أطباء وفلاسفة

Picture1.png

تأليف: كلير كرينيون ودافيد لوفيبفر

عرض: سعيد بوكرامي

ارتبط الطب بالفلسفة، والفلسفة بالطب منذ العصور القديمة، وقد تجلى ذلك في علاقتهما الجدلية بين توافق وتداخل وتقاطع وتعارض.لقد استغرق الطب عدة قرون للوصول إلى المستوى الحالي  من المعرفة، حتى أصبح انفصال الطب عن الفلسفة ومبادئها أمرا واقعا في عصرنا الحديث. وقبل أن يحدث هذا الانفصال بينهما، كانت العلاقة بين هذين التخصصين قوية ومتضاربة ومتقاربة في  كثير من الأحيان. ولسبر هذا التاريخ من العلاقات الدينامية، يقترح علينا كتاب "أطباء وفلاسفة" الصادر حديثًا خمس عشرة دراسة رصينة تركز على بعض الشخصيات المؤثرة في المجالين نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أفلاطون، أرسطو، جالينوس، المدارس التجريبية والمنهاجية، الرازي،ابن سينا، ابن رشد، القرن السادس عشر الإيطالي، لوك، كانط، كابانيس، والأطباء الفلاسفة في الجمهورية الثالثة، وكانغيليم أو ياسبرس. وبذلك يسمح لنا بإعادة اكتشاف أفكار مفكرين تناولوا العلاقة بين المجالين وتحيزوا إلى أحدهما، لأننا لسنا معتادين على دراسات لوك أو كانط كمفكرين كبيرين في مجال الطب.

تناولت فصول الكتاب المختلفة العلاقة بين الفلسفة والطب  من وجهة نظر معرفية، بمعنى أنها كانت مهتمة بما أنتجه الفلاسفة من منطوق معرفي حول الوضع العلمي للطب، لا نتحدث هنا، على سبيل المثال، عن مبادئ الفلسفة الأخلاقية التي يجب على الأطباء احترامها أو عدم احترامها، ولا نتساءل عما إذا كانت الفلسفة يمكن أن تكون بمثابة علاج عضوي أو علاج روحي. السؤال هو: هل الطب علم؟ إذا كان الأمر كذلك، أي نوع من العلم؟ هل هو علم مستقل لا يحتاج إلى الفلسفة أم العكس؟ هل مطلوب من الفلسفة تقديم مبادئ خاصة بالطب؟

بالنسبة لوضع الطب، يمكننا، على سبيل المثال، مقارنة أفلاطون وابن رشد، لأن أيا منهما لا يجعل الطب علمًا دقيقًا.وإنما يتعلق الأمر بممارسة، وبالتالي بما هو غير متوقع، لأن موضوعه لا يعتمد فقط على القياس أو الحساب.بالنسبة لابن رشد، فإن فن الطب هو فن عملي يعتمد على مبادئ حقيقية، نسعى من خلالها إلى الحفاظ على صحة الجسم. ليس الغرض بالضرورة من هذا الفن العلاج، بل القيام بما هو ضروري وفقًا للإجراء المناسب وفي الوقت المناسب، لأن الطب لا يتعامل فقط مع الأرقام، فهناك أحيانًا فجوة في الطب بين الهدف والشفاء والنتيجة. هذا لا يعني أن الدواء عبارة عن روتين بسيط، أو شيء يمارس بشكل أعمى، متبعا قواعد غير معروفة. إنه فن، لأن الطبيب لديه معرفة حقيقية، فهو يعلم أن العلاج من المرجح أن يشفي من هذا المرض أو ذاك، وهو يعرف السبب. إذا كان الرابط الذي يجمع الطب اليوم بالفلسفة يتعلق أساسًا بالأخلاق، فقد ركز الحوار بين التخصصين أولاً على الحالة المعرفية للطب، هل أفضل طبيب يجب بالضرورة أن يكون فيلسوفا؟ ماذا يمكن أن تتعلم الفلسفة من منهجية الطبيب؟ هل الطب تشخيص الحالة الفردية أم هو علم أو كلاهما؟

 تشير هذه الدراسات إلى أن المأسسة الحالية لفلسفة الطب يصاحبها أحيانًا نسيان للأصول التاريخية للتفكير الذي صاحب صياغة المعرفة الطبية. إن مقاربة الطب تقود الفلسفة أيضًا إلى استدعاء مفهومها كطريقة للحياة، أي مسألة تحسين رفاهية وصحة الإنسان، التي تنشأ بعد ذلك، في بيئة تقتحمها تقنيات علاجية جديدة تتغير باستمرار.

