تأليف: مجموعة باحثين
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا
غالباً ما تُثير قاعات المتاحف التي تعودمعروضاتها إلى القرون الوسطى نعاس الزوار، بصفوفهاالمتشابهة الرتيبة من الأيقونات والصلبان ورسومات القديسين؛ إنلكل شخصية من الشخصيات التاريخية المرسومة صفاتها وقسماتها الخلقية الخاصة، مع ذلك فإنّها تتكرر بالصيغة نفسها على الدوام وفي كل مكان؛ فنحن نعرف الرسول بولس كونه رجلا أصلعا، يظهر حاملا سيفه، والقديس بطرس بلحية كثيفة، ممسكًا المفاتيح بيديه، والقديس ستيفن بحجر عالق في رأسه، والقديسة سانت كاترين لا نراها إلابجوارعجلة التعذيب.لا شك أن تكرار نفس الأفكار والشخصيات يخلق لدى المتفرج شعورا بصرامة التقاليد في العصور الوسطى، وحصانةالأطر الفنية الكنسية بحيث يتم نسخ الصور بمقاييس ومعايير محددة لا يصح تجاوزها البتة. فكان الرسام يقوم بعمله عبر آلية متعارف عليها ومُرخصة من قبل المجلس الكنسي، وهي عادة ما تستند إلى تأويلات متفق عليها لصفات الرسل والقديسين، وما على الرسام إلا تحويل تلك التأويلات النظرية إلى صور مرئية…والويل للرسام الذي يخرج عن الأطر الموضوعة أو يحاول إنجاز أعمال فنية دينية مستعينا بشطح خياله.
كل ما سبق ذكره صحيح ولكنه ناقص، فثمة تفاصيل مختلفة ونواحٍ متعددة ظلت مجهولة، أو غير معلن عنها، تتعلق بالتنوع الكبير للأساليب الفنية الدينية في العصور الوسطى، وسعة الابتكار لدى الرسامين والفنانين، وهو ما يخالف ما اعتقدناه عنهم ويعاكس الصور النمطية التي تقدمها لنا المتاحف والكنائس في عصرنا الراهن؛ وهو أيضا ما حدا بمؤلفي الكتاب الذي بين أيدينا: "معاناة العصور الوسطى" لفحصه والكشف عنه وإثباته بالبراهين القاطعة والحجج البينة. يسجل إصدار هذا الكتاب سبقا للنشر لم تعهده سوق الكتاب الروسي، حيث ينطلق من أسلوب تفاعلي بين المؤلفين والقراء والناشر، وذلك استنادا إلى ما يتيحه عصر تكنولوجيا المعلومات من إمكانيات للتفاعل بين المادة المنشورة والمتلقي. تبدأ القصة من عام 2012 حينما أنشأ طلبة المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو رابطة على الإنترنت أطلقوا عليها "المعاناة في العصور الوسطى"، وبخلاف الاسم فإنَّ الموضوعات التي تناولتها الرابطة وتداولتها مع جمهورها تتسم بطابع هزلي؛ وقد بدأ عمل الرابطة بنشر منمنمات من القرون الوسطى في موقعهم الإلكتروني، ولكنهم عمدوا إلى تقدميها في إطار كوميدي غير معتاد، الأمر الذي حقق نتيجة غير معتادة أيضًا، حيث اكتسب الموقع شعبية واسعة، وتزايد عدد متابعيه ليصل حتى تاريخ نشر الكتاب إلى ثلاث مئة ألف مُتابع، أي أقل بقليل من عدد متابعي أكبر المواقع العلمية الروسية في الشبكة العنكبوتية، وهو ما دفع بأكبر دور النشر الروسية إلى التعاقد مع مديري الرابطة لنشر كتاب ورقي حول موضوعهم.
يركز مؤلفو الكتاب على نوعية من الأعمال الفنية الدينية لا تزال مجهولة لدى الجمهور الواسع، وهي أعمال تنتهك الصورة التقليدية والمثالية السائدة عن العصور الوسطى بوصفها عصور الورع والتقوى، فتقدمرسومات للوحوش الضارية، وأخرى هزلية بلوحتىفاحشة... ثمة قرود نجدها في هوامش النصوص القديمة، والقديسين في مظهر وحشي، فمن أين جاءت هذه الرسومات وكيف يمكنناربطها بتاريخ الفن العالمي ومراحل تطوره؟ من خلال ترتيب وتحليل المعطيات المتوفرة، يستنبط المؤلفونبحثا جادا عن قواعد ومنطق الفن في العصور الوسطى، موضحين السبب الذي يجعل نوعا من الاشتغال الفني مقبولا لدى العامة والخاصة قبل ما يربو عنثمانمئة سنة في حين أنه يُقابل بالرفض في زمننا المستنير هذا ويُتهم أصحابه بالتجديف، ويُنظر إليه كلطمة عنيفة للذوق العام.وقد اعتمد المؤلفون لهيكلة الكتاب، الأشكال الهامشية لفن القرون الوسطى: "الوحشي"، "الإنساني"، "الإلهي" فقسموا كتابهم وفقاً لها، كما اتخذوا مسارا تصاعديا لسرديتهم تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، من الأرضي إلى السماوي، من الشيطاني إلى الأسرار الباطنية (تبحث الفصول الأخيرة من الكتاب في استخدام الرمزية الكيمائية في الفن).
