الفلسفة الإسلامية في صراع: من الرازي والفارابي إلى ابن مسكويه

71mNN1+Hn2L.jpg

تأليف: مجموعة من الباحثين

عرض: رضوان ضاوي | باحث في الدراسات الألمانية

 

جاء كتاب "الفلسفة الإسلامية في صراع من الرازي والفارابي حتى ابن مسكويه (الجزء الثاني)" تتمة لمشروع علمي تعريفي للفلسفة الإسلامية في المجال الثقافي الألماني. وكانت الأسئلة المحورية والمشتركة التي طرحتها الدراسات المكوّنة لهذا الكتاب هي: ما هي الفلسفة الإسلامية؟ وهل يستطيع المسلمون المجادلة حول الأسئلة الفلسفية؟ -لقد طرح الباحثان "محمد سمير مرتظى" و"مراد فلفريد هوفمان" الجزء الثاني من سلسلة كتب "الفلسفة الإسلامية"، وعلى هذا الأساس ضمّ هذا الكتاب "الفلسفة الإسلامية في صراع من الرازي والفارابي إلى ابن مسكويه (ج2)" خمس دراسات مطوّلة لمجموعة من الباحثين في الدراسات الإسلامية والفلسفة والفكر الإسلاميين في الجامعات الألمانية. حيث عالج أيضاً كل من "المهدي أصفهاني" و"بشرى ييسل" هذه الظاهرة عبر التاريخ الإسلامي.

 أمّا في المقدّمة النقدية التي تصدّرت هذا الكتاب، فقد كتب الباحث "إسيفيت بولات" بأن الدّين الإسلامي في الغرب لا يرتبط عادة بتقليد المواجهة الفلسفية والجدل الفكري حيث يمكن تقليدياً أن نجد مجموعة من الآراء والنقاشات المتضاربة عن أسئلة الحياة والوجود في مجالات الثقافة الإسلامية.

 وجاءت مقالات الباحث محمد سمير مرتظى، خاصة مقاله "الرازي، ناقد الدين" في البداية لتدرس حالة الرازي، وهو فيلسوف من القرن التاسع والعاشر. إنّ ما يجعل القارئ الألماني مندهشاً بهذا الخصوص هو كون الرازي معروفاً بالإلحاد في الأوساط الإسلامية، وكان دائماً ينتقد الدين، وعليه طوّر فكره الإسلامي ورؤاه ومعرفته بالله وبالعالم من خلال نشاطه الفلسفي. هذا الأمر يسبب فعلاً دهشة كبيرة لدى الباحثين والقرّاء خاصّة لدى الجمهور الألماني الذي يعتقد أنه لم يكن هناك مجال ليعبّر الفلاسفة في العالم الإسلامي عن آرائهم وأفكارهم بحرّية تامّة، خاصّة ما تعلّق بالقناعات الدينية في العالم الإسلامي. ويُفترض أن التعصب الإسلامي – حسب رأيهم وتصورّهم الخاطئ- موجّه ضدّ كل أنماط العيش الأخرى أو رؤى العالم المخالفة. وكل هذا أصبح في هذا الكتاب موضع تساؤل ونقاش.

 بعد ذلك ستتم مُعالجة معاصر الرازي وهو الفارابي من تركستان، وقد أسماه المسلمون "المعلم الثاني" في عصره، فالمعلم الأول هو أرسطو. وسمي الفارابى "المعلم الثاني" نسبة للمعلم الأول أرسطو والإطلاق بسبب اهتمامه بالمنطق لأنّ الفارابي هو شارح مؤلفات أرسطو المنطقية.

 هنا، يكشف المؤلفان، من خلال مقال "الفارابي، المعلم الثاني" عن أهمية الفلسفة اليونانية وعظمتها التي مثلها أرسطو تقليديًا في العالم الإسلامي. إنه صراع بين الشرق والغرب ما زال مستمرًا حتى اليوم. ففي هذا المؤلف عمل الباحثون على إبطال فكرة أنَّ دين الإسلام لا يُمكن التوفيق بينه وبين العقل. وهذا الكتاب يؤطر مجموعة متنوعة من الآراء، سواء كانت من القراء المسلمين أو غير المسلمين. والفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلج بن طرخان الفارابي، ولد عام 260 هـ/874م في فاراب فى إقليم تركستان واشتهر باسم الفارابي نسبة إلى المدينة التي عاش فيها. يعود الفضل إليه في إدخال مفهوم الفراغ إلى علم الفيزياء. تأثر به كل من ابن سيناء وابن رشد. وضع عدة مصنفات، وكان أشهرها كتاب حصر فيه أنواع وأصناف العلوم ويحمل هذا الكتاب إحصاء العلوم. درس الفلسفة، والمنطق، والطب على يد الطبيب المسيحي يوحنا بن حيلان. عكف على دراسة مواد العلوم والرياضيات والآداب والفلسفة واللغات وعلى الأخص التركية وهي لغته الأصلية بجانب معرفته للغات العربية والفارسية واليونانية. كما درس العلوم اللسانية العربية والموسيقى واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفة.

 في الفصول القليلة المقبلة، ستستمر المقارنة بين الفارابي وأفلاطون من خلال مقال بوسرا ييسل الموسوم بـ"معارضة الدستور من المجتمع عند أفلاطون والفارابي"، والسعي وراء السعادة عند ابن مسكويه من خلال مقال المهدي أصفهاني مقال بعنوان "ابن مسكويه- الأخلاقي". ومقال محمد سمير مرتظى بعنوان "ابن مسكويه والميول نحو السعادة". هكذا يمكن القول إنَّ المجلد الثاني في سلسلة "الفلسفة الإسلامية" لا يمنح القارئ رؤى في الفكر الفلسفي في وقت سابق فحسب، وإنما يأخذ أيضًا تحيزات القارئ الألماني والمسلم الخاصّة بعين الاعتبار.

يرى الفارابي أنَّ السعادة لا تكون بالمنافع الحسية ولذة التملك، بل بالفلسفة التي ننال بها السعادة والكمال والفضيلة الكلية الكبرى، ولا تتم الفلسفة إلا بتشغيل العقل والمنطق اللذين يساعدان العارف الحكيم على التمييز بين الأشياء وإدراك الصواب من الخطأ. ومن هنا، فالعقل هو السبيل الوحيد لتحقيق السعادة وإدراك الفضيلة وتذوق الحكمة اليقينية على غرار التصور الأفلاطوني والأرسطي للسعادة. ويتجاوز الفارابي أو المعلم الثاني طرح ابن سيناء الذي يقرن السعادة والكمال بالتفرد وترك شواغل الدنيا والاتكال على الله قصد نيل مرضاته سبحانه تعالى، وذلك بربط السعادة بتدبير المدينة وتفعيلها لتكون مدينة صالحة فاضلة قوامها العقل والحكمة والاستهداء بالشرع الرباني. فقد تأثر الفلاسفة بفلسفة أفلاطون وأرسطو السياسية والاجتماعية، وكانوا لايحبذون الابتعاد السلبي عن المشاركة في تدبير المدينة والمساهمة في إصلاحها، ولاسيما أنَّ المدينة في حاجة ماسة إلى أبنائها المثقفين لتنوير أهلها.

 يهاجم أحمