تأليف: فلاديمير دوبرينكوف
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا | أكاديمية ومستعربة روسية
يتقصى الفيلسوف الروسي فلاديمير دوبرينكوف في عمله الجديد "عولمة الروحانية"جملة من القضايا المتعلقة بالمسائل الأخلاقية للعولمة، من قبيل:القضايا التي تتشكل أمام المجتمع المعولم في المجالين الاقتصادي والأخلاقي علي حد سواء، ومكونات العولمةالتي بدأت تظهر للعيان في الآونة الأخيرة، والاختلالات التي أحدثتها العولمة فيالثقافة العالمية، إلى جانب مسائل مثل التغريب، والأمركة، والعواقب التي بدأت تستهدف المجتمعات التي اعتنقت العولمة لاسيما فيما يتعلق بالجانب الروحاني كما هو الحال في روسيا.كما يتشعب المؤلف في رصد مؤثرات العولمة على بلاده ويقف أمام نقاط عدة تمثل علامات وملامح للعولمة مثلالتثاقف والاستيعاب والتوسع الثقافيين، والصدمة الثقافية والتعددية والإمبريالية الثقافية، والثقافات الفرعية للشباب، وحالة التعليم في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والأرثوذكسية والمحافظة، والإحياء الديني في روسيا المعاصرةوغيرها من المسائل.
منذ ظهور مصطلح "العولمة" ودخوله في الخطاب العلمي في التسعينيات،كانت عدد الكتبالتي تحتوي على عناوين تحمل كلمة "عولمة" ما زالت قليلة ومحصورة،أما في الوقت الراهن، فإنَّموضوعالعولمة والنقاش الذي تطرحه يقف منافسًا لأي موضوع آخر على الساحة الثقافية والعلمية العالمية؛وخلال ما يقرب من ثلاثينعامًا، جرت تغييرات هائلة تحدد من خلالها مسار المناقشات العلمية وارتسمت اتجاهات مختلفة في تطور المجتمع. وبدورها تحولت العولمةمن مجرد فرضية علمية لا تفتقر الظرافة إلى مفهوم علمي واسع الإطاروبمحتوى شديد الضبابية،ثم غدت لاحقاً مصطلحاً مألوفاًوربماعتيقًا، وذلك بمقياس الزمن الذي يتطور فيه كل شيء بشكل سريع ومريع وتكتمل دورته بمجرد بدايته، ويصبح قديمًا وهو في نشأته.
وقد بدأت تبعات العولمة في لحظتنا الراهنة في البروز بشكل جلي وكشفت عن ملامحها غير المتوقعة وغير المرغوب بها مثل التفاوت الاقتصادي بين البلدان وتسطيحالثقافة الكاسحوغيرها من الملامح. والأمر كذلك في موضعة مصطلح العولمة ووظيفته في اللغة العلمية حيث راح يتبدل ويغير مكانه مع تبدل مواقف العلماء تجاهه وتغير طريقة تعاطيهم معه؛ وكما يبدو للعيان فإن عدد معارضي العولمة بدأ يتجاوز عدد مؤيديها، في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. ومثله مثل أولئك المعارضين يعتقد الباحث الروسي فلاديمير دوبرينكوف أن:"العولمة اليوم ليست مجرد موضوعًا دارجا، وإنما أيضًا مادة لتقييمعميقومفصّل. لقد مضىزمن الإعجاب المفرط بإمكانيات التقنيات الحديثة وثقافة الإنترنت وحان وقت الفهم الجادللجوانب الإيجابية والسلبية لثورة المعلومات التي تبلور وتوجه العمليات الاجتماعية والسياسية في البلدان وتحدد إيقاع الحياة اليومية للمجتمعات، كما وتدير مسار التاريخ برمته(...(إن العولمة، التي يجري توريدها من بلد متقدم إلى بلد نامٍ، تشبه إلى حد بعيد زراعة شجرة في تربة لا تناسبها، وبالنتيجة فقد انتشرت البراعم القبيحة وجلبت لبلادنا (روسيا) مصائب لا حصر لها".
