تأليف: سيرجي كيسليتسين
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا | أكاديمية ومستعربة روسية
"إنّ إدراك المجتمع لعبقرية الفرد يعتمد على مستوى تطور المجتمع؛ فالمجتمع الذي يعترف بالشخصية العبقرية في حياتها هو مجتمع متطور للغاية، والمجتمع الذي يعترف بالعبقري بعد مماته إنما هو من المجتمعات النامية، أما المجتمع الذي لا يدرك قيمة العباقرة، ويكون فيه طي نسيان مقصودا ومتعمدا، فهذا مجتمع متردٍ".
يضع المؤرخ الروسي سيرجي كيسليتسين هذا التقييم ثلاثي الأبعاد نصب عينيه في دراسة نشوء وتطور النخبة العلمية الروسية. ويطل المؤرخ على موضوعه من ثلاثة مواقع: أولاً باعتبار النخبة العلمية الروسية مجتمعا محصورا بذاته، يضم جماعة من العلماء والمختصين؛ ثانياً باعتبار هذه النخبةظاهرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالظروف الخارجية (الإمبريالية والسوفيتية وما بعد الاتحاد السوفيتي)؛ ثالثا بمقارنة النخبة العلمية الروسية بمثيلاتها في بلدان غربية رائدة في المجال العلمي وفي مقدمتهما الولايات المتحدة الأمريكية.
ولأن الحديث يدور عن روسيا التي شهدت تغيرات جذرية في العقود القليلة الماضية، نرى بأن المؤلف يبادر إلى تحليل التفاعل المعقد والمثير للجدل بين القادة السياسيين والنخب العلمية وذلك في سياق التغيرات التي عرفها النظام السياسي الروسي في القرن العشرين.
في الفصل الأول من الكتاب يتوقف المؤلف عند تفسيرمفهوم النخبة العلميةويسوق تعريفات مختلفة لها كان قد اقترحها باحثون آخرون، كما يوردالتعريفات التي تبلورت عبر العصور حول مفهوم النخبة العلمية.
ويشدد الباحث في كتابه على تحديد الفرق بين مثقف اليوم والمثقف في الأزمنة السابقة؛ فالسابقون من العلماء والمثقفين اتسموا بتنوع علومهم وكانوا يتمتعون بمعرفة موسوعية غالبا ما يفتقر إليها علماء اليوم، إلا أن معرفة هؤلاء الأخيرين بتفاصيل القضايا والمواضيع تمنحهم تصورا محددا ودقيقا لصورة العالم لا يملكها العالم الموسوعي.
وفي معرض دراسته العنصر الاحترافي لدى النخبة العلمية، لا يقلل كيسليتسين من العنصر الأخلاقي لهذه النخبة، فيشير على الفورإلي أن الفهم الروسي التقليدي للنخبة العلمية يحتوي على شقين متلازمين غير منفصلين: أولهما يدللعلى فئة من المختصين والعلماء ممن يتمتعون بعقول احترافية وموضوعية، والثاني يدلل على فريق من الناس يتمتعون (إلى جانب مهنيتهم العالية) بمزيج مع الصفات الأخلاقية المثلى، من أهمها نكران المصلحة الشخصية في مقابل إعلاء المصلحة العامة. مع ذلك يعرض لنا المؤلف مسيرة مخالفة لهذا التعريف التقليدي للنخبة العلمية في روسيا، ففي الفترة بين أعوام 1930-1950 ظهرت مجموعات من المثقفين المصابين بالتضخم الذاتي والأنانية المفرطة فكانوا يسعون لدى السلطات من أجل تدمير منافسيهم؛ كما برزت في السطح آفة أخرى من المثقفين المزيفين ممن حصروا اهتمامهم لإرضاء السلطات وحسب. ويتوصل كيسليتسين من متابعته هذه إلى استنتاج يفيد بأن المثقفين الروس بصفتهم جزءا لا يتجزأ من الشعب وقوة تعمل من أجل الصالح العام لم يعد لهم وجود على أرض الواقع.يكتب كيسليتسين في هذا السياق:"وفي هذا الصدد فقد تغيرت صورة المثقف الذي كان يحتضن العالم بين ذراعيه ليصبح ذلك الشخص المهتمبمصلحته الشخصية،الذي يربي في نفسه رغبة التملك والتنازل عن القيم الأخلاقية لقاء المكاسب المادية، وبذلكفقد مفهوم النخبة معناه الأصلي" (ص: 10).
ويتتبع المؤلف المراحلالتاريخةللعلوم الروسية بدءًا من لحظة نشوئهاحينما تم استقدام الأكاديميين الأوائل من الخارج بمبادرة القيصر بطرس الأول، إضافة إلى وصفه لعملية تشكل النخبة العلمية واكتسابها هويتها الوطنية.كما يتقصى مواقف السلطات من العلماء، والعلماءمن السلطات إبان القرن العشرين، رافدا تقصيه بأحداث مفصّلة كانت السلطة والنخبة العلمية طرفين فيها. ومن المحطات التي توقف حيالها نذكر منها الآتي: الارتباك الذي أصاب النخبة العلمية بُعيد ثورة أكتوبر(1917-1918)، عقد الصلات النفعية بين السلطة والنخبة، اعتراف النخبة بالسلطة السوفيتية، الانتقال الجماعي للنخبة إلى المنصة السوفيتية، طرد ممثلي النخبة القديمة للعلوم الإنسانية الذين كانوا يعكسون في أنشطتهم القيم غير الماركسية وبدءالإجراءاتلتطهير الأوساط العلمية منهم لا سيما في فترة حكم ستالين.
