استراتيجية وتكتيكات جيش نابليون

Picture1.png

 تأليف: أليغ سوكولوف

فيكتوريا زاريتوفسكايا | أكاديمية ومستعربة روسية

لا مراء في القول إن اسم أليغ سوكولوف عادة ما يتقدم عناوين الكتب التي يضعها، فيشد انتباه واهتمام القارئ قبل عنوان الكتاب؛ فهو أشهر من يكتب في التاريخ العسكري في روسيا، وهو مُؤسس الحركة الروسية لإحياء التاريخ العسكري، له أكثر من مئة عمل علمي حول هذا الموضوع، ولم تقتصر إصداراته على الشؤون الروسية وحدها بل شملت بلداناً مثل فرنسا وبولندا وإسبانيا والتشيك، كما تبوأت العديد من مؤلفاته مثل كتاب "جيش نابليون" وكتاب "أوسترليز" وكتاب "معركة الإمبراطوريتين" مكانة كبيرة في مجال العلوم التاريخية العسكرية وغدت من كلاسيكيات هذا الميدان؛ وقد استحق سوكولوف وسام جوقة الشرف من الجمهورية الفرنسية على بحوثه التاريخية وهي أرفع جائزة تمنحها الأكاديمية العسكرية الفرنسية.

في كتابه الجديد "استراتيجية وتكتيكات جيش نابليون" يُقدم سوكولوف إجابات وافية عن أسئلة تقنية لا تخلو من ظرافة وهي من قبيل: ما هي فعالية أسلحة القرن التاسع عشر وكيف استخدمها المشاة والفرسان وقوات المدفعية في تلك الحقبة؟

بذائقة فنية عالية يرسم المؤلف لقارئه صورة بصرية واضحة عن المعارك الكلاسيكية كما يُمثلها العصر النابليوني ويعيد صياغة المبادئ الاستراتيجية للإمبراطور الفرنسي وجنرالته. ولأنَّ الكتاب لا يدّعي استقصاء جميع المعارك التي خاضها القائد الفرنسي العظيم وعليه خصص الكاتب لعمله معركة "أولم" التي نشبت في شهر أكتوبر من عام ألف وثمانمئة وخمسة واستخدمها للكشف عن الملامح الرئيسية الكامنة في الفن القتالي النابليوني.

 

وفيماعدا الجانب العسكري المحض، استوعبت دراسة سوكولوف جوانب آيديولوجية وأخلاقية وجمالية توشح بها العصر النابليوني وكانت من بين المظاهر الحضارية التي استُلهمت من روح ذلك القائد التاريخي الفذ.

وإن كان العصر النابليوني هو المحور الذي يرتكز عليه البحث في هذا الكتاب، إلا أن الإطار التفكيري ينفتح على قرون ثلاثة متوالية: القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، حيث يتتبع سوكولوف تطور أساليب الحربلا بموجب المسارالطبيعي كتطورالتكنولوجيا الحربية و صناعةالأسلحة وحسبولكن أيضًا بموجب العمليةالتاريخية التي غيرت النفسانية البشريةفي أوروبا.

 

يشير الباحث إلى أنَّ القرن الثامن عشر شهد تحسناً ملحوظاً في مستويات المعيشة لدى الأوروبيين مما أدى إلى تغيير جذري في نظرة العامّة من النَّاس إلى مسألة الخدمة العسكرية. يقول في هذا السياق: "من أجل انتزاع النَّاس من أنشطتهم اليومية وتوجيههم إلى الحرب لتدمير العدو، يحتاج المرء إلى رسم صورة للعدو مُغايرة للذات وهنا يأتي استخدام الدين والقومية كقوة دعائية نافذة لتحقيق هذه الغاية العسكرية (...) إلا أن الدولة في القرن الثامن عشر لم تعرف الجذر القومي وكانت المشاعر الدينية في حالة موات في حين أن الأنظمة الملكية لا تعدو كونهاكيانات فضفاضة لا مقدرة لها على صياغة معالجات إيديولوجية لإقناع الرعايا بأنَّثمة سكانا في بلد آخر يجسدون شرا عظيما ويجب محاربتهم والقضاء عليهم"(ص: 105).