ينطلق فلاديمير دوبرينكوف من المبدأالقائل إن الغرب قد طبع العولمة بميسمه واستلب الحق في إدارتهاووضعها في الإطار الضيق للتغريب والأمركة وذلك بإخضاعها لأهدافه الخاصة واتخاذها كوسيلة لاستعباد الشعوب غير الغربية قاطبةمن خلال الشركات العابرةللوطنية،فيستشهد ببيانات توضح أن العولمة مرتبطة بمسألة عدم المساواة على النطاق العالمي ذلك لأن الدول الفقيرة لا حصة لها من فوائد التجارة العالمية. مثال بيّن على ذلك تجارة البن، إذتعتبر القهوة ثاني أكبر المنتجات الزراعية مبيعًافي العالم، لكن معظم المنتجين يحصلون على 10٪ فقط من السعر الذي يدفعهالمستهلكون في الدول الأكثر ازدهارًا. وهكذا يشدد المؤلف على أن العولمة لها نتائج غير واضحة أوشفافة وأنها تعمل بشكل أساسي لصالح الدول والشركات الغنية: "الاستثمار الأجنبي يخلق فرص عمل جديدة في أماكن مختلفة، وبالمقابل فإنالمنافسة وإدخال التقنيات الحديثة تنخفضفورا في مناطق أخرى. في بعض البلدان تعمل هذه التقنيات، إلى جانب المعلوماتية، على تسهيل عمل الأفراد ونقلهم من مباني المصانع إلى المنازل الخاصة والمريحة، ولكن الآخرين، في بلدان العالم الثالث، تتحول المعدات المعطوبة، التي تصدرها إليهم الدول المتقدمة، إلى ناطحات سحاب من القمامة السامة، تمارس دورها في تدمر الصحة وتهديد حياة آلاف الأشخاص في إفريقيا وحدها".
ومن تقنيات الاقتصاد يتحولالكاتب إلى تقنيات هزيمة الروح وتجريدها من المسانيد الأخلاقية والثقافية. فبناءً على البيانات المستقاة من الدراسات الاستقصائية الاجتماعية يتوصل المؤلف إلى استنتاج مفاده أن المجتمع الروسي يكتسب تدريجياً صفات المجتمع الذي يسير على غير هدى ولا يرتكز على هدفأو ما يُطلق عليه اسم: مجتمع الزحام. ويذّكر المؤلف بمقولة البطريرك الروسيالسابق أليكسي الثاني ذكر فيها أن "هرم القيم في المجتمع الروسي يتحدد بالمصالح الاستهلاكية،فمع ازديادهها تزداد اللامبالاة بالحقيقة الروحية" (ص: 156). ويكتب دوبرينكوففيهذاالسياق: "يتجلى ذلك في التدمير العنيف لنظام المُثلالإنسانية العليا، وانخفاض قيمة حياة الإنسان والاستخفاف بضميره وشرفه وكرامته، وذلك بجانب انتشار الأساليب العنيفة لضمان الحرياتالشخصية وإنكار التاريخ (...)وتضيق في العالم الروحي والأخلاقي للفرد التوجهات الإيجابية المهمة التي تصب في صالح المجتمع وذلك بمقابل زيادة الاهتمام بالمصالح الشخصية الفردية، كل ذلك مع ذوبانالوعيبالأهمية الاجتماعية للعمل وضمور الشعور بالواجب الاجتماعيوالأنشطة الاجتماعيةوهذا مقارنة بالفترة السوفيتية. اقتصاديا زاد مجالالرفاهية المادية والقدرة على إشباعالرغبة الشخصية، وهذا لا يتعلقبالنزوع إلى الاستهلاك وحده وإنما كذلك الرغبة في بلوغ النخبوية والتميز عن المجتمع"(ص: 166).ويقول في موضع آخر ولكن في نفس السياق:"لذلك فليس من قبيل المصادفة أن يصف المؤشر الاجتماعي "هوفستيد" الذي يُعرف بمنهجيته ومصداقيتهالعالميةالمجتمع الروسي باعتباره مجتمعا يتمتع بأقل من المتوسط من الشعور بالفردية، ونسبة استبعاد السلطة عن الشعب عالية فيه، والتخطيططويل الأجل فيه يدنو من عشرة بالمئةوحسب" (ص: 320).
