سعيد الشعيلي
يتناول عبد الجليل سالم في مقاله "ابن خلدون وعلم الكلام: بعض القضايا"، كيف تناول ابن خلدون علم الكلام والقضايا التي تطرق لها، حيث ترك ابن خلدون أربعة آثار تناولت علم الكلام: لباب المحصل، المقدمة، شفاء السائل في تهذيب المسائل، وعقيدة الحق. ولعل أشهر هذه الكتب جميعها هو المُقدِّمة، وقد تعرَّض فيها ابن خلدون لعلم الكلام في أكثر من فصل لعل أبرزها فصل في علم الكلام، وقد تعرَّض فيه لتعريف العلم وموضوعاته، وتكلم عن مسائل الإيمان وأطوار العلم، مثلما تكلم في فصل آخر عن أطوار مدرسة الاعتزال من خلال أعلامها إلى حدود القرن الرابع الهجري. والمعتزلة هو مذهب إسلامي اشتهر أفراده ببراعتهم في علم الكلام . أما الأثر الثاني فهو كتاب لباب المحصل وهو كتاب لخص كتاب الرازي (كتاب محصل أفكار المُتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين) وقد قسمه ابن خلدون إلى أربعة أركان تناول في الركن الأول المُقدمات من بديهيات ونظر ودليل، وفي الثاني عرض مسائل الوجود، وفي الثالث تعرض لبعض المسائل الكلامية التي تدور حول الذات الإلهية، أما الرابع فقد ناقش فيه مسائل النبوة والإمامة والآخرة، وهذا الكتاب من الكُتب المبكرة لابن خلدون لكنه يكشف عن اهتمام ابن خلدون المبكر بعلم الكلام. أما كتاب عقيدة الحق فهو من الكتب المفقودة لابن خلدون وتمت الإشارة إليه في بعض مؤلفات المغرب الأقصى.
يتحدث بعدها الكاتب عن ابن خلدون بوصفه مؤرخاً لعلم الكلام ولعل من الأفضل هنا تناول تعريف علم الكلام على رأي ابن خلدون "وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب أهل السلف وأهل السنة." ومن أسباب نشأة علم الكلام هو أن العقائد قررها النص القرآني لكن حدث خلاف في تأويلها؛ فدعا هذا الخصام إلى حدوث التلاسن والتجادل بالعقل زيادة إلى النقل ليثبت كل طرف حجته ومن هنا يرى ابن خلدون أن واحداً من أسباب نشأة علم الكلام هو القرآن نفسه. لقد أرخ ابن خلدون لعلم الكلام في المقدمة في فصلين اثنين: فصل علم الكلام، وفصل كشف الغطاء، مبتدأ بالحديث عن علم الكلام منذ النشأة إلى ظهور الأشعرية الذين لا يتعاطف معهم ابن خلدون كثيراً لكنه ينزلهم مكانتهم التي يستحقونها. بعد ذلك ينتقل إلى التأسيس النظري وهي الفترة التي مثلها الباقلاني الذي أقر أهم قاعدة في علم الكلام عند ابن خلدون "بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" وبعدها مرحلة الإمام الجويني. تأتي بعد ذلك مرحلة الاقتباس من العلوم الفلسفية (المنطق- الطبيعيات-الإلهيات) وأبرز من مَثَّل هذه المرحلة الغزالي وابن الخطيب الرازي. أما المرحلة النهائية فهي اختلاط علم الكلام بالفلسفة وهي مرحلة اختلاط العلمين إلى حد الاعتقاد بأنهما علم واحد وربما يعود السبب في ذلك بسبب اشتراكها في المباحث وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الميتافيزقيا.
إنّ أهم ما يميز ابن خلدون عند تناوله علم الكلام في مباحثه التاريخية هو تمييزه بين طرق المتقدمين والمتأخرين. في الفصل الأخير من المقال يتحدث الكاتب عن الجانب النقدي عند ابن خلدون الذي يرى عدم الخلط بين علم الكلام وعلم الفلسفة، " والحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل، وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال، وصار احتجاج أهل الكلام كأنّه إنشاء لطلب الاعتقاد بالدليل، وليس كذلك " .إن خلاصة آراء ابن خلدون في علم الكلام حسب ما يرى بعض الباحثين في مقال آخر يمكن اختصارها في النقاط التالية :
أولاً: يصدر ابن خلدون عن موقف السلف فى إثبات العقائد الإيمانية ، والإقرار بها كما بينه القرآن الكريم .
ثانيًا: بعد أن يعرض موضوع التوحيد الذي هو أساس العقائد الإيمانية وجوهرها، بالاعتماد على الأدلة العقلية التي تشبه أدلة المتكلمين، يتجاوز هذا المستوى إلى الدعوة إلى أن يعيش المؤمن هذا التوحيد في تجربة دينية متكاملة، بحيث تصدر عنها كل أقواله وأفعاله.
ثالثًا: يؤكد ابن خلدون قيمة العقل، ويذكر أنه ميزان صحيح، وأحكامه يقينية لا كذب فيها، لكنه لا يصلح للحكم أو حتى للخوض فى المسائل الإلهية التي تتجاوز قدراته. وهو يشبه العقل بميزان الذهب الدقيق الذي لا يصلح لوزن الجبال.
ومع ذلك يظل ابن خلدون عالماً كبيرًا له الفضل في توثيق علم الكلام من الناحية التاريخية وقدم نقداً لهذا العلم الذي اشتهر كثيرًا في بعض عصور العالم الإسلامي وارتبط اسمه كثيرا بالمعتزلة. وحسبما يرى الكاتب فإنّ هناك الكثير مما يمكن تقديمه في التراث الخلدوني لعلم الكلام، ولا يقتصر هذا على المقدمة فقط؛ فلا زال هناك كتاب مفقود حتى الآن وهو عقيدة الحق. وبالنسبة لي كقارئ لهذا المقال أستطيع القول إنّ المقال الذي كتبه الكاتب عبد الجليل سالم عن ابن خلدون وعن بعض القضايا التاريخية هو مقال شيق لا يخلو من التعقيد في ذات الوقت، لكن من المقال نستطيع الخروج بنظرة عامة عن علم الكلام وكيف بدأ ابن خلدون بالتوثيق لهذا العلم، وتناول ابن خلدون علم الكلام بالنقد، ولعل من المهم للشباب الناشئ اليوم أن يلقي نظرة على هذا التراث خصوصاً وأن هذا العصر هو عصر الفلسفة والعلم ومحاجة الحجة بالحجة. إن الاطلاع على مثل هذا التراث يساعد الشباب على فهم أعمق لقضايا الدين والمسائل التي تم الاختلاف فيها وكيف تمّ النقاش فيها بإحضار أدلة عقلية مبهرة. إن انتشار موضة الإلحاد في العالم العربي اليوم لربما يكون سببه تقديم أدلة نقلية لا تقنع دائمًا. ولربما يدور في ذهن شاب ناشئ مثلي سؤال إذا ما كان هناك من قام بتقديم التراث الخلدوني للشباب الناشئ اليوم بصورة مبسطة وغير معقدة؟.
