استعادة الفلسفة: بيان ثقافي تعددي

Picture1.png

تأليف: بريان فان نوردن

عرض: محمد الشيخ

قد سمعنا عن "المواطنة المتعددة الثقافات"، وعن "جماليات التعددية الثقافية"، وعن "المجتمع المتعدد الثقافات"، وعن "الدولة الليبرالية المتعددة الثقافات"، وعن "التربية المتعددة الثقافات" ... وها قد جاء الدور على الحديث عن "الفلسفة المتعددة الثقافات". هذا الكتاب إدانة لاقتصار الجامعات الغربية على تدريس لون واحد من الفلسفة ـ هو الفلسفة الغربية بالذات ـ وسعي نحو "مقاربة تعددية ثقافية للفلسفة" تستوعب الفلسفات الأخرى الصينية والهندية والإسلامية والمسيحية واليهودية والأهلية ...

في البدء كانت ثمة مقالة رأي(عبارة عن تدوينة) أشبه شيء تكون بالبيان كتبها المؤلف بريان فان نوردن ـ وهو مؤلف وناشر ومترجم أمريكي لأحد عشر كتابا في الفلسفة الصينية من أهمها: مدخل إلى الفلسفة الصينيةالكلاسيكية (2011)، قراءات في الفلسفة الصينية المتأخرة (2014)،وأخيرا: استعادة الفلسفة: بيان تعددي ثقافي (2017) ـ وزميله جاي جارفيلد ـ وهو أستاذ أمريكي متخصص في الفلسفة البوذية من أهم أعماله: الميراث الفلسفي للهند والتبت (2016)، لماذا البوذيةمهمة بالنسبة إلى الفلسفة (2015) ـنشر في الملحق الثقافي لمجلة نيويورك تايمز لشهر مايو من عام 2016 تحت عنوان: "وماذا لو كانت الفلسفة لا ترغب في التعددية. فلنسم الأشياء بمُسمياتها". في النهاية كانت التدوينة دعوة صريحة إلى شعب الفلسفة المتمركزة على الغرب أن تسمي نفسها صراحة: "شعب الفلسفة الأنجلو-أوربية"، فلا تتحرج آنها عن التعبير عن عدم اهتمامها القصدي بما يقع خارج ناموساللون الطاغي الفلسفات: الفلسفة الغربية. وقد أحس المؤلفان أنهما نكآ جرحا لا يندمل: شوفينية شُعَب الفلسفة بالولايات المتحدة الأمريكية.

والحق أن الفيلسوفين لم يكونا يعتقدان أن بيانهماذاك سوف يثير كل تلك الزوبعة التي أثارها. وكان أصلالمقالة/التدوينة/البيان نفسها محاضرة حول موضوع "الأقليات في الفلسفة" كانت قد استضافتها جامعة بنسلفانيا عام 2016. هذا مع تقدم العلم أن هذه الندوة كان قاطعها العديد من أهل الفلسفة بالولايات المتحدة الأمريكية لاعتبارهم ألا جدوى من الإصغاء إلى أصوات الفلسفات غير الغربية، حتى ولو كان الطلبة، وليس الأساتذة، هم الذين تكفلوا بتنظيمها لشعورهم بالحاجة إلى الإطلاع على هذه الفلسفات. وكان أمل المحاضرين أن تفكر شُعَب الفلسفة في أمريكا بمراجعة مقرراتها باستدماج الفلسفات غير الغربية في برامجها. وذلك على الرغم من كل التحججات التي ما فتئت تتحجج بها هذه الشعب: ضعف الميزانية، عدم وجود متخصصين في الشأن الفلسفي غير الغربي، غياب المعرفة باللغات غير الأوربية، تزاحم المقررات ... وهذا الكتاب محاولة للرد على كل هذه التعللات والتحججات والدعاوى.

على أن ما فوجئ به صاحبا مقالة الرأي إنما هو حجم الهجوم "العنصري" ضد دعوتهما إلى فلسفة متعددة الثقافات لا تحفل بالفلسفة الغربية وحدها، وإنما تنفتح على كل فلسفات العالم. لذلك جاء الكتاب محاولة لرسم مستقبل للفلسفة خارج ضيق أفق برامج الفلسفة الغربية، وبمعزل عن موجة العداء لكل فلسفة غير غربية.