ويلاحظ دوبرينكوف أن العولمة في مظهرها الحالي، الذييتبلورضمن النظام الرأسمالي العالمي، لا توحد الناس بفضل تقنيات المعلومات الحديثة فقط، ولكن، وكما يتضح من خلال تحليل أكثر شمولاً، فهي تقسمهم تمامًا وتحصرهم في فئات ضيقة من مجموعات مهنية أو سياسية أو دينية أو عرقية واقتصادية. فنرىأنمشاعرالوحدة والعزلة متفشية في عالم اليوم، وهي في اضطراد يساير تزايد اعتمادالأشخاص على الإنترنت واتساع مساحته في حياتهم، أو تزايد أعداد أولئكالذين لا يتمتعون بالحماية من اختراق وعيهمبالأفكار العلمية الزائفة والآراء الإجرامية والمتطرفة. ويؤكد الباحث علي أن الغالبية العظمى من الناس فقدت القدرة على تقييم سلوكها بطريقة نقديةوعلى جميع مستويات المجتمع.
إلى جانب ربطهبالعولمة بإعادة توزيع الهيمنة على العالم من الناحية الجيوسياسية، فإن الكاتب يقرنها أيضًا بصراع نظامين دينيين وتنافسهما علىالتحكم بمعايير الخير والشر وتحديدها. يقول الكاتب مفندا تعامل الغرب مع روسيا: "إنهم يبذلون قصارى جهدهم لإحباطنا فلا نتجرأ على تصور أنفسنا إمبراطورية تعارض روحياالمبادئ التي رسختها روما القديمة، أيمعارضة الوعي الجمعي للغرب، الذي يتخذ شكل امبراطورية عالمية. ولا ينبغي لنا، نحن الشعب الأرثوذكسي، أن نرى أنفسنا بعد الآن كدولة قوية عظيمة، امبراطورية مقدسة، وريثة بيزنطة.يريدونلروسيا أن تكون دولة ضعيفة، هامشية،ومصيرها الأوحد هو الخضوع للإمبراطورية العالمية".ويشير دوبرينكوف إلى إنالقوة الغربية المناهضة لروسيا ترتكز على الفكر الكالفيني البروتستانتي، يقول في ذلك:"يؤمن كالفين بأن الله يبسط أمام العالم مصير الشعوب، فبعضها موعود بالخلاص وبعضها الآخر مصيره الجحيم. ولا يمكن لأي عمل إنساني أن يغير أويؤثر على القرار الإلهي. أماعلائمالنجاةوالخلاصفتكمنفيالتفوق في الأنشطة الدنيوية، ولا يخفى في هذا الخطاب أن الغرب هو المقصود بنيل الخلاص" (ص: 177).
يخصص المؤلف فصلا صغيرا لمسألة قمع الأديان في الإتحاد السوفيتي، ومنها الديانة الإسلامية التي واجهت عملية إجهاضلحياتهاالثقافية والعقيدية وذلكبدايةمن منتصف عشرينات القرن الماضي. فوفقًا للبيانات الرسمية كان يعمل حتى شهر أكتوبر من عام1917 أي قبل هنيهة من الأحداث الثورية، ثلاثونألف مسجد على أراضي الإمبراطورية الروسية، وفي الثلاثينيات تم إغلاق وتدمير ما يقرب من اثني عشرألف مسجد، ومن المحتجزين لدى السلطات لم يعد سبعة وثمانون بالمئة إلى منازلهم، ولم يتمكن ما يصل من تسعين بالمئة من الأئمة من ممارسة عملهم.وخلال سنوات حكم ستالين تم تدمير النخبة الروحية الإسلامية بأكملها تقريبًا. وفي عام 1948 بقي 416 مسجدًا مسجلاً في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية بأسرها، وفي عام 1968 تقلص العدد إلى 316 مسجدا.
