الصوائف والشواتي وإنشاء ولاية الثغور. ولا بد لنا مجددا الأخذ بعين الاعتبار أهميّة التراث العتيق من التحصينات وهي أمور مطلوبة في خطوط الدفاع العباسيّة كما هو الحال في تأسيس قصر المنستير.
بقطع النظر عن عد الرباط بحد ذاته مدينة من حيث الفضاء المعماري الذي يضم مجتمعا ينحدر من عينات مختلفة مما قد يمثل مشروعًا مستقلا بذاته لتوسيع مفهوم المدينة العربية. فإننا نتساءل متى يمكن بالضبط الحديث عن مدينة أو مصر "المنستير" بالملامح الكلاسيكية المتعارفة والتي وضع ابن خلدون شروطها الاجتماعية من حيث هي موضوعة للعموم لا للخصوص؟ ومن حيث إنّها توفر بنفسها ضروراتها "الأمصار التي توفي أعمالها بضرورتها لا تعد من الأمصار"، وتعبر الأسواق عن أهمية المدينة حيث خصص ابن خلدون فصلا كاملا في "أن تفاضل الأمصار في المدن في كثرة الرفاه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة" وعلى هذا الأساس فالمدينة العربية قبل كل شيء فضاء اجتماعي مستقر وسكانه متعددو الوظائف والنشاطات ومنتجون للثروة. وكذلك الحال في المنستير التي ارتبطت بدرجة أولى بنشاط المرابطة الذي عرف ازدهارًا منقطع النظير في القرن الثالث الهجري وذلك لأسباب عديدة متنوعة غير العوامل العسكرية.
إنّ معرفتنا بالمدن الإسلامية رغم مئات الدراسات لازالت محدودة، وذلك لأنّ معظم الدراسات تناولت العواصم الكبرى ومراكز السيادة في الأقاليم بحيث ترسّخت في أذهاننا صور نمطية للمدينة العربية الإسلامية وتسليط الضوء على نماذج إضافية من الحواضر لا سيما تلك التي لا تستجيب للصورة النمطية التي تتراءى فيها المدينة كفضاء سلطة يختزلها المسجد الجامع ودار الإمارة أو ما يقوم مقامها في المركز الذي يحيطه حزام الأسواق ومن خلفه الأحياء التي تعكس كتلا اجتماعية بعينها سواء كانت عرقية أو قبلية أو طائفية.
