أسرار القرآن الكريم في الأحرف المقطعة

سعيد الشعيلي

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أنزلها الله على نبيه محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، المرسل إلى العالمين كافة مع امتداد الزمان والمكان، وللقرآن أسرار لا زالت تتجلى للناس حتى يومنا هذا ولا زال تفسيره يتجدد يوما عن يوم؛ فعلى مدى أربعة عشر قرنا لم يتوقف المفسرون عن التفسير ولم تنته أسرار القرآن الكريم. ومن هذه الأسرار حسب ما كتب عنها الكاتب عبد المالك أشهبون "فواتح السور في القرآن الكريم (الوظائف والرهانات الفنية)" وفواتح كل شيء هي بدايته؛ وفواتح السور بداياتها، وتتعدد الفواتح ما بين البسملة والحروف المقطعة التي تبتدئ بها بعض السور مثل ألم، ألر، كهيعص. هذا الخطاب الافتتاحي في القرآن الكريم -حسب ما يرى عبد المالك- يمكن دراسته في ثلاث صور مختلفة: خطاب البسملة "بسم الله الرحمن الرحيم"، فواتح السور التي ترد على هيئة أحرف مقطعة، وتنوع الوضعيات الافتتاحية في قصص القرآن الكريم.

 

أولا: البسملة أو فاتحة الفواتح

تشكل عبارة "بِسْم الله الرحمن الرحيم" أول مقطع تفتتح به سُوَر القرآن الكريم ما عدا سورة التوبة، وهذه العبارة ذات طابع سحري له دلالته على المستوى الديني والتواصلي، فقلما تجد خطابا عند المسلمين لا يبتدئ بالبسملة، تطبيقا لقول الرسول الكريم "كل أمر ذي بال لا يُبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" أي ناقص البركة. وقد جاءت البسملة بديلا عمّا كان يبتدئ به العرب من تسمية باسم آلهتهم كعبد اللات وَعَبد العزى. وعندما أرسل الرسول الكريم رسائله إلى الملوك لدعوتهم إلى الإسلام ابتدأها ببسم الله الرحمن الرحيم مع أنّها كانت موجهة إلى الكفار. قد وقع الاختلاف في البسملة هل هي آية بحد ذاتها أم هي آية بما بعدها. ومما يروى عن أم سلمة أنّها قالت " قرأ رسول الله الفاتحة وعد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية. وقد أسهب المفسرون في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم حتى أنّ بعضهم بالغ في ذلك؛ فالنسفي يقول في تفسيره "معاني كل الكتب مجموعة في القرآن، ومعاني القرآن مجموعة في الفاتحة، ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة، ومعاني البسملة في بائها، ومعنى الباء في نقطتها ومعناها: بي كان وما كان وبي يكون وما يكون". وربما يكون هذا التفسير مبالغا فيه فقد جاءت آيات أخرى لتعبر عنه مثل كن فيكون.

ثانيا: بدايات السور على شاكلة أحرف

لم يكن خطباء العرب قديما يبتدئون أشعارهم بحروف موحدة ولا حتى خطبهم التي كانوا يتباهون بها، فلم نسمع بخطبة ابتدأت بحرف الباء فقط أو أي حرف ثم تبعها ما بعدها، لكن وجد في القرآن الكريم الكثير من السور التي ابتدأت بأحرف موحدة، ولم تخل بالمعنى. ولا زال موضوع هذه الأحرف سرا من الأسرار البلاغية للقرآن الكريم، فكل التفسيرات التي فسرت وجود هذه الأحرف تبقى غير قطعية. وقد تنوعت هذه المطالع ما بين حرف واحد فقط مثل: صاد، قاف، نون وما بيان أحرف متعددة مثل كهيعص. ولقد تعددت وجهات النظر بخصوص دلالات هذه الأحرف وقد تناولها الكاتب في ثلاث نقاط:

  1. الفواتح سر من أسرار الله تعالى.
  2. تأملات غامضة في فحوى الحروف الهجائية.
  3. وجهات النظر الاستشراقيّة في الموضوع

ففي الجانب الأول يرى بعض العلماء أنّ هذه الفواتح هي سر من أسرار الله تعالى، وأنّ هذا السر لا يمكن الوصول إليه مثلما يقول مالك بن نبي: "لقد حاول معظم المفسرين أن يصلوا من موضوع الآيات المغلقة إلى تفاسير مختلفة مبهمة، أقل أو أكثر استلهاما للقيمة السحرية التي تخص بها الشعوب البدائية الكواكب، والأرقام والحروف ولكن أكثر المفسرين تعقلا وأكثرهم اعتدالا هم الذين يقولون في حالة كهذه، بكل تواضع الله أعلم". أمّا النقطة الثانية فيتناولها الكاتب من خلال تأويلات بعض العلماء والمتصوفة الذين يرونها علم كل شيء؛ مثلما قال الحلاج: "علم كل شيء في القرآن، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور، وعلم الأحرف في لام ألف وعلم لام ألف في ألف وعلم الألف في النقطة". لكن يظل هذا القول بنفسه غير مفهوم تمامًا فهو لم يقدم تفسيرًا منطقيا كيف اختزل العلم في هذه الصورة، إلا إذا قصد الحلاج أنّ العلم إنّما هو شيء يكتب والكتابة من أحرف والأحرف من نقاط وهذا يحيلنا إلى سؤال آخر: لم ابتدأت السور بهذه الحروف دون غيرها؟ لندخل في دائرة أخرى من الأسئلة والبحث.

أمّا النقطة الأخيرة فيتناول فيها الكاتب بعض وجهات النظر الاستشراقية التي ترى أن بعض فواتح السور تشبه بعض ما وجد في الكنائس المسيحية بأوروبا التي لاتزال تحتفظ بتقاليد الغناء الغروري يحيث يبدأ المرتلون ببعض المقاطع الصوتية مثل A O I)) والكاتب يرى أنّ مثل هذه الحروف كشارات أو بيانات لما بعدها مثلما أنّ البدايات الموسيقية التي تتكون من أحرف إنما هي لتوجيه المغني أو المرتل إلى الصوت المقصود. وبالنسبة لي، أرى أن مثل هذا التفسير إنما هو محاولة لإقحام تفسير الحروف في حقل قد يكون بعيدًا عنه. وتظل هذه الحروف على مدى أربعة عشر قرنا سرًا قرآنيا خالصا كلما أوغل المفسرون في تفسيره زادوا تيها وغرقوا في بحور أسراره. لكن ثمة تساؤل لا زال من الممكن طرحه، إذا كانت هذه المطالع لم تكن موجودة في لغة العرب، لمَ لم يعترض خطباء العرب وبلاغاؤهم على النبي محمد وهم الذين وقفوا له بالمرصاد؟ لمَ لم تكن هذه النقطة مصدر طعن في نبوة محمد أو في معجزته الخالدة، والعرب أدرى بلغتها؟ هذا التساؤل يزيدنا غموضا في تفسير هذه الحروف، فهذا يدل على أنّ العرب بنفسها وقفت حائرة أمام معجزة البلاغة القرآنية، وهي التي كانت تقيم المواسم من أجل سماع جديد خطبائها وشعرائها.

أخبار ذات صلة