يقر صاحب الكتاب أن كتابه هذا، شأنه شأن المقالة نفسها، كتاب "سجالي" و"استفزازي" عن تعمد وقصد. وذلك أملاً من صاحبه في أن يثير الكتاب النقاش وأن يوقظ الوعي. وهو كتاب أراد له صاحبه ألا يخاطب أهل الاختصاص من الفلاسفة وحدهم، وإنما أن يعنى بمخاطبة الجمهور الواسع. وهو يطمح إلى أن يساعد أولئك الذين يريدون أن يتعلموا أكثر حول ما هو خارج ما يسميه "رسوم ـ أو قانون أو ناموس ـ الفلسفة الأنجلو-أمريكي".

هو إذن كتاب مؤذن بالحديث عن "الفلسفة ذات التعدد الثقافي" أو "الفلسفة المتعددة ثقافيا"، ضدا على ما يدعوه المؤلف "شُعب الفلسفة المتمركزة تمركزا غربيا على الذات".

والحال أنه تعددت دعاوى النزعة المركزية الغربية ـ التي ترى ألا فلسفة سوى الفلسفة الأمريكو-أوربية ـوالدعوى واحدة: من دعوى عدم أهلية الهنود الأصليين بأمريكا للتفلسف، إلى اتهام الرجلين بالخضوع إلى منطق "التقويم الثقافي" ـ تلك النزعة التي اجتاحت الجامعات الأمريكية وفرضت على الأساتذة منطق: "قل" و"لا تقل" (قل، مثلا، المختلف لونا، ولا تقل: الأسود)، فإلى الادعاء بألا قيمة للفلسفات غير الغربية ...

وقد أثار مقدم الكتاب ـ جاي جارفيلد ـ حجتين (تِعِلَّتين) لطالما توسل بهما الداعون إلى الاقتصار في برامج الفلسفة الجامعية بأمريكا على الفلسفة الغربية دون سواها:

واحدة لباحث فضل عدم ذكر اسمه مفادها أنه على الرغم من أن الحكيم الصيني الشهير كونفوشيوس قد توفر على بعض الأفكار الفلسفية "الجيدة"، فإن الصينيين لم يفلحوا أبدا في إنتاج حواشي فلسفية على متنه؛ ومن ثمة ما تأسس أبدا تقليد فلسفي حق في الصين. والرد على أمثال هذه الدعوى يكون بالكشف عن جهل أصحابها بتاريخ الفلسفة الصينية الثر الحافل بالحواشي، كما بافتراض العكس: لو فرضنا أن باحثا صينيا ذكر أن الغرب أنتج فيلسوفا أصيلا ـ هو الفيلسوف الإغريقي هرقليطس ـ ولم ينتج الغرب حوله أية تحشية، لسُفِّه رأي هذا الباحث وجُهِّل. هو ذا ما ينبع عما يسمى "امتياز الإنسان الأبيض". وهو رأي اعتباطي راسخ: من تربى على التقليد الأوربي يعتقد أن محيط النصوص الأخرى لا قيمة له، فلا تساوي عنده مكتبة شرقية بأكملها نصا غريبا واحدا ولا تكافئه.

وقد كتب أحدهم متعللا: "ما كل حكيم وخيّر بفيلسوف، ولا ينبغي له"، مكرسا بذلك كل الأحكام المسبقة والآراء الفطيرة غير الخميرة التي تمتح من النزعة العرقية المركزية الغربية. والذي عنده أن الفلسفة إنما ولدت في جمهورية أفلاطون؛ ومن ثمة كانت الفلسفة ـ كل الفلسفة ـ غربية المنشأ والمسار والمسير والمصير. وما كانت فلسفة الآخرين ـ إن هي كانت ـ سوى حكمة أديرة ومعابد لا صلة لها البتة بالفلسفة بمعناها الأحق. وضرب الرجل مثلا ونسي عيبه:لئن هو مثّل أحد لفلسفة أفلاطون بأمثولة الكهف، عند من لا يعرف إلا الفلسفة الصينية، لما عد أفلاطون فيلسوفا، ولما عدت أمثولاته فلسفة، وإنما عده راوية خرافات، بل ومن القُصَّاص الأولين.