كما يتساءل هذا العمل الجماعي عن العلاقة بين الفلسفة والطب "في حقل نظرية المعرفة بدلاً من الأخلاق" (ص 9). يهدف هذا الانحياز إلى الابتعاد عن الأدبيات الضخمة حول أخلاقيات البيولوجيا لصالح التفكير في "الطب، ووضعه، وطرقه، وعلاقته بمجالات المعرفة الأخرى" ( ص 10). ولهذا المشروع الفكري بعدان: البعد الأول يهدف إلى تحديد ما إذا كان الطب مجالا مستقلا أو تابعا لأشكال أخرى من المعرفة (الفلسفة، العلوم الطبيعية، الفيزياء). والبعد الثاني، ينحصر في التفكير في نوع العقلانية الخاصة بالطب، والتي ليست علمًا ولا فنًا.

تعتمد الدراسات مقاربة كرونولوجية بحيث نجد القسم الأول يبدأ من أفلاطون إلى بداية العصر الحديث، ومخصص لدراسة النصوص القديمة وتلقيها في العالمين الغربي والإسلامي. في البداية يبرز توماس أوفريأنه حسب أفلاطون، تُمارس الممارسة الطبية في عالم حساس وشكاك وعشوائي، وهو ما يفسر لماذا يمكن أن يواجهه الفشل، رغم اعتماده على النظريات الحقيقية (ص 19-49). ثم، يؤكد دافيد لوفيبفر غموض موقف أرسطو فيما يتعلق بالطب. من ناحية، يلح أرسطو على الهوية المتشابهة بين الأطباء "الأكثر فلسفة" وبين علماء الطبيعة "الأكثر تميزا". من ناحية أخرى، فإنه يعترف بخبرة الفيزيائيين فيما يتعلق بالصحة والمرض مع التأكيد على الفصل بين الطب والفيزياء (الصفحات 51-83). علاوة على ذلك، يجادل بيير بيليجرين بأن الأطباء التجريبيين هم الوحيدون في العالم القديم الذين يستحقون المصطلح "إيجابي" لأنهم سعوا إلى انتصارات بلاغية أقل من النجاحات العلاجية (الصفحات 85-107). المقالات الثلاثة التالية مخصصة لجالينوس وشراحه ودارسيه. أولاً، يوضح فيرونيك بودون ميلو أن هذا الأخير يعتبر الفلسفة أمرًا لا غنى عنه بالنسبة للأطباء لأنها تعلّم القدرة على النقاش والجدل (الصفحات 109-128). ثانيًا، يؤكد ريكاردو تشيارادونا على أهمية المفاهيم الشائعة واللغة العادية في تطور الطب عند جالينوس: حسب طبيب مدينة بيرغامون، فإن المعرفة العلمية ليست تفسيرًا منطقيًا بسيطًا للحس السليم، لكنها لا تستطيع أيضا أن تعارضه صراحة (ص 129-145). وثالثًا، تهتم بولين كوتشيت بفكر أبي بكر الرازي (925 م)، الذي توسع في الإرث الطبي لجالينوس من خلال ربطه بالميتافيزيقيا ( 147- 169 ص). بينما يوضح جويل تشاندلير أن الطب عند ابن سينا ( 1198 م) يخضع للعلوم الطبيعية (ص. 171-195). ويظهر روبرتو لو بريستي ( 197-223 ص) وجهة النظر هذه حول الطب باعتباره خاضعًا للفلسفة الطبيعية بين المعلقين الإيطاليين لأرسطو في القرن السادس عشر، بينما يشرح أديلينو كاردوسو ذلك من خلال تجربة رودريغو دي كاسترو (1546 م). -1627 م)

وترتبط الجوانب البنيوية والمنهجية للنقاش بأن الطب لا ينفصل عن الفلسفة باعتبارها انعكاسا أخلاقيا وعمليا صارما للتفكير، وهذا يبرز تفوقه على القانون (ص 225-244). كرست المساهمات التالية، بحثها حول النصف الثاني من العصر الحديث، الذي يتميز بانعدام التواصل بين الطب والفلسفة. بينما تشير كلير غرينيون إلى أن الممارسة الطبية يمكن أن تغذي التفكير الفلسفي، بحجة أن "تفكير لوك حول حالة التنوع قد لعب، بلا شك، دورًا في تعامله مع مشكلة التنوع والمعتقدات الدينية "(ص. 245-269، اقتباس من الصفحة 267).

يبين بعد ذلك، ستيفاني بوشنو أن كانط حاول حلّ التوتر بين الطب والفلسفة من خلال تطوير نظام غذائي يُعرف باسم "فن العيش"، محاولا التوفيق بين التخصصين (الصفحات 269-293). أما ماري غايل، فتقترح أيضًا تحليلًا لكيفية تلقي كابانيس (1757-1808) للصيغة الهيبوقراطية "نقل الفلسفة إلى الطب والطب إلى الفلسفة" (ص. 295-319). تتساءل الباحثة عن "التحالف المعرفي" الذي اقترحه الطبيب الفرنسي: " يجب السماح لكليهما بأن يصبحا ما ينبغي أن يكونا عليه: فن للشفاء مبني على أسس المعرفة الناتجة عن الملاحظة المنطقية أي أنثروبولوجيا متجذرة في المعرفة الفزيولوجية للإنسان "(318).

فيما يتعلق بالفترة المعاصرة، فقد اهتمت ستيفاني دوبوي وتيبو تروشو بمهن الفلاسفة الطبيعيين الذين أصبحوا أطباء نفسيين في النصف الأول من القرن العشرين مشددين بشكل خاص على الدور الرئيسي لثيودول ريبو (1839-1916) في تطوير تقليد فلسفي حريص على ترسيخ علم النفس في دراسة الفيزيولوجيا وبالتالي الخروج عن الميتافيزيقا. بالإضافة إلى ذلك، يقوم أحد مسانديه - جورج دوما - بتنظيم عروض لحالات في مستشفى "سان آن" المخصص لطلاب الفلسفة والطب في جامعة السوربون. وتحتل هذه الأخيرة مكانة أساسية في تكوين العديد من فلاسفة ما بعد الحرب العالمية مثل مارلو بونتي أو سارتر أو فوكو أو كانغيلهيم (الصفحات 321-358). بالإضافة إلى ذلك، يعود بارتيليمي دوريف، الذي يعرف الفلسفة والطب بأنهما تابعان للتقنية. في هذا المقام يوضح أن هذا الموقف المتناقض يمثل إحباطًا لكل من دعاة رؤية الطب كفن يتجاوز بعده التقني تمامًا، ولأنصار الفلسفة كممارسة أخلاقية وليس فقط كتطبيق لعقلانية خارجية مطلقة إزاء المشكلات التي تحلها. في الواقع، كما يقول المؤلف، يستخدم جورج كانغيليم صيغة محيرة لجذب انتباه القارئ وتعريف الطب والفلسفة في علاقاتهما بالحياة، الأول كأسلوب "تغيير حياة الجسم" الذي يواجه تحديات الاستجابة للمعايير الخاصة " والثانية مثل" تقنية لمناقشة صحة المعايير لممارسة الاستقلال الذاتي "(ص. 365-388). أخيرًا، تؤكد إليزابيتا باسو على الإرث الغامض لكارل جاسبرز في "الفلسفة الجديدة للطب النفسي"، التي تُقتبس كثيرًا ولكن غالبًا بشكل مغلوط وتشير على الخصوص إلى أن جاسبر يعتبر "ممارسة الطبيب فلسفة ملموسة" كما أن الفيلسوف الألماني شارك مفهوم الكانغيليمي حول "العلاجية كتطبيق للعلوم أو، بعبارة أخرى، كتبعية للعلوم التقنية" (ص 408).