بيد أنه، وبرغم كل المظاهر السلبية، يلاحظ الباحث أنه من الخطأ الجسيم اختصار تاريخ العلوم السوفيتية بمجملهووضعه في الإطار الشكلي للسياسة التي دأبت على قمع معارضيها. ففي ربيع عام 1918 وبعد أن انتشلتالحكومة السوفيتية البلاد من براثن الحرب العالمية الأولى، تمكنت السلطة من تأمين أموال ضخمة لتمويل العلوم الروسية وتطويرها والبدء في تنظيم شبكة كاملة من المعاهد العلمية ومراكز البحوث، فضلا عن قرار البلاشفة تحسين المستوى المعيشي للعلماء الذي جاء كمؤشر لتمكين النخبة العلمية في مجالها وتخصصاتها، ويُذكر في هذا السياق المبادرة التي تبناها الكاتب الروسي الشهير مكسيم غوركي في إنشاء لجنة خاصة وظيفتها ترتيب الحياة المعيشية للعلماءوتشجعتهم على مواصلة أنشطتهم المهنية.
تصدىسيرجي كيسليتسين لمسألة ما يسمى بنقطة التحول الكبرى في الفترة السوفيتيةالتي تمثل الانتقال إلى التحديث والتصنيع والثورة الثقافية لبلد زراعي ضخم عانى من خسائر فادحة في الحرب العالمية الأولى. وفي هذا الصدد يشير المؤلف إلى ظاهرة كبيرة في العلوم السوفيتية عملتبفاعلية جبارة، فوفقا لإحصاء رسمي جرى في ستينيات القرن الماضي حازت موسكونسبة مقدارها 20% من مجمل الأوراق العلمية العالمية المنشورةوقد صدرت باللغة الروسية.
ويرى المؤلف أنّ وراء هذه القفزة العلمية للعلوم الروسية سببين: أولهما موالاة عدد كبير من العلماء للسلطة السوفيتية، والثانييكمن في فهم الدولة والحزب أن تأسيس نظام اجتماعي وسياسي عالمي لا يمكن أن يتحقق من غير علوم متطورة. يكتب كيسليتسين في هذا السياق: "إذا افترضنا أن المجتمع العلمي كان منخرطًا في تنفيذ ما يسمى باستراتيجية المقاومة، أي تمرد العلماء وتسويفهم لأوامر السلطة السياسية، حينئذسنكون أمام سيناريو هروب النخبة العلمية من البلاد وبالتالي انهيار حتمي ومطلق لمنظومة العلوم السوفيتية". لذلك، ومن خلال التفاعل بين النخبة العلمية والسلطات السوفيتية، والتمويل الحكومي للمجال العلمي، نرى أن العلوم الروسية حققت انتصارات كبيرةلا سيما في الفروع المتعلقة بالدفاع القومي.
ويرى كيسليتسين أنّ الحرب العالمية الثانية منحت العلوم الروسية (أو السوفيتية) نفسا جديدا ونقلتها إلى طور آخر أكثر زخما، وبالتالي ارتفعت قيمة النخبة العلمية وعلا شأوها في المجتمع ولدى السلطات على حد سواء. وبالنسبة للقوى العالمية أصبح الاتحاد السوفيتي ندا حقيقيا للغرب والولايات المتحدة بالتحديد، ومما يسوقه المؤلف عن هذه الندية، أنه يورد المثال التالي: "خوفًا من أن تستغل القيادة الأمريكية حيازتها للأسلحة النووية وتبدأ حربًا مدمرة للبشرية جمعاء، قام بعض العلماء النوويين الأمريكان بتسليم ساسة بلادهمتقارير سرية حول تطور أسلحة الاتحاد السوفيتي النووية"(ص: 115). وقد عُرفت مبادرة العلماء الأمريكان في الحفاظ على البيئة والتكافؤ السلمي باسم "إبراهام" وذلك قبل أن يضاف إليها اسم العالم النووي الروسي ساخاروف.
وفي مناسبة أخرى دللت على أخلاقيات العلماء يذكر لنا مؤلف الكتاب موقف العالم النووي الروسي أندريه ساخاروف (آنف الذكر) من تجارب القنبلة الهيدروجينية،واعتبار أن كل تجربة جديدةلها تتسبب في زيادة مستوى الإشعاع العام مما يؤدي إلى ضحايا جدد، اليوموفي المستقبل. فأصبح له ولغيره من علماء الفيزياء النووية تصورواضح بشأن الثمن الذي سيتعين على البشرية دفعه لتحقيق ما يسمى بتوازن القوى بين أمريكا والسوفيت، ومثلما هو معروف انتهى ساخاروف، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، إلى معارضة برنامج الحكومة السوفيتية لتطوير السلاح الهيدروجيني.