وثانية هي الأخرى، فإن شُعب الفلسفة بالغرب شُعب متمركزة على الغرب بأشد تمركز يكون، وقد تصورت الفلسفة على أنها استقصاء عقلي حول طبيعة الواقع، أو كما قال الفيلسوف الأمريكي ولفريد سيلرزهي بحث في كيف تتعالق الأشياء في ما بينها البين، في حين تعتبر هذه الشعب "التقاليد الحكمية الشرقية" ممارسات غير عقلانية لتفكير أسطوري أو شيئا من هذا القبيل. ومن ثمة يعتبر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس والفيلسوف التيبتي شاندراكيرتي، على سبيل المثال، غير صاحبي مذهبين فلسفيين. وكما يقول المثل: "من أراد أن يقتل كلبه يتهمه بالسعار"، فكذلك من يريد التخلص من الفلسفات الآسيوية والإفريقية والأهلية يتهمها باللاعقلانية، فينفي عنهما كل تميز واختلاف وتنوع، كما لو أن الواحد منا اعتبر الطعام الإيطالي هو الطعام ولا طعام سواه.

والدعوى البديل التي يدافع عنها الكتاب أنه بعد أن تبين بأن معظم الفلاسفة المحترفين لم يدرُسوا ولم يدرِّسوا أبد الدهر الفلسفات غير الغربية، ولم يثمنوا جهود من يفعل ذلك، ولا هم اهتموا في البرامج التي وضعوها بأي برنامج فلسفي غير غربي، فإن من شأن المنصفين من المتفلسفة والباحثة أن يعتبروافي المتن الفلسفي غير الغربي، وسيجدونه، على عكس ما هو شائع، متنا يستحق ألف التفاتة والتفاتة، متن فلسفي حقيقي، مبني بناء حجاجيا دقيقا ... أكثر من هذا، سوف ينتبه إلى أن العديد من الباحثين الذين عنوا بالأدبيات غير الغربية خير عناية يوافقون على أنها تقع على نفس القدر من القيمةكالفلسفة الغربية، وأنها تطرح القضايا عينها التي تطرحها الفلسفة الغربية، وإِنْ كان من منظورات مباينة، وأنها تقدم حججا ومواقف مختلفة.

وما يترتب عن ذلك أن تجاهل هذا التراث الفلسفي لأمر معيب معرفيا وأخلاقيا:

معرفيا؛ لأنه يقتضي جهالة بالحجج والمواقف والمنظورات في مسائل هامة، وهو يحد حتى من قيمة الفلاسفة الغربيين حين يقرأهم قراء غير غربيين.

وأخلاقيا؛ لأنه ينم عن موقف عنصري متمكن من النفوس راسخ، لا يدل على نية حسنة. وهذا لا يعني أن من يتبنوه يتقصدون أن يكونوا عنصريين، وإنما هم غير عنصريين فرادى عنصريون من حيث البنية.

إن من شأن إسقاط كل فلسفة آسيا وإفريقيا والهند والهنود الحمر من المقررات الدراسية وإهمالها في البحث بتعلة أنها أقل قيمة من الفلسفة المنتجة داخل الثقافة الأوربية أن ينم عن رؤى عنصرية حتى وإن لم تكن مقصودة بالمحل الأول. وبغاية التجاوز عن هذه الرؤية يدعو المؤلف إلى استعادة الفلسفات غير الغربية ـ ومن ثمة كان عنوان الكتاب.

هذا مع الإشارة إلى أنَّ استدماج الفلسفات غير الغربية في البرامج الجامعية يبقى مستعصيًا، وذلك في الوقت الذي أفلحت فيه مباحث أخرى (شأن تاريخ الفن وتاريخ الأدب) في فعل ذلك. فلِم هذا الاستثناء يا ترى؟ هذا ما يحاول الكتاب الحفر فيه. يدافع صاحب الكتاب عن فكرة ضرورة تجاوز هذه المطاب. وهو يرى أنه من حسن الحظ ليس من الصعب بالكلية مداواة هذا الوضع العليل. يكفي أن تتوفر إرادة جماعية وأن يبذل في ذلك مجهود جماعي.ومن هنا، يدعو إلى أن يبدأ الغربيون بعامة والأمريكيون بخاصة إلى شُعبه وجرائده وتربيته الفلسفية بحسبانها غير ملائمة، بسبب وجود ثغرات فيها، وأن يروا في ملء هذه الثغرات حاجة فكرية داخلية وفي نفس الوقت آمرا أخلاقيا. والكتاب، في مجمله، يحاول أن يعلمهم كيف يقبلوا على فعل ذلك بتهجين الفلسفة الغربية مع غيرها من الفلسفات. ومن هنا جاء العنوان الفرعي للكتاب: "بيان تعددي ثقافي".ويذكر المؤلف أنه من بين 50 أهم شعبة فلسفة في أمريكا، فإن ستة منها فقط تدرس الفلسفة الصينية، وستة فقط من كل شعب الفلسفة بالولايات المتحدة الأمريكية تهتم بالفلسفة الهندية، فقط اثنتان منهما مصنفتان ضمن لائحة الخمسين، وفقط اثنتان تدرسان الفلسفة الأهلية لسكان أمريكا الأصليين. ولا واحدة تقريبا تدرس على نحو منتظم الفلسفة الإفريقية. وحتى الفلسفات المتأثرة بالتقليد الإغريقي ـ الفلسفات الأفرو-أمريكية، الفلسفة المسيحية، الفلسفة القارية، الفلسفة النسائية، الفلسفة الإسلامية، الفلسفة اليهودية، الفلسفة اللاتينية الأمريكية ـ لا يتم الاهتمام بها اللهم إلا في ما ندر.