ويلاحظ المؤلف صفة أخرى تبدو متناقضة للعولمة منذ الوهلة الأولى. فوفقًا للمعطيات التجريبية، فإن الاندماج الكثيف لبلد ما في التبادل العولمي لا يؤدي بشكل حتمي إلى تآكل الهوية الدينية والثقافية وتراجع التدين. فإيرلندا على سبيل المثال أكثر دولةمعولمةعلى وجه الأرض وذلكحسب مؤشر العولمة، كما أنها على رأسقائمة الاقتصاديات الديناميكيةفي العالم بسبب إنجازاتها الاقتصادية. ولكن، في الوقت نفسه، فإن الشعب الإيرلندي من أكثر الشعوب ثباتا على ديانتهم، إذ إن ثمانين في المئة من الإيرلنديين يؤدونالطقوسالدينية مقارنة بأربعين بالمئة من الإيطاليين وثلث الإسبان. يعلق الكاتب على هذا قائلا: "لا تُظهر الجماهير الهائلة التي تعيش في القرية العالمية وترتبطبالسوق العالمي رغبة حقيقية في تغيير انتمائهم الديني. ويبدو هذا الموقف متناقضًا إذا نظرناإلىمفاهيم السوق، مع ذلك فإن كل شيء سيكون في مكانه الصحيح إذا قمنا بتحليله في إطار النظم الثقافية، فبدلاً من ظهور دين واحد حسب السياق الطبيعي للعولمة، ها هوالكوكب شاهد على النزعة الاستقلالية، حيث يسعى كل دين، إلى الدفاع عن استقلالهعن الأديان الأخرى، ويتمسك بهويته، مما يحيلناإلى ظاهرة التعصب الملحوظ في عالمنا الراهن".
إنالديانة المسيحية تشهد طفرات من التنوعفي المذاهب أصبحنا معها غير قادرين على احاطتها وفهمها بالكامل. يقول اكاتب: "تُذكّر التغيرات الحديثة للمسيحية من نواح كثيرة بالعمليات التي حدثت في أوروبا في القرن السادس عشر. ففي عام ألف وثمانمئةكان هناك نحو خمسمئةطائفة مسيحية في العالم، تزايد عددها على الدوام حتى وصلت اليوم إلى ما يربو على أربعين ألف. وسيزداد عددها في المستقبل نتيجةلما يسمى بالكنائس المستقلة،الإفريقية والإفريقية الأمريكية في الولايات المتحدةوالإفرو لاتينية في أمريكا الجنوبية وهي تتسم غالبًا بطريقة غريبة جدًا لتفسير الإنجيل المقدس".
أخيرا يخرج المؤلف بخلاصة أن ظروف العولمة بعواقبها السلبية على المستوى الأخلاقي لا يمكنها أن تشكل أيديولوجيا قومية جديدة لروسيا، ولا يمكنها أن تحل محل العقيدة الأرثوذكسيةالمكونة للشعبوللدولة، شريطة أن تظل هذه العقيدة بعيدة عن التعصب وأن تنفتح وتحترم العقائد التقليدية الأخرى للشعوب الأصلية القاطنة في روسيا.
---------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: عولمة الروحانية.
المؤلف: فلاديمير دوبرينكوف.
الناشر:أكاديميتيسكي برويكت/ 2019 موسكو باللغة الروسية.
عدد الصفحات: 589
