مذكرات الألماني شيلتبرجر والصربي ميخائيلوفتش

منال المعمرية

تناولت العديد من المصادر التاريخية الأحداثَ والعلاقات التاريخية بين أوروبا والمسلمين، وهي غالبًا ما كانت كتابات للنخب الكنسية والعلمانية، والتي على إثرها تبنى المجتمع الأوروبي رؤيته تجاه الإسلام والمسلمين، لتسكن في الوجدان والوعي الأوروبي حتى يومنا هذا، إلا أن ما رواه الأسيران يوهان شيلتبرجر وقسطنطين ميخائيلوفتش في مذكراتهما، يعد في غاية الأهمية؛ نظرا لما رصداه عن قرب من أجواء اجتماعية وثقافية ودينية، ولما رسماه من صورة مغايرة للإسلام والمسلمين عكست مشاعر الإنسان الأوروبي البسيط وغير المثقف، بعيدا عن التوجهات السلبية التي سعت إليها النخب. غير أن هذه المذكرات لم تسلم من بعض الخلط والمغالطات والأخبار الأسطورية التي سمعا عنها ولم يشهداها، وهي التي كشف عنها حاتم الطحاوي في مقاله "أوروبا والمسلمون: صورة الآخر"، والمنشور بمجلة "التفاهم".

ظلَّ الفتى الألماني يوهان شيلتبرجر أسيرا لدى العثمانيين قرابة ست سنوات؛ وذلك بعد واقعة نيقوبوليس الشهيرة في العام 1396م، التي واجه من خلالها السلطان العثماني بايزيد الأول الحملة الصليبية، محققا انتصارا مدويا على القوى الأوروبية آنذاك، ومخلفا آلافا من الأسرى والقتلى. إلا أنه انتقل بعد ذلك للخدمة في حاشية تيمورلنك، العاهل المغولي الذي ألحق هزيمة  مهينة بالسلطان بايزيد الأول في معركة أنقرة 1402م. مكث شيلتبرجر في خدمة المغول لعدة سنوات، إلى أن تمكن أخيرا من الهرب إلى وطنه في ألمانيا العام  1427م، وهناك أملى كتابه الذي أرخ فيه فترة الأسر الطويلة.

والجدير بالذكر أن مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، قد قام مؤخرا بترجمة مغامرات شيلتبرجر وأسفاره في المشرق العربي والإسلامي 1394-1427م، وحسب البيان الصادر عن دار النشر: "يمكن القول إن ما رواه مؤلفنا في مذكراته يُعدّ مصدرا تاريخيا أصيلا، لم يقتصر فيه على ذكر مجريات الأحداث السّياسية والحروب التي عاصرها وشهدها، بل تجاوزها إلى رصد العوائد الاجتماعيّة للشّعوب التي عاش في كنفها، فضلا عن طبائعها الثقافيّة والدّينيّة. وإن كان قد أصاب في أشياء، وأخطأ أو ارتكز على الأقاويل في أشياء أخرى، فهو يبقى مرجعا مفيدا في وصف أحوال ذلك العصر".

ويضيف حاتم الطحاوي بأن تجربة شيلتبرجر الفريدة مكنته من الاقتراب من المسلمين والدين الإسلامي وشعائره عن كثب، وهو ما جعله يخصص أكثر من عشرة فصول في هذا الصدد، وإن كان ذلك قد تم دون أن يسبر أغوار الدين الإسلامي بشكل موضوعي وعميق، وذلك بفضل ثقافته المسيحية التي لازمته طوال فترة الأسر، فضلا عن البيئة والمناخ الثقافي الذي عاش فيه بمعية الجنود العثمانيين والمغول.

أما الصربي قسطنطين ميخائيلوفتش ذو الأصل المتواضع، فقد كان أحد أفراد الدوشرمة الذين تم إلحاقهم بالانكشارية عام 1455م، إبان عهد السلطان الفاتح. فاشترك مع العثمانيين في حروبهم في البلقان، حتى نجح المجريون في أسره عام 1463م. وأقام صاحبنا في المجر فترة طويلة حتى وفاته عام 1501م. خلف لنا قسطنطين مصنفاً تاريخياً غاية في الأهمية يحوي ذكرياته عن فترة تجنيده في الانكشارية، كتبه باللغة الصربية، واعتمد فيه على مشاهداته، وما استمع اليه من أحاديث.

وعلى أية حال، كان من الطبيعي أن يتناول هذا المصنف الصربي الذي كتبه جندي الانكشارية السابق، الحديث عن تاريخ الدولة العثمانية ونظمها ومؤسساتها، منذ بدايتها وحتى عصر السلطان بايزيد الثاني. ومن الطبيعي أيضاً أن يبث المؤلف مشاعره السلبية تجاه العثمانيين في كتابه. غير أن الفصول الأولى من هذا العمل تناولت رؤيته للإسلام في شكل خلط بين المعلومات الزائفة والصحيحة، فقد اتخذ موقفاً سلبيًّا من الإسلام، في حين تحدث بحياد يحمد عليه عن المسلمين ومساجدهم، وكيفية تطهرهم وتصدقهم على الفقراء، والتزامهم بعدم شرب الخمر، وعدم أكل لحم الخنزير. ويمكننا أن نفسر الضبابية أو التشوه الذي لازم رؤيته عن الإسلام بأن ذلك كان سمة الكثير من المصادر البيزنطية والبلقانية واللاتينية التي توجست من الإسلام وهي تراقب الفتوحات والتوغلات العثمانية في أراضيها.

