تأليف: ياكوف كادمي
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا | أكاديمية ومستعربة روسية
فضلاً عن روح المغامرة التي تحلى بها، فقد واجه مؤلف هذا الكتاب (ياكوف كادمي) على الدوام تحديات جمَّة، ولكنه لميتهرب من مواجهتها، فمن الانخراطفي معاركيائسةوفي حروب غير موثوق بجدواها ونتائجها، كصراعهمع النظام البيروقراطي الشيوعي من أجل الهجرة من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل،أومشاركته في حرب "يوم القيامة" التي ذهب ياكوف كادمي إليها منضماً إلى كتيبة إيهود باراك (رئيس الوزراء الإسرائيلي في المستقبل) أو العمل لاحقاًفي المخابرات الإسرائيلية الأكثر سرية "ناتيف". لم يتوقف طموح ياكوف كادمي عند نجاحاختراقه للستار الحديدي للاتحاد السوفيتي وفراره إلى إسرائيل، حيث كان من اليهود الأوائل الذين هاجروا من روسيا إلى إسرائيل، بل واصل طريقه المهني وصعد درجاته حتى أصبح رئيسا لشعبة الـ"ناتيف"(وهي شعبة فريدة من نوعها، مهمتها تنظيم انتقال اليهود إلى إسرائيل) فضلاً عن أنهحقق تغييرا جذريا في سياسة هذه المؤسسة الإسرائيلية. وبفضل جهود كادميتمإخراج عدد هائل من اليهود من الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات القرن الماضي.
يرسم هذا الكتاب الذي صدر حديثا في موسكو باللغة الروسيةمشهدا بانوراميا يغطي فترة تاريخيةحاسمة لليهود ولدولة إسرائيل. كما يسلط الضوء على حيثيات مقاومة النظام السوفيتي الذي كان تقدير صرامته، مثلما يشير الكاتب، تقديرا مبالغا فيه سواء في إسرائيل أو في الغرب. وهو في الوقتنفسه (أي الكتاب) تحليل نقدي للصراع بين الإدارات في هياكل الدولة الإسرائيلية، وأخطاء قيادتها العسكرية التي أسفرت عن خسائر غير مبررة للجيش الإسرائيلي. وإلى جانب هذا وذاك يقدم لنا الكتاب وصفا لحالات التمييز الخطيرة ضد اليهود السوفييت في إسرائيل، والدعوة إلى إصلاحات من شأنها أن تخرجالبلاد من الأزمة النظامية التي وقعت فيها اليوم.
ويوجه كادمي في كتابه نقدا حادا لا هوادة فيها للجيش الإسرائيلي والمؤسسات الإسرائيلية ونخب السلطة، من اليمين ومن اليسار،وهو نقد مقرونبأفكار الكاتب حول مختلف الأحداث في الحياة العسكرية والسياسية لإسرائيل، وهو أيضا نقد معززبوجهة نظر "الوافد الجديد" الذي بذل كل ما بوسعه للعثور على مكانته في "البلاد الجديدة".
يعرض المؤلف صورة كاملةلتاريخ المسألة اليهودية في الاتحاد السوفيتي. فمن المعروف أنه، وحتىقبل الحرب العالمية الثانية، لم تشكل المسألة اليهودية قضيةتستحق الالتفات إليها من قبل القيادة السوفيتية، حيث رأى زعيم الثورة الاشتراكية لينين، ومن بعدهستالين، حلاً طبيعيًا لهايكمنفي الاستيعاب التدريجي لليهود في المجتمع الروسي والسوفيتي. كانت المنظمات والحركات المتطرفة هي وحدها التي تعرضت للاضطهاد، وقد كان البادئ في التنكيلبالحركة الصهيونية وتصفيتها من اليهود السوفييت أنفسهم،ونعني بهم الأعضاء في الحزب البلشفي. ولكن،وبعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبحت الولايات المتحدة العدو الرئيسي والأخطر للاتحاد السوفيتي(حسب نظرة ستالين للأمور)وحين غدت أمريكا أكبر وأقوى مجتمع يهودي في العالم، حينها فقط أثار وجود اليهود في روسيا مختلف النوازع في الدولة السوفيته، فأغلق الطريق أمام اليهود للخروج إلى دولة إسرائيل الناشئة وتم عزلهم داخل الستار الحديدي.
