الأمة الميمونة في العصر الحديث

سعيد الشعيلي

الإسلام هو آخر الأديان السماوية نزولا، وهو الدين الكامل القائم على المُعجزة الخالدة القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولما كان الإسلام هو آخر ما نزل من عند رب العباد، فمن الضرورة أن يكون صالحا لكل زمان ومكان. وينبغي أن يشمل هذا الدين على كل ما ينظم حياة الناس ويضمن صلاح دنياهم وآخرتهم. ولقد ظهر العديد من المفكرين المسلمين ممن درس كيفية إنشاء مجتمع مسلم فاضل متخذا من الهدي القرآني نبراسا يهتدي به في ما يدعو إليه، ومن هؤلاء أبو الحسن العامري الذي أطلق على المجتمع الذي ينشده "الأمة الميمونة" على غرار المدينة الأفلاطونية من خلال كتبه "الإعلام بمناقب الإسلام" و "السعادة والإسعاد". وقد تناولت الكاتبة منى أحمد أبوزيد العامريَّ بشيء من الدراسة في مقالها "مجتمع الخير والأمة الميمونة عند العامري".

العامري الذي كان ينشد إقامة دولة إسلامية تجمع بين الدين والسياسة، يرى أن مجتمع الخير يقوم على ثلاثة محاور:

  • مجتمع المعرفة
  • مجتمع الفضيلة
  • القوة الروحية والقدرة السياسية

يرى العامري أن المجتمع الفاضل يجب أن يقوم على المعرفة، لأن المعرفة مرتبطة بالفضيلة، وهي دعوة دينية كما نصت عليها الكثير من الآيات والأحاديث القرآنية. وتنقسم العلوم التي يحصلها الفرد إلى قسمين: علوم عقلية وعلوم نقلية. فالعلوم العقلية تضم علم الإلهيات وعلم المنطق. أما العلوم الدينية فتضم علم الكلام وعلم الحديث وعلم اللغة. ومن الغريب أن العامري عاش في عصر هوجمت فيه العلوم العقلية وعلوم الفلسفة، لأن مصدرها وثني بزعم الرافضين أما العامري فيقول" إن من استخف بالحكمة-المعرفة- فقد أهلك دينه. وإن المعرفة تطلب لذاتها. ومن هنا حرص العامري على توثيق العلاقة الوثيقة بين العلم والعمل وبين النظرية والتطبيق ويقسم العامري الأعمال النافعة إلى ثلاثة أقسام:

  • أعمال خاصة بالإنسان وحده مثل الجانب الأخلاقي.
  • أعمال تفيد الإنسان بكونه عضوًا في مجتمع.
  • أعمال تفيد الإنسان بكونه عضوا في جماعة.

والفرق بين كونه عضوا في مجتمع أو عضوا في جماعة، أنَّ الأول يقصد به مجتمع الفرد الصغير –الأسرة- والثاني أعمال تفيد المدينة ونظام الحكم والسياسة. ومن الغريب جدا أن النقاش والصراع الذي خاضه العامري من أجل إثبات أهمية الفلسفة وفائدتها في بناء مجتمع مدني قائم على إعمال العقل لا زالت قائمة إلى العصر الحديث، ولا زال الصراع والمفاضلة بين العلوم الدينية وغيرها قائم إلى يومنا هذا. ولعل من أسباب تأخر المجتمعات المسلمة أنها ولليوم لم تستطع أن تعي أهمية العلوم العقلية وأن كل علم يتعلمه الإنسان هو عبادة تقربه إلى رب العباد.

المحور الثاني الذي تناوله المقال هو محور الفضيلة، فالعامري يرى أن الفضيلة هي توسط بين رذيلتين، ولعل هذا مما أخذه العامري من فلسفة أرسطو. يكتسب الإنسان الفضائل عن طريق التعليم ثم تصبح فيما بعد عادة يكتسبها مع طول التكرار. ولما كان اكتساب الفضائل عن طريق التعليم يرى العامري أن لا بد من وجود مُربٍ للصغار، ولا بد أيضًا من سائس للناس لإجبارهم على التمسك بالفضيلة وهذه هي إحدى واجبات الحاكم. "فالواجب على كل إنسان أن يلتزم بالتعليم لمن هو دونه، والتعلم ممن هو فوقه". وللفضيلة فوائد جمة على المجتمع، فهي تحقق للفرد كماله الأخلاقي وتحقق لمجتمعه علاقات سليمة بين أفراده كعلاقة الرجل مع زوجته والوالد مع أوالده والمالك مع أملاكه والملك مع رعيته.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أما المحور الأخير القوة الروحية والقدرة السياسية فقد نادى العامري بأهمية وجود الدين لصلاح المجتمع وخيره. فقد انتشرت في القرنين الثالث والرابع الهجريين موجة طاغية من الإلحاد بلغت ذروتها على يد أبي الحسين الراوندي، وأبي بكر الرازي. نادى خلالها الملحدون بكفاية العقل وألا حاجة للدين وأن الدين ما هو إلا مجموعة من الأوضاع الاجتماعية ولذلك تختلف من مجتمع لآخر ويكفي ما اتفقت عليه من مبادئ كالصدق والعدل وأداء الأمانة وغيرها لخلق حياة كريمة للناس. وقد فند العامري هذه الحجج واصفاً من يتبعهم أنه رجل أسس اعتقاده على أساس غير عقلي متين أو رجل يؤثر اللذات العاجلة في هذه الحياة. ويرى العامري أن الله تعالى خص الإنسان دون بقية مخلوقاته بخير خاص به متمثل في الشرائع والأديان. ثم تناول العامري السياسة وأسس اختيار الحاكم الفاضل فهو رأس الدولة إن صلح صلحت دولته. ثم تناول نظام الحكم وعلاقة الحاكم برعيته من مسلمين وغير مسلمين. ثم أفرد العامري جزءا للحديث عن الدعوة إلى الإسلام وكيفية نشره باليد أو باللسان. أم اليد فهي الجهاد وأما اللسان فيشمل الدعوة للدين باستخدام الحجج والبراهين، وهذا من فوائد علم الكلام حسب ما يرى العامري، فبه يحاور غير المسلم والمسلم أيضاً إن داخله الشك في دينه. ومن العجيب أن العامري يرى ألا ضرورة لاستخدام القوة في الدعوة إلى الدين إلا بعد التبليغ والإنذار.

كل ما دعا له العامري من أجل خلق أمة ميمونة لا زال يمكن استخدامه في تحليل حال الأمة الإسلامية حتى اليوم، وما أشبه الليلة بالبارحة، حتى لكأن الزمن يعيد نفسه، فالأمة العربية اليوم تعيش نكسة في أخلاقها، وفي دينها وفي معارفها. إن ما ينقص المسلمين ليس التنظير في الكتب، فقد كتب الكثير منهم عن الأمة الفاضلة كالمارودي وابن خلدون وغيرهم، لكن ما ينقصنا العودة الحقيقية لروح الدين الإسلامي، وأن ندرك ألا مجال لفصل العبادة عن العمل، وأن يفهم الناس مفهوم العبادة الحقيقي. فاكتساب المعرفة وإعمار الدنيا والتطور في العلوم الحديثة من صميم الدين ومما يدعو إليه الدين الحنيف.

أخبار ذات صلة