ويتساءل المؤلف: ما الذي تدرِّسه إذن هذه الخمسون شعبة فلسفة الأشهر بأمريكا؟ ويجيب: كل واحدة منها قد تجد فيها مادة موقوفة على دراسة الفيلسوف الإغريقي القديم بارمنيدس، مع العلم أن كل ما خلفه هذا الفيلسوف إنما هو قصيدة مبتورة، بينما لا تخاطر بتدريس متون أخرى أوفى وأوفر.

وهكذا يظهر أن ضيق أفق شُعب الفلسفة أمر إشكالي حقا: لماذا، مثلا، لا تستحق الفلسفة الصينية هذا الاهتمام والصين هي ما هي: قوة اقتصادية ناشئة مبهرة، تراث فلسفي تليد عريق، فيلسوف كونفشيوسي له من الأتباع الملايين ... وأن بالأولى تسمية هذه الشعب باسم "شعبة الفلسفة الأوربية والأمريكية". ولمن قد يحاجج بأن الفلسفات غير الأوربية تدرس ضمن شعب الدراسات الآسيوية والإفريقية والأمريكية اللاتينية، يجيب المؤلف: ولماذا لا تحل شُعب الفلسفة بأمريكا نفسها وتتبع إلى شُعب الدراسات الغربية أو الأوربية؟ويختار الفيلسوف من بين التِّعِلّات التي يتعلل بها الرافضون لتدريس غير الفلسفات الغربية بالغرب تِعِلَّتَيْنِ: الأولى هي "تعلة الجودة". وتقول هذه العاذرة بأن الفلسفات غير الغربية أقل جودة من الفلسفات الغربية. وتعتبر الجودة هنا صنو العقلانية، فهي فلسفات أقل عقلانية من الفلسفة العقلانية بامتياز: الفلسفة الغربية. وجواب المؤلف أنه حين يزعم البعض من أنصار هذه الحجة/الماحلة بأن الفلسفات غير الغربية ما كانت بفلسفات حقيقية، أو أنها على الأقل ما كانت هي بالفلسفات الجيدة، فليس ذلك أبدا بسبب من كونهم خبروا هذه الفلسفات من مظانها، وبداعي كونهم قتلوها بحثا وكونوا حولها رأيا واضحا خميرا غير فطير، وإنما مرد ذلك إلى جهالة منهم بهذه الفلسفات. إذ ما كان من شأن من يطلع على هذه الفلسفات الشاردة عن دائرة الطوق الغربي بعقل منفتح أن يعترف بأنها فعلا، هي، أولا، فلسفات، وأنها بالفعل، ثانيا، فلسفات هامة.

والثانية هي "تعلة ماهوية ومتمركزة على العرق". وشأن أصحابها أنهم يتعللون بجنيالوجيا (نسابة) الفلسفة: لما كانت الكلمة ـ الفلسفة ـ إغريقية، فلن يكون بالتبع الشيء الذي تحيل إليه ـ فعل التفلسف ـ إلا إغريقيا، وما عدا الإغريق ما كانوا في الفلسفة على شيء. وقد نسي هؤلاء دور الفلسفات الأخرى في صون وتثمير التقليد الإغريقي نفسه. ولنا في المثال الرشدي خير شاهد. كلا، ما كانت رسوم الفلسفة الغربية أبدا نسقا مغلقا، وما كانت هي على ناموس واحد، ولا جاءت على جديلة واحدة. إنما الفلسفة أمست أغنى وأقرب إلى الحق بقدر ما صارت أكثر تنوعا وأشد تعددا. ويقوم المؤلف بجولة حول نشأة النزعة المركزية الغربية في الفلسفة، فيقف عند أهم لحظاتها الحاسمة:

بعد احتكاك الفلاسفة الغربيين، إبان القرن التاسع عشر، بالفلسفة الكونفشيوسية، أقروا في البداية بأنها فلسفة حقة. وهذا ما فعله الفيلسوف الألماني لايبنتز (1646-1716) الذي أقر بأن الصينيين يتفوقون على الغربيين في الفلسفة العملية؛ أي في صياغة مبادئ أخلاقية وسياسية صالحة للتطبيق في حياة البشر الفانين وفي عوائدهم. وفي عام 1721 استعاد الفيلسوف الألماني كرستيان وولف (1679-1754) الفكرة عينها في خطاب شهير له حول فلسفة الصينيين العملية، ذاكرا أن كونفشيوس أثبت إمكان بناء نظام للأخلاق دون استناد إلى وحي أو إلى ديانة طبيعية، وبرهن على أن الأخلاق يمكنها أن تُفصل بالتمام عن الإيمان بوجود الرب. وقد سببت محاضرته هذه ضجة بين الأوساط المحافظة في زمنه، وجرد إثرها من الكثير من وظائفه.

ترى ما الذي طرأ حتى تتغير هذه النظرة الإيجابية؟ يحصي المؤلف عاملين: أولا؛ اعتبار الأوساط الفلسفية الغربية مثالية الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804) أعلى ما بلغته الفلسفة في ذلك الزمان؛ وبالتالي قياس كل فلسفة إليها، وقراءة تاريخ الفلسفة برمته على ضوء هذا المبدأ. ثانيا؛ انتشار الأنتربولوجيا القائمة على فكرة "العرق"، واقتناع العديد من الفلاسفة الأوربيين بأن لا فلسفة يمكن أن تبدع خارج العرق الأوربي. فإذن، كان الأمر قرارا دُبّر، وما كان الناس يعتقدون فيه في ما تقدم. وهو قرار ما نشأ عن حجج عاقلة وإنما تولد عن اعتبارات سجالية. والشاهد على ذلك حكم كانط على الصين بأنها شعب الجمود، واعتباره أن الصينيين والهنود والأفارقة والسكان الأصليين عاجزون بعجز خَلْقي عن التعاطي إلى الفلسفة. أَوَ ليس هو القائل في كتابه عن الجغرافيا: "لا يمكن العثور عن الفلسفة في الشرق برمته"؟ ولقد قفاهيجل (1770-1831) أثر كانط، رغم اختلاف نظرتهما الفلسفية . وهو التصور عينه الذي ألح عليه هايدجر (1889-1976): "الفلسفة إغريقية بالطبع". وقد صدم دريدا (1930-2004) عند زيارته للصين عام 2001 مستمعيه من شعب الفلسفة الصينية بالقول: "لا فلسفة للصين، وإنما للصين فكر"، وأن: "الفلسفة مرتهنة إلى تاريخ خاص، لغة خاصة، وهي ابتداع إغريقي عتيق ... وإنها لشكل أوربي خالص".

على أن أطروحة هذا الكتاب لا تذهب إلى حد القول بأن الفلسفة الغربية، مأخوذة على وجه الجملة، فاسدة، وأن كل الفلسفات الأخرى جيدة. فلا وجود عند المؤلف لنزعة مانوية تقول بتضاد الخير والشر التضاد المطلق. إنما القصد من الكتاب إزالة الحواجز وليس بناء أخرى. وهكذا، يختم صاحب الكتاب كتابه بالقول: أنا أيضا أرغب في أن أهدهد في الوهج القمري لعبقرية أفلاطون، وأن أمشي جنبا إلى جنب مع أرسطو على الأرض المقدسة للوقيوم، لكنني أتوق أيضا أن أتبع "طريق التساؤل والتعلم" مع الفيلسوف الكونفشيوسي القديم زهو كسي، وأن أناقش "الطريق الأوسط" الذي قال به بوذا. وأنا على يقين أننا لن أتفق ـ أنا وأنت ـ على ما هو أفضل طريق للعيش في تصوري وفي تصورك.لكن دعنا نناقش هذا الأمر ...

----------------------------------------------------------------

التفاصيل : 

عنوان الكتاب : استعادة الفلسفة A M ulticultural Manifesto Taking Back Philosophy

المؤلف:  Columbia University Press New York.
لغة النشر : الإنجليزية

سنة النشر :2017

عدد الصفحات : 206

أخبار ذات صلة