لا يقتصر ياكوفكادمي على وضع تحليلعام للمسألة اليهودية في الاتحاد السوفييتي، فيورد في كتابهوقائع مؤثرة وتفاصيل جانبية ولكنها غاية في الرمزية وتدلل على نمط من الأفكار كان في طور نشوئه آنذاك، يقول في هذه الصدد: "في ريغا (عاصمة لاتفيا)ترأس جوزيف شنايدر مجموعة طلبة لدراسة العبرية. كان شنايدر قناصًا،وإلى جانب تدريسه اللغة لطلبته، كان يلقنهم طريقة استخدام السلاحويقول لهم: عندما نرحل إلى بلادنا يجب أننكون مجهزين بمعرفة اللغة وبكيفية إطلاق النار كذلك.وقد تم اعتقال شنايدر بعد حملة سيناء بتهمة عجيبة تمامًا: التخطيط لاغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر (...) في ذلك الوقتقامت أحواض بناء السفن في ريغا ببناء غواصات للأسطول المصري، وزار ناصر عاصمة لاتفيا أثناء زيارته للاتحاد السوفيتي. وقد اندهش الجميع من الاتهام الذي اخترعه المحقق لشنايدر، لكن شنايدر اعترف لي بعد سنوات إسرائيل قائلاً: اضحك ما شاء لكالضحك ولكنني فكرت حقًا في اغتيال ناصر"(ص: 50).والحال كذلك فإنَّ حدثا كحرب الأيام الستة لا يمكن أن يغيب عن كتاب مثل هذا، فنجد أن المؤلف يتحدث عنها ولكن من وجهة نظر ترى الحرب وتقدرها بمنظار التأثير على نضال اليهود في الهجرة إلى إسرائيل. فيكتب أن ظهور الجيش الإسرائيلي في مرتفعات الجولان خلق انطباعاً بأن الهجوم الإسرائيلي على دمشق وسقوط النظام الموالي للسوفيت في سوريا كان محتملا، وهو ما دفع الاتحاد السوفيتي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل،وبالتالي توقفتيار المهاجرين إلى إسرائيل الذيكان قد بدأ لتوه في اكتساب ديناميكيته. ومثلما يؤكد كادمي فإن هذا الوضع الدقيق نتج عنهإيقاظ الدوافع الكامنةعند اليهود وحفزهم لبذل مجهود مضاعف لهجرةاليهود السوفييتإلى إسرائيل.يقول الكاتب في هذا السياق: "هناك جانب آخر من حرب الأيام الستة وهو أنها وضعت إسرائيل أخيرًا في مركز اهتمام يهود العالم. فتحت تأثير هذه الحرب بدأت عملية استثمارقوة ونشاط الشعب اليهودي حول العالم لصالح إسرائيل، وأخيراً انتهت الخلافات بين المنظمات اليهودية بشأن إعادة توطين اليهود في إسرائيل (...) وقدألهب انتصار إسرائيل في الحربإلهام اليهود وأدى إلى نمو التضامن الوطني معهم في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، ما سرّع مناتخاذ إجراءات أكثر حسما باسم إسرائيل "(ص:51).