وفضلا عنتحليل القطع الفنية نفسها، وعددها ليس بقليل، تطرق الباحثون للرواية التاريخية للرقابة الكنسية وأساليب تصديها للفن الذي يحيد عن الأطر المسموح بها والمتواضع عليها. يلاحظ المؤلفون أنه،وحتى القرن الخامس عشر، نادرا ما سُمع في العالم الكاثوليكي عن رجل دين قام بحظر رسمةٍ،أو كنيسة نفذت تدابير قمعية ضدرسامٍ. بيد أن الصورة تبدلت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيثلجأت الكنيسة الكاثوليكية إلى فرض رقابة أكثر صرامة على الرسومات التقليدية الدينية، ولكن من غير احتكار للوسط الفني برمته ومن دون إيصاد الباب أمام الرؤية العلمانية للفن؛ فمقابل اشتداد قبضة الكنسية للرسم الديني واتساع نطاق رقابتها عليه، هناك المد الثقافي العلماني الذي لم ينهزم ولم يخل الساحة، وهناك أيضا الوعي الديني العام الذي لم ينغلق ويتقوقع على نفسه، فنجد أن روح الإبداع لم تنهزم وظلت تحفر في أرض الابتكار، فكانت النتيجة ظهور أشكال جديدة في الرسم الكنسي متحررة من الشرط التقليدي، فهناك الرسومات التي تزاوج بين الجسد والتأمل الوجداني، وهناك التداخل التاريخي في الموضوع الديني، وهناك الرسومات المتشربة من الروح المسيحية ولكنها تمتلك بعدا تجريبيا أو تأويليا خاصا.
من جهة أخرى يطرح المؤلفون أسئلة متجددة حول ثنائية الفن والمقدس، وكيفية التوفيق بين الفن الذي يرتبط بالتغير والانفلات والدين الذي يؤكد على الثبات والرسوخ، ومن تلك الأسئلة: أين تقع الحدود المسموح بها للفن في تناول المقدس ومن يرسم تلك الحدود؟ كيف يمكن التوفيق بين حماية القيم التي يعتبرها الكثيرون قيما مقدسة وبين حرية التعبير، التي من شيمها النقد والفضح؟ ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة في دولة علمانية، وعلى ماذا يجب أن يقتصر تأثيرها؟ هل يمكن لكنيسة أو مجموعة من المؤمنين امتلاك حق النشر والتصرف بشخصية المسيح أو مريم العذراء أو رمز الصليب؟
يسوق المؤلفون كمثال لهذه القضية، لوحة الفنان الألماني التعبيري جورج غروس التي أنجزها عام1927 تحت عنوان "الصلب" فنحن أمام رجل يتوشح بمئزر، إنه مسمّر، وهناك علامة على رأسه تشير إلى يسوع الناصري باعتباره ملكا لليهود. إنها صورة معتادة لولا أن المسيح فيها ينتعل خُفا عسكريا ويغطي وجهه قناع يقي من الغازات السامة. وهكذا، وكما شرح الفنان عمله، فإنه يصنع رمزا للإنسانية المتعطشة للدماء، ويستنكر الانجراف للحروب ما يتنافى مع روح الديانة المسيحية. وبالنسبة للفنان فإن المسيح وهو على صليبه يمثل رمزا للمعاناة، وهو ليس رسما دينيا بالضرورة. إن الفنان يستخدم الرمز المسيحي المعروف ويمنحه معنى مختلفاً (غير كنسي وربما معاد للكنيسة) كما أن الكنائس التي تزج بالناس إلى المقصلة إنما تخون إلهها بذلك. وكما هو معروف فقد خسر غروس قضيته أمام المحاكمة الأولى، بعد ذلك، وبرغم أن المحكمة لم تتوفر على أدلة دامغة لتجريم الفنان، إلا أنها قررت مصادرة وتدمير رسوماته المتداولة بأكملها، وعلى أثره غادر غروس ألمانيا مقرونا بخيانة الوطن والانتماء إلى البلشفية وذلك قبيل تولي أدولف هتلر منصب المستشار في شهر يناير من عام1933.