ويقدم الباحث مثالا نموذجيا للحروب الأوروبية في القرن الثامن عشر وهي الحرب التي وقعت بين بروسيا والنمسا وعرفت باسم "حرب البطاطا" ذلك لأنَّ كلا الجيشين المتواجهين كانا يبحثان بشكل محموم عن نقاط حاسمة لخوض القتال، ومع ذلك لم تجر بينهما معركة حاسمة واحدة، واقتصرت الحرب بأكملها على نقل القوات من مكان إلى آخر وأكل البطاطا التي كان محصولها جيدًافي ذلك الخريف في أرض بوهيميا. إذا فالملامح الرئيسية والاستراتيجية لحروب تلك الفترة كانت ترتكز على توخي الحذر الشديد في جميع الأعمال العسكرية وعلى التوجه لتجنب المعارك المباشرة والتصادم مع العدو وإلى السعي في تحقيق نتائج إيجابية عن طريق المناورات والحصار وغير ذلك من إجراءات قد تطيل أمد الصراع ولكنها تحافظ على الأرواح بأكبر قدر ممكن. وليس من قبيل الصدفة أن نجد في الكتب العسكرية التي تعود إلى ذلك القرن مثل هذه التوصيات: "لا تكشف نفسك أبدًا للعدو دون الحاجة الماسة إلى ذلك ولا تخض أية مواجهة من دون امتلاكك الثقة التامة في كسب المعركة، فمن الأفضل لك عدم الفوز بأي شيء بدلاً من أن تعرض نفسك للأضرار وتخسر ما تملكه" (ص: 234).

ووفقاً للمؤلف فإن الثورة الفرنسية العظمى قوضت جميع المبادئ الحربية التي كانت تبدو ثابتة منقبل. فمنذ ذلك الحين وصاعداً لم يعد الأمر متعلقا بنضال الفرنسيين ضد النمساويين من أجل الإرث البولندي أو لحيازة حصن من الحصون ولكن بوجود الدولة القوية نفسها وتثبيت أركانها على الشكل الذي أرسته الثورة. يقول المؤلف في هذا السياق: "لقد قلب نابليون بونابرت صفحة في التاريخ ووضع حدا للحروب الصغيرة وذلك بتنصيب نفسه قائدا عظيما يجر خلفه جيشاً لا يقهر. وهو القائد الذي أدرك قبل غيره أن السيف لا يخرج من غمده إلا للقتل والقضاء على العدو وأن سياسة الحصار وتجويع العدو إنما هي سياسة سلبية ومحفوفة بالمخاطر. وفي هذا السياق فإنَّعظمة نابليون كقائد كانت نتيجة لفهمه طبيعة الحرب واستخدامه استراتيجية القضاء المُبرم على الخصم وإلحاق الهزيمة النكراء بالجيوش المنافسة وتحقيق نصر كامل غير منقوص" (ص: 237) ومن مبادئ الاسترتيجية الحربية التي اعتمدها نابليون يخلص المؤلف لنقاط نذكر منها: 1)الحاجة إلى استنفاد القوة الذاتية إلى أقصى حد وإثباتها في أرض المعركة 2) توجيه ضربات سريعة للعدو 3(محاولة تقسيم جيش العدو إلى أجزاء وتدمير تلك الأجزاء الواحد تلو الآخر 4) السعي الحثيث لتدمير القوى الحية للعدو تدميرا شاملا 5) عدم الانخراط في محاصرة العدو في حصونه واصطناع المناورات 6) شل روح المقاومة للعدو بصرف النظر عن إرهاق الجيش وخسائره البشرية 7) لا وجود للانسحاب أو تجنب المعارك، فالجيش يتقدم ولا يتقهقر ويرتمي في أرض الوغى بكل دموية وينتزع النصر بجسده.

لا ينكر سوكولوف أن أساليب الحرب الجديدة لم تنشأ بأمر حاسم أو بتخطيط عملي مسبق وإنما ظهرت بموجب عوامل مختلفة تضافرت ضمن ظروف محددة، ولكن، ومما لا شك فيه أيضًا أن هذه التكتيكات والسياسات الحربية الجديدة وجدت تجسيدها الأبرز والأكثر حيوية في شخص نابليون. لذلك فلا غنى للباحث في التاريخ الحربي للقرن التاسع عشر من الرجوع إلى سيرة نابليون الحربية، تلك السيرة التي طالما أوقعت الرعب في صفوف الجيوش المعادية للإمبراطورية الفرنسية وأذاعت اسم نابليون في أطراف المعمورة.

يصف المؤلف زمن نابليون بآخر العصور الحربية الكلاسيكية العظمى، وهوالعصر الذي كان على مرمى حجر من بزوغ زمن جديد تعرفت فيه البشرية على أنواع أخرى من الأسلحة كالمدافع الرشاشة والمدفعية بعيدة المدى والقنابل عالية التفجير وغيرها من الأسلحة التي دشنت لعهد جديد من الحروب وأسست لمفاهيم قتالية تختلف عن كل ما سبق للبشرية معرفته منذ فجر التاريخ.

ومن الأجزاء الظريفة في كتاب سوكولوف وصفه الجانب الظاهري للجنود المشاة في الجيوش الكلاسيكية، كالبيارق المرفرفة التي يحملها الجند والموسيقى العسكرية المتعالية والزي العسكري الجميل والمطرز بأسلوب أنيق وعملي في الوقت نفسه، وكان هذا الجانب، وإن بدا ظاهرياً إلا أنه ساهم مساهمة فعالة في رفع الحالة المعنوية للجيوش وحافظ على تنظيم الألوية ورص صفوفها.