وبحسب نظرةمؤلف الكاتب فإن موظفي"ناتيف" ودوائر المخابرات الإسرائيلية كانوا قاصرين عن فهم جوهر العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والدول العربية بشكل كامل،وكانالرأيالسائد في إسرائيل أن الكشف عن تفاصيل هجرةاليهودمن الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل أمر غير مقبول،معزيةرأيهاهذابخشية الاتحاد السوفيتيمن ضغوط الدول العربية لوأن التفاصيل انتشرت، الأمر الذي سيعرضالعلاقات السوفيتية العربية للخطر. ولكن،وكما يشير كادمي، فإن السلطات السوفيتية لم تطالب قط بالاحتفاظ بالتقارير المتعلقة برحيل اليهود من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل في طي الكتمان.يقول الكاتب مفندا هذا الرأي: "على الرغم من كل الادعاءات التي ابتدعها ممثلو الدول العربية وعبروا عنها في مختلف المناسبات، فإن رحيل اليهود من الاتحادالسوفيتي، وهم يحسبون بعدة مئات في السنة، يقابلهم مليون شخص جاءوا من الدول العربية نفسها"(ص: 60).
ويحلل كادمي طريقة العمل في الشعبة التي عمل فيها لسنوات عديدة،كما يقارن بين النماذج المختلفة لهجرة اليهود إلى إسرائيل قادمين من مختلفبلاد العالم، ويخلص إلى أن النهج السوفيتي كان ذا طابعأيديولوجي واضح. فعلى سبيل المثال حاول موظفو "ناتيف" معرفة ما إذا كان من الجائز اتخاذ النموذج الروماني لضمان تحرير اليهود وخروجهم من القبضة الحديدية السوفيتية. ففي كلا البلدين، السوفيت ورومانيا، كان النظام الشيوعي على الطراز السوفيتي هو السائد،إلا أن رحيل اليهود من رومانيا تم مقابل رسوم حددتها السلطات الرومانية كتعريفة لكل يهودي وذلك وفقًا لشهاداته العلمية ووضعه الأسري وعمره وما إلى ذلك. وكمايذكرالمؤلففإنردةفعلالمسؤولينالسوفيتكانت: "قاسية وصعبة للغاية، وبنبرة ملؤهاالازدراء والاحتقار أجابوا على طلب إسرائيل: نحن لسنا رومانيين ولا نتاجر بالبشر"(ص: 61).
ويتوقف المؤلف عند المساهمة التي قدمها شخصيًا لتحسين عمل "ناتيف"،فمنالإجراءاتالتيأقرها، توفيرالحمايةلليهودفيبلادالمصدرمن بطشالسلطات،بلومرافقتهمفيحالةوجوداحتماللوقوع تصادممعالسلطاتالمحلية، فضلا عن أنهساهمفيمشروع منح الجنسية لليهود الذين منعهم الاتحاد السوفيتي من السفر إلى إسرائيل.
خلافاً عن ذلك ينتقد كادمي سياسات إسرائيل فيما يتعلق بأمن مواطنيها ويعبر عن فكرتههذه بطرحه السؤال التالي والإجابة عليه: "ما هو هذا الشيء الذي نسميه الثأر؟ إن دولة إسرائيل تتميز حقًا بموهبة الكلام الفارغ. إن ما نعرفه عن القصاص شيء آخر يختلف عن الثأر. إن القصاص يبدو أكثر جمالية وثقافة. فهل ننتمي إلى قبائل وحشية بربرية تقدس عادات الثأر الدموية؟ ربما نعتقد أننا نقوم بالثأر ولكن بطريقة ثقافية! ولكنأليسالثأرفيجوهرههوالثأر مهما تبدلت لبوسه؟إن الأشخاص الذين يتقيدون بعادة الثأر يتم تقديمهم إلى العدالة،ولكن عندما تُقدم الدولة على ممارسة نفس هذه العادة فإن هذه سياسة شرعية وعادلة. لقدتم تقليص وتجفيف هذه السياسة وحصرها علىالغرائز الحيوانية البدائية التي لا مكان لها في المجتمعات المتحضرة، ولكن يبدو أن دولة إسرائيل تفضل الاحتفاظبممارسة العداء الدموي القبلي كوسيلة لمنع الإرهاب، ولكن، وبالرغممن كل الثأر الذي حدث إلا أنهم لم يحققوا شيئا(...)إن هذه العادة المتمثلة في رد الفعل الغريزي تكمن بعمق في طبيعة المجتمع الإسرائيلي ذاته وفي مكوناته العسكرية والسياسية وهيموجودة حتى اليوم".