ويحدد المؤلفون موقفهم من قصة الفنان الألماني بقولهم:"بالرغم من أن التجديف المتعمد ممكن الحدوث، ولكننا يجب ألا ننسى شيئا مهما يتعلق بالهجاء والنقد باعتباره أسلوبا متعدد الأبعاد، فالصور واللوحات التي تظهر فيها الشخصيات المقدسة في سياق غريب أو سخيف أو كوميدي،ليست موجهة بالضرورة للتهجم على معتقد بعينه، بل إن العكس صحيح في بعض الأحيان، حيث يعمد الفنان بهذه الطريقة إلى نقد الأوصياء على تلك العقيدة واتهامهم بخيانة المبادئ الروحية وتشويه الإيمان. إن أسلوب التدخل في تصوير الرموز الدينية قد يكون بهدف التهجم على معتقد ما، وقد يكون من أجل الدفاع عن معتقد ما، ومحاولة لتطهيره واستعادة القوة العاطفية التي فقدها ذلك المعتقد، فيمكن للفنان انتقاد الكنيسة أو فضح الثقافة الشعبية التي تحولت فيها الصور والمشاهد المقدسة كمشهد الصلب والعشاء الأخير ... الخ منذ فترة طويلة إلى مجرد سلعة "(ص: 12)
يعرض المؤلفون تجارب ممثالة في روسيا المعاصرة ويشيرون إلى أنه، حتى لو لم تنطوي بعض الرسومات على نية لمعاداة الدين، إلا أنها تخاطر بالوقوع تحت طائلة القانون الخاص بحماية مشاعر المؤمنين، وهو قانون ما انفك يزداد قوة مع مرور الزمن. إن أي تراجع عن التقليد الكنسي المألوف يعده الكثيرون تجديفا، كما أن الدولة، بمساعدة الأجهزة القضائية والمحاكم، تدعم التوجه للدفاع وحماية الرموز المقدسة في اللوحات الفنية، ليس حمايتها من التدنيس البدني فقط، وهو أمر واجب، ولكن أيضًا من محاولة إعادة النظر في نماذجها الراسخة. ويقربنا المؤلفون من الصورة الواقعية في روسيا حول هذا الشأن عبر الرد الذي أرسلته وزارة العدل الروسية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بلوحة الرسام الروسي ألكسندر سافكو التي ظهرت في معرض "فن المحرمات 2006" حيث استعار سافكو في لوحته نقش الفنان الألماني اللوثري جوليوس شنور (1794 – 1872) التي تصور المسيح وهو يعظ فوق الجبل ولكنه استبدل رأس المسيح برأس ميكي ماوس. يكتب المؤلفون حول ذلك: "يمكننا أن نتعامل مع هذه الأعمال كما نريد، فنرى فيها إشارة ساخرة حول موضوع المجتمع الاستهلاكي أو نربطها بمستوى الذائقة المتدني لدى الجماهير. كل شخص يحكم عليها من زاوية نظره. إلا أن المحكمة الروسية قررت، وبكل سرعة وسهولة، أنه عمل متطرف واعتبرته تشويها متعمدا للرمزية الدينية".ويستنتج المؤلفون أن الكنيسة تتخذ من الشكل التقليدي للفنون الدينية أسلوبا إلزاميًا يجب التقيد به، وأن أي إعادة في تصوير الرموز المقدسة إنما هو بالضرورة الحتمية فعل من أفعال التجديف والتهجم.
يتميز هذا الكتاب بكشفه عن ظاهرة في المجتمع والفن يكاد التطرق إليها أن يكون معدوما، لا سيما في الفضاء الروسي العام. فباستثناء كتابات الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين، لا يعرف القارئ الروسي (غير المختص) أي كتابات تتناول فنون القرون الوسطى بصورة نقدية وتحليلية، وعلى الرغم من كون باختين رائدا في هذا المجال، بيد أنه بنى أبحاثه على نماذج محدودة للغاية، ناهيك عن أنها لا تتوافق غالبا مع الأفكار العلمية الحديثة حول ثقافة القرون الوسطى. ومع أن "كرنفال" باختين ظل ولفترة طويلة بحثا نموذجيا في مجاله، إلا أن الطلبة والقراء المهتمين بالقرون الوسطى لم يسعهم من خلاله سوىالتعرف على الجانب النظري من ثقافة القرون الوسطى، إذ غابت عن كتاب باختين المواد الإيقونية وغيرها من النماذج الفنية، الشيء الذي يتمثله هذا الكتاب الذي بين أيدينا أيما تمثيل، ويحتفي به كما ونوعا. إضافة إلى ذلك لا يقتصر كتابنا هذا على تقديم لمحة عامة عن الأساليب الفنية الدينيةوحسب، بل يحتوي على مراجع هامة للقراء المهتمين ووردتأسماؤها في ملحق الكتاب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، إلى جانب الروسية بطبيعة الحال.
--------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: معناة القرون الوسطى.
المؤلف: مجموعة مؤلفين.
الناشر: أ س ت/ 2018 موسكو باللغة الروسية.
عدد الصفحات: .416
*أكاديمية ومستعربة روسية
