عاطفة المسكرية
إنَّ الاختلاف هو الزر الذي تم كبسه لإشعال الزوبعة في منطقة الشرق الأوسط. حيث إن الآخر لم يعد عنصرا مقبولا يمكن التعايش معه دون إحداث ضرر لأحد الأطراف. إلا أن هذا " الآخر" لم يظهر فجأة من العمق، فلطالما كان موجودا عدا أنه لم يكن يشكل عنصرا أساسيا للخلاف. ويطرح أحد منظري اليسار الإسلامي أو ما يسمى بالإسلاميين التقدميين، وهو أحميدة النيفر، في أحد مقالاته بمجلة التفاهم بعنوان "منزلة التعارف والاعتراف في منظومة القيم القرآنية"، هذا الموضوع من منظور قرآني. والفكرة الأساسية التي وردت فيه هي حتمية الاختلاف لكون الأفراد الذين يشكلون جزءا من الكل "المنظومة التي هم بداخلها" لم يختاروا ما هم عليه من اختلاف وتشابه. وعليه، هناك تساؤلات قد تطرح في هذا السياق وتحديدا فيما يتعلق بالعنصر الذي أدى إلى هذا الحراك واليقظة المتأخرة بوجود الآخر المختلف. فهل هي فكرة وجدت منذ السابق بجانب وعي فطري بالأطراف الأخرى المختلفة عنا رغما عن كلينا؛ ثم جاء من قام بتشويش هذه الأفكار وخلق العداء؟ أم أن الجذور الراديكالية ضد الآخر كانت مغروسة، تنتظر البيئة والمناخ المُناسبين حتى تظهر على السطح! لابد من الإقرار أن مسألة الاختلاف هذه تحتمل كل الخيارات السابقة كعناصر ساهمت في خلق المشكلة التي تُعد الأساس الذي بني عليه هذا الوضع المتمزق بين مجموعات كانت صديقة وشقيقة في السابق. عندما نتحدث عن الاختلاف ونوعه ما إذا كان مذهبيا، عرقيا، طبقيا، قبليا، ثقافيا، اجتماعيا ... إلخ فهو يعتمد على المجتمعات أنفسها.
وقد نجد عدة عناصر مختلفة في مجتمع واحد حيث إن الحكمة الأساسية من خلق البشر مختلفين هي إكمال بعضهم البعض وتسخيرهم لسد النواقص التي عجزت الأطراف الأخرى عن سدها، بالتالي تحقيق الغاية الكبرى من خلق البشرية ألا وهي عمارة وخلافة الأرض. تؤكد الجزئية الواردة في القرآن الكريم أن الاختلاف ليس ضارا عند أهل الحق بينما يعد ضارا عند أهل الباطل. وما ورد في القرآن سبق كل التأويلات المراد منها فهم فكرة الاستفادة من الاختلافات من قبل الأمم المتقدمة. فإذا ما جئنا نتخذ من الوضع الحالي مثالاً، تعد الولايات المتحدة والدول الأوروبية أنموذجا للتعددية الثقافية باستثناء بعض المجموعات العنصرية فيها. فالولايات المتحدة هي عبارة عن أرض أتى إليها المهاجرون من ثقافات وأعراق وديانات مختلفة، إلا أن مواطنيها يحددون هويتهم بالجنسية الأمريكية كأولوية عندما يتم سؤالهم عن الهوية وليس بالعرق أو الديانة أو أي من عناصر الهوية التي ينتمون إليها وهنا مربط الفرس حيث إنهم تقبلوا فكرة الاختلاف وذلك لوجود هدف أو صورة أكبر وأهم من الفروق القسرية بينهم. وينطبق ذلك على الاتحاد الأوروبي كذلك حيث إن دولا أوشكت أن تمحو بعضها البعض من الخريطة في السابق ومع وجود كل تلك اللغات والثقافات المختلفة إلا أنهم استطاعوا تشكيل كيان متحد ينأى بأحداث الماضي بعيدا موجهًا