(ص: 455-456).
يقوم المؤلف، وبعد أن شهدالآلاف من حالات الإذلال والإيذاء والاستغلال والعنصرية والتمييز ضد اليهود القادمين إلى إسرائيل من الاتحاد السوفيتيفي طرح أسئلة حساسة تضرب في عمق التشكيلة المجتمعية الإسرائيلية، ومن بين ما ذكره من أسئلة: 1)ما الذي يحدد العلاقات الأكثر تعقيدًا بين أولئك الذين جاءوا إلى إسرائيل من الاتحاد السوفيتي السابق وبين أولئك الإسرائيليين الذين التقوا بهم في البلد الجديد؟ 2) كيف ينظر القادمون الجدد إلى إسرائيل والإسرائيليين، وكيف كان رد فعل الوافدين الجدد على الاستقبال الذي لم يتوقعوه؟ 3) كيف ستبدو دولة إسرائيل من غير اليهود الذين أتوا إليها من الاتحاد السوفيتي والدول التي نشأت على أنقاضها؟ ويجيبعنهذاالسؤال: سيكون اقتصاد إسرائيل أقل بنسبة 25٪ إن لم يكن أقل من ذلك. وسنبقىمنغير صناعة عالية التقنية. وسينقص عدد جنودنا بنسبة20٪. سيختلفنظامناالسياسي والديموغرافي على نحو كلي، وبعدهاسنطرحالسؤالالتالي: هل سيكون لهذه الدولة الضعيفة نفس القدرة على مواجهة الصعوبات التي تتشكل أمام إسرائيل اليوم؟لقد وصل هذا المليون من اليهود السوفيت إلى إسرائيل عن طريق الصدفة، وكان بإمكانهم الرحيل إلى بلاد غير إسرائيل. ولكنالواقع يقول إنهبدون هذا المليون لوقعت إسرائيل في واحدة من أخطر أزماتهافي تاريخها. بعبارة أخرى فقد كنا عشية التسعينيات على شفا أزمة خطيرة لكننا لم ندرك ذلك على الإطلاق والفضل يعود إلى هذا المليون.
في الفصل الأخير يدق كادمي ناقوس الخطر وينبه إلى أن دولة إسرائيل تمر بأخطر أزمة نظامية في تاريخها. ومثلما يشير فإن الشعب اليهودي فقد دولته ثلاث مرات على مر التاريخ:سقط مرتين ودُمرت مملكة يهوذا في المرة الثالثة.يقول الكاتب:"ها هي دولة إسرائيل أمام الجولةالرابعة، وفي رأيي إنها الجولة الأخيرة. لنيكونثمةالمزيد من الجولات. لقدتمكن موظفونا عبر الاستفادة من التطورات الدولية والإقليمية من إعادة إنشاء دولتهم وذلك على الرغممن صعوبة الفرص وخلافا للمنطق التاريخي. لكن اتضح أن ضمان وجود الدولة لا يكفي لحمايتها (...)إن الأحداث المثبتة في هذا الكتاب هي انعكاس جزئي لهذه الأزمة. وإذا لم تُقدِم دولة إسرائيل على إصلاحات عامة وجوهرية وجذرية لهياكل الدولة وأنظمتها في غضون السنوات المقبلة فمن غير المرجح أن تستمر الدولة حتى منتصف القرن الحادي والعشرين،أي بحلول قرن علىإنشائها، ولن يكون وصول أكثر من مليون يهودي آخر إلى إسرائيل سوى تأجيل النهاية". (ص: 463)
---------------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: حروب غير موثوق بها.
المؤلف: ياكوف كادمي.
الناشر: إيكسيمو/ 2018 موسكو باللغة الروسية.
عدد الصفحات: 480