ينتهي الكتاب بخاتمة، تضع فيها آن ماري مولين، الطبيبة والفيلسوفة، معطيات فريدة عن"تاريخ الأنا"، وتعود إلى حياتها المهنية الطويلة والغنية في كلا التخصصين (ص 411-430). وعلى وجه الخصوص، حينما طورت فكرة أن "ممارسة الطب فلسفياً هي في البداية إدراك لعلاقتها بالزمان" (ص. 428)، وهذا يعني التريث لإعادة تقييم مبادئ الطب في عصرها، لأن تاريخ الطب هو تاريخ متواليات النماذج المتنافسة.

يحقق هذا العمل الغني والكثيف هدفه المعلن في التأكيد على العمق التاريخي للتفكير في العلاقات المعرفية بين الطب والفلسفة. ومع ذلك، فإن عملا تحريريا أوسع قد يسمح بإجراء حوار أفضل بين المساهمات، لأنها، مع بعض الاستثناءات، جزء من القضايا المذكورة في المقدمة بعمق معرفي متميز، لكنها نادراً ما تناقش الأطروحات المقدمة في المقالات الأخرى للكتاب. من الصعب أيضًا ألا نتفاجأ بقراءة أنه "حتى وقت متأخر، لم ير المؤرخون انفصالًا معرفيًا بين أبقراط وكلود برنارد" على الخصوص، عندما يكون هذا التأكيد مدعومًا بمرجع من عام 1953 - أو  كتاب يعود إلى 1966 ويعتبر "حديثًا نسبيًا" (صفحة 90) علاوة على ذلك، إذا كان الكتاب يقدم نفسه باعتباره "تاريخًا" للعلاقات بين الفلسفة والطب، فإن هذا التاريخ داخلاني بشكل أساسي أي يهتم بفلسفة العلم واجتماعيات المعرفة ويقوم على إعطاء الأسبقية للعوامل الداخلية في تحديد المعرفة والحقيقة والفعل.غني عن القول أن تحليل الخطاب له الأسبقية على تحليل المجتمعات في كتاب فلسفي كهذا، لكن قد يبدو ما كتبه كابانيس عن الثورات وإصلاح الطب بين عامي 1795 و1804 إشكاليا دون الإشارة، على الأقل، إلى الثورة الفرنسية وإعادة تنظيم تدريس الطب الذي جاء نتيجة لها. في بعض الأحيان يتطرق الكتاب إلى القضايا السياسية والاجتماعية ولكنها في الغالب، تبقى مهملة. وكذلك أهمية الربط المكاني لإنتاج العلوم، الذي تؤكد عليه الأنثروبولوجيا التاريخية للمعرفة. أخيرًا، من خلال إثبات العلاقة بين الفلسفة والطب، يميل الكتاب إلى اعتبار هذين المجالين واقعين متقاربين، وعلى الأقل مجالين متشابكين بشكل كافٍ منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا،كي يكونا موضوع أبحاث أكاديمية متنوعة تتعمق في إيجاد العلاقة بين الطب القديم والمعاصر والفلسفة، ليس من أجل إحياء معرفة قديمة بمعرفة جديدة، ولكن من أجل غرس روح الفلسفة في الممارسات الطبية بغية التفكير في جوهر الإنسان ومصيره ومستقبله داخل هذه المجالات والممارسات التقنية، ومن بينها الطب الذي أصبح في معظمه، كيانا حديديا، بلا روح.

----------------------------------------------

التفاصيل :

الكتاب: أطباء وفلاسفة

المؤلف: كلير كرينيون ودافيد لوفيبفر

الناشر: منشورا CNRS .فرنسا

تاريخ النشر: 2019

عدد الصفحات: ص 512

اللغة: الفرنسية.

 

 

أخبار ذات صلة