جهوده نحو الحاضر والمستقبل. مع كل ذلك لابد من تسليط الضوء على مسألة مهمة حاضرة ومتصلة بمسألة قبول الاختلاف ألا وهي عدم محاولة طمس الآخر بأي شكل من الأشكال مباشرًا كان أم غير مباشر، ولنا في سقوط الاتحاد السوفييتي نموذجاً في ذلك حيث كانت السلطة المركزية تمارس طمس هوية الآخر في سبيل خلق هوية واحدة مشتركة بين كل من هم جزء من الاتحاد. فكانت تسن قوانين في ذلك مثل منع استخدام غير اللغة الروسية في المدارس وغيرها من التشريعات التي كانت تساهم في دفع هوية الآخر بعيدا عن الصورة الكلية مما يعد شبه مستحيل. وأغلب النماذج في التاريخ إن لم تكن كلها تثبت ذلك. قد لا يكون هذا سببا رئيسيا في نموذج الاتحاد السوفييتي إلا أنه عنصر لا يُمكن استبعاده في سياق الحديث عن أسباب الفشل السوفييتي. الدول الأوروبية تعد أنموذجا بين عدة نماذج إلا أنه معاكس لهذه الصورة حيث إن احترام الاختلاف يعد حاضرا في كل التفاصيل بل إن الآخر يعتز بهويته مظهرا إياها بكل عنفوان في حدود المنظومة التي ينتمي إليها دون أن يحاسبه أحد. من منا لم يسمع باعتزاز الفرنسيين بلغتهم الفرنسية وإن كانوا يتحدثون لغة أخرى بطلاقة – كالإنجليزية – مثلا يرفضون استخدامها في موضع غير ذي حاجة كالمؤتمرات والمحافل العلمية .. إلخ.
من هنا نستلهم فكرة أن الآخر المختلف أيضاً يسهم في عملية تقبل الآخر له، وذلك من خلال إثبات وجوده، ومعرفة وفهم تاريخه، والاعتزاز بحاضره، والسعي نحو تحقيق الأهداف والغايات الكبرى لصالح الكل لا الجزء الذي يقتصر على تحقيق بعض المصالح الشخصية مثل ما نرى في مختلف المنظومات التي استشرى فيها الفساد. كل هذه العناصر يرتبط ببعضها البعض في سلسلة متصلة، فالاختلاف يتعلق بمسألة الهوية والهوية تعكس ثقافة الإنسان بما يحمله من قيم وهذه القيم هي التي تسهم في إجبار الطرف الآخر على احترامك واحترام حتمية وجودك كشريك لا كعنصر ينظر إليه نظرة تقلل من شأنه. حتمًا هناك عناصر أخرى ترتبط بنفس موضوع تقبل الاختلاف وفهمه وعدم اعتباره تهديدًا حيث إن أدلجة الأفكار ساهمت في تحريك الأفكار الراديكالية التي تقر بجواز محو الآخر بحجج وتبريرات اقتبست من الدين وكما قيل إن "الدين أفيون الشعوب". وهنا لا ملامة على الدين المبني على تشريعات بنيت من خلال التفسيرات المختلفة باختلاف المذاهب حيث لا يُمكن تجاهل حقيقة كون القرآن " حمّال أوجه "مثلما ذكر علي بن أبي طالب. فللأسف يتم استغلال النصوص القرآنية من بعض ضعفاء النفوس من الذين غلبت رغباتهم الدنيوية على وعد الآخرة حيث يؤججون الفتن المؤدية للتناحر والقتال بين المجموعات متى ما تطلب الأمر أو بالأحرى متى ما طلب منهم ذلك وهذا ما يدعى بتسييس الدين، إحدى الأدوات المستخدمة في العصر الحالي وبإتقان كفيل بأن يضر الطرف الآخر. إن الاختلاف حقيقة حتمية ونعمة تتطلب الكثير من الوعي والإدراك حتى لا تتحول إلى نقمة أو أداة يستغلها البعض ضد آخرين.