يتحدث قسطنطين ميخائيلوفتش بزيف عن الرسول -صلى الله عليه وسلّم- بصفته واضع القرآن الكريم، وأنه قام بتزويج اخته فاطمة إلى علي كرّم الله وجهه أقرب مساعديه؟ وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحظى بمكانة سامية في أعين تابعيه، على حين كان يقوم علي بتعذيب معارضي الدين الجديد؟! والمثير في الأمر أن قسطنطين يذكر أن عليًّا كان فارساً جسوراً، يمتلك سيفاً يدعى"ذو الفقار"، أطاح الكثير من رقاب معارضيه.

وتستمر الرواية الصربية المشوشة في ذكر أن رسول المسلمين -صلى الله عليه وسلّم- استمر في الدعوة لدينه حتى وفاته عن خمسة وأربعين عاماً؟! كما أنه أخبر أتباعه في خطبته الأخيرة أنه سينهض بعد مماته كما فعل المسيح؟! قبل أن يوصيهم بضرورة دفنه في المدينة. كما طلب منهم أن يطيعوا علياً من بعده؟! ثم يستمر في الحديث عن الحزن الشديد الذي ألمّ بعلي جراء وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلّم- وهو ما دعاه لأن يهيم على وجهه فوق أحد الجبال، قبل أن يقوم بتحطيم سيفه "ذو الفقار" فوق أحد الصخور. ولا يملك المرء سوى الاستغراب إزاء الدور الذي لعبه علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في تصور قسطنطين ميخائيلوفتش عن الإسلام، وإغفاله دور الخلفاء الثلاثة السابقين عليه، مع ملاحظة اعتناق العثمانيين الذين عاش بينهم لسنوات المذهب السنّي كما هو معروف. ويبدو أنه استمد روايته السابقة من أحد الذين يميلون الى المذهب الشيعي. ويمكننا أن نلحظ أن التشوش في رؤية ميخائيلوفتش عن ظهور الإسلام كان مرده اعتماده على الاستماع، فضلاً عن حقده على الإسلام نفسه، بينما جاءت رؤيته الأكثر إنصافاً عن المسلمين، من واقع مشاهداته وسط الأتراك العثمانيين. لهذا جاء الجزء الأخير من شهادته أكثر واقعية وغير متأثر بأية رؤى ضبابية كما حدث مع الجزء الأول منها.

بعد ذلك، يعتدل مصدرنا الصربي في رؤيته للإسلام والمسلمين، فيذكر أن عباءة الإسلام قد ضمت العرب والفرس والأتراك والتتار والبربر، وأن المسلمين يؤمنون بكتب موسى، لكنهم يلتزمون في النهاية بما يمليه عليهم كتابهم، القرآن، كما يؤمنون أيضاً بإله واحد، خالق للسموات والأرض.

اتفق الأسيران على معظم ما كتباه في مذكراتهما، ولكن لا يجب أن نغفل عما ردده الطحاوي أكثر من مرة في مقاله حول أن انطباعات الأسيرين ورؤيتهما لا يمكن أن تنفصل عن المناخ السياسي والعسكري وحالة العداء بين أوروبا والعثمانيين، كذلك لا يمكن أن تنفصل عن وطأة تجربة الأسر وإسقاطاتها.

يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن رؤية الأسيرين شيلتبرجر وميخائيلوفتش كانت منحازة ثقافيا ضد الرسول والمسلمين وضد مبادئ الإسلام وتوجهاته نحو المسيحيين. غير أن ما يُلفت النظر هو أنهما عرضا بأمانة وحياد موقف الإسلام من الدين المسيحي نفسه. ففي حين ذكر شيلتبرجر أن المسيحيين يؤمنون بميلاد المسيح من السيدة مريم العذراء، وأنه حدثها في المهد، فقد أشار ميخائيلوفتش إلى أنَّ السيد المسيح هو روح من عند الله. إضافة لموقفهم من صلب المسيح وغيرها من المسائل.

وبعيدا عن التركيز على القضايا التي استوجبت انحيازا ثقافيا من جانب الأسيرين -كمسألة بنية الدين الإسلامي ومبادئه، التي حضَّت على اضطهاد وقتال المسيحيين أينما وجدوا- فقد توقفا أمام المظاهر الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الإيجابية للسكان الذين عاشا في أوساطهم، ولم يستنكفا عن الحديث عنها بحياد تام، كعدم مغالاة التجار في الأسعار، وعن عتق العبيد، فضلا عن قيام الأثرياء بتوزيع الأموال والأضحيات على الفقراء من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، كما ذكرا غيرها الكثير من المواقف والأمثلة المشابهة، هذا إضافة للعدالة والتسامح الكبير الذي كان يعيشه المسيحيون في كنف العثمانيين.

... إنَّ رؤية الأسيرين عن الإسلام  كانت مغايرة في تفاصيلها عن رؤى النخب الأوروبية، فلم يهتما بطعن الإسلام كدين أو وصمه بالوثنية المطلقة كما فعلت الكتابات الكنسية. كما تناول الأسيران بحياد موقف الإسلام من الدين المسيحي وتبجيله لعيسى ومريم، غير أنهما أفاضا في اتهام الإسلام بالحض على اضطهاد وقتل المسيحيين من خلال الخطب والأدعية التي كانت تلقى في المساجد!

أخبار ذات صلة