ومن الجوانب الهامة التي أشار إليها المؤلف تأكيده على العنصر النفسي في نجاح الجيش النابليوني. يقول في هذا السياق: "لم تأت الطفرة في الجيش النابليوني باختراع البندقية عام 1777 ولا باستحداث نظام مدفع "جريبوفال" ولكن جاءت تضافرا مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأخلاقية الكبيرة التي شهدتها فرنساوأسفرت عن الثورة الفرنسية الكبرى. لقد استفزت شرارة الثورة طاقات بشرية هائلة كانت في حالة سبات عميق، فخرجت التعصبات القومية والآيديولوجية واتقد الحماس الثوري في أفئدة الناس وشب في قلوب الشباب هوس بالنصر (...) إن قوة الاندفاع التي ضخها الشباب في الجيش النابليوني واستعدادهم المطلق للانضواء تحت رايته، ذلك الاندفاع الذي نادراً ما عرف التاريخ له مثيلا، إنما يعود إلى أسباب كثيرة ذات طابع أخلاقي واجتماعي ونفسي. ومن ناحية أخرى فإنَّ النظرة إلى المهنة العسكرية باعتبارها أقصر الطرق للوصول إلى قمة التسلسل الهرمي الاجتماعي، وبأنها وسيلة للتأكيد الذاتي، السياسي والمدني، ناهيك عن البريق الذي يحتويه الزي العسكري وسحر المغامرة كل ذلك ساهم في جذب الشباب للانخراط في جيش نابليون الذي قام بعدها بحملة النصر عبر أوروبا كلها وسحق العروش وحطم أوثان أوروبا القديمة وأزال الغبار عن قارة جديدة وفتية (...) إنه الإيمان لدى الجنود وقتالهم من أجل العدالة وهزيمة الطبقة الاقطاعية الظالمة وذلك تحت راية إمبراطور محارب، مغوار وعادل، استطاع أن يجعل من نفسه مفخرة لجنوده وضباطه وأن يقودهم للمشاركة في أعمالعظيمة شكلت حقبة كاملة في التاريخ البشري" (ص: 111).

ومما لا يقل أهمية في الكتاب تلك الفصول التي تحدث فيها المؤلف بالكثير من التفصيل عن قرارات نابليون الخاطئة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والمناورات العسكرية الخطيرة، ضارباً المثل في ذلك بحملته غير المدروسة على إسبانيا واستهانته بالروح المقاومة للشعب الإسباني، وأيضاً الحملة التي قام بها ضد روسيا وهي الخطوة التي قادت إمبراطورية نابليون برمتها إلى الهلاك. فمن بين الأخطاء العسكرية والسياسية القاتلة لنابليون والتي يجمععليها المؤرخون باختلاف مشاربهم ومرجعياتهم، تلك الحملة التي نظمها للاستيلاء على موسكو. فاستنادًا إلى الوثائق التاريخية والاستراتيجية في حروب نابليون، نجد أن الإمبراطور الفرنسي لم يكن ينوي حربًا شاملة على روسيا، إلا أنه كان مضطرا للدخول في مواجهة معها، وكان في ظنه أن تلك المواجهة، وإن تطورت كثيرا، إلا أنها لن تكون أكثر من حرب حدودية وحسب. ولكن المفاجأة جاءت من القوات الروسية التي لم تكتف بالوقوف أمام الهجوم النابليوني بل اتخذت خطوات هجومية عنيفة ابتغاء سحق العدو الغازي، علماً بأن قوات نابليون كانت أكثر عددا وعتادا من القوة الروسية، وقد كانت الصورة الأولية لنابليون أن النصر سيكون حليفه بنسبة لا تقل عن تسعين بالمئة. بيد أن السيناريو اتخذ مسارا مختلفا على أرض الواقع وفي ساحة القتال، فبدل أن يندفع الروس إلى الجيش الفرنسي الذي كان ينتظر تقدمهم، اتخذوا استراتيجية أولية للانسحاب المرحلي المدروس، والتلاعب بالجيش الفرنسي، وخلق واقع سرابي أمامه يستدرجونه إليه وذلك حتى تحين ساعة الصفر وانطلاق الهجمة التي كسرت الجيش النابليوني على النحو الذي يذكره التاريخ.

ختاماً يجدر بالذكر أن كتاب أليغ سوكولوف "استراتيجية وتكتيكات جيش نابليون" ضم عددا وافرا من الرسومات التي تشهد على الأحداث التاريخية قيد دراسته، الأمر الذي منح الكتاب رونقا فنيا وعزز من مقروئيته إلى جانب تتبعه للملحمة النابوليونية من مختلف جوانبها وبجميع الأشكال المتاحة.

--------------------------------------------------------

التفاصيل :

الكتاب: استراتيجية وتكتيكات جيش نابليون.

المؤلف: أليغ سوكولوف.

الناشر: جامعة سينيرغيا/ موسكو 2018.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 400.

أخبار ذات صلة