في السياق نفسه، ولكن من وجهه النقيض، يشير الكاتب إلى العيوب التي اعتورت العلاقة بين السلطة السياسية السوفيتية والنخبة العلمية، وهي عيوب جوهرية أدت في النهاية إلى فقدان المكانة العالمية للعلوم السوفيتية. ويكمن مربط الفرس لهذه النتيجة القاسية فيالحملة التي قادتها السلطة السوفيتية من أجل إحلال كل ما هو وطني وإدانة كل ما هو عالمي،الأمر الذي أدى إلى تقلص العلاقات العلمية الدولية بين السوفيت والعالم الغربي المتطور، كما ترتب عنه حظر الصحف والمجلات العلمية الأجنبية من الدخول، والحد من مشاركة العلماء السوفيت في المؤتمرات الدولية ولا سيما في بلدان أوروبا الغربية. وكنتيجة لسياسة الانطواء هذه يعدد لنا الكاتب قصور العلوم السوفيتية في مجالات مختلفة منها الابتكارات المتعلقة بالاقتصاد الوطني وتلك المتعلقة بالحياة اليومية المباشرة؛ فإن كان العِلمالسوفيتي قد حقق طفرة حقيقية في مجال الطاقة النووية والفضاء والأقمار الاصطناعية، إلا أنه أضاع من يده مجالات أخرى كثيرة مثل التلفزة والترانزستورات وأجهزة الكمبيوتر والرادارات وتقنية الليزر والأدوات الآلية والروبوتات وغيرها من الأدوات المرتبطة بالحياة اليومية اللصيقة بالإنسان المعاصر.
فيما يخص مرحلة الثمانينات وإرهاصات التغير السياسي في المنظومة السوفيتية، يرصد الكاتبمسار النخبة العلمية في بلاده وذلكضمن سياسةالتجديد التي تبناها النظام الاشتراكي، والآمالالكبيرة التيأوحتها القيادة الجديدة بزعامة ميخائيل غورباتشوف للنخبة العلمية، خاصة فيما يتعلقبقابلية تطبيقالأفكار الجديدة للعلماء؛بيد أنه، وفي ظل البيريسترويكا (أي إعادة البناء) أصبح العِلم برمته منبوذاً في البلاد،وتحولت العمليات الاجتماعية والاقتصادية إلى بؤرات تدار بآلية سلبية،الأمر الذي أدى إلى الانهيار الشامل والصريح المعروف لدى الجميع. لقد توقف دعم الدولة الكبير للمجالات العلمية فتوقفت معه الاكتشافات العلمية وأغلقت المعامل البحثية وهاجر العلماء إلى الخارج أو اتجهوا إلىالبزنس فخيم الظلامعلى مدن العلوم السوفيتية الكبرى.
أما الإصلاحات الاقتصادية الجذرية للرئيس بوريس يلتسين، التي بدأت في عام 1992، فقد وضعت العلوم الروسية في أشد المواقف صعوبة وأكثرها خطورة. ويرى كيسليتسين أن السبب الرئيس في هذا الوضع يعود إلى أن الليبراليين أجروا معالجة جديدة للحياة، أقنعوا الرأي العام من خلالهابأن الشر كله يكمن في إدارة الحكومة المركزية، فإن نبذها الشعب ورفضها فإن الازدهار هو المدى الذي سينفتح أمامه على الفور، سواء في مجال العلوم أو في مجال الحريات العامة.
في الختام يقف كيسليتسين على عتبة القرن الواحد والعشرين ويلقي نظرة على العلوم في روسيا المعاصرة، وهي نظرة عابسة بمجملها، فما نراه أمامنا ما هو إلا استمرار لحالة التردي الذي ابتدأ مع انتقال النخبة الروسية من العمل حسب النموذج الكلاسيكي إلى نموذج نظام المنح الحكومية الذي تقوم الحكومة بموجبه بتوفير منح محدودة المدة لمختلف التخصصات والمشاريع العلمية، ووفقا للباحث فإن هذا التغيير يجري في ظل مناخ أخلاقي ونفسي متدهور يعاني منه المجال العلمي نفسه. ولا يستغرب المؤلف بعدئذ أن تغيب الجامعة الروسية عن قائمة الجامعات العالمية المرموقة في المجالات البحثية وأن تعجز الدولة عن تطبيق نظام تعليمي تندمج فيه العلوم بالمنهاج التعليمي العام. أخيرا، وفي سياق هذا الكتاب التحليلي والنقدي، لا يسعنا إلا أن نتذكر الأكاديمي الذريالروسي أرتسيموفيتش الذي أعرب في وقت من الأوقات عن فكرةعميقة تقول إن في روسيا هيكلين لا يخضعان للإصلاح ولا يمكن علاجهمامطلقا: الكنيسة وأكاديمية العلوم.
-----------------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: النخبة العلمية في دائرة السلطة السياسية.
المؤلف: سيرجي كيسليتسين.
الناشر: ليناند – موسكو - 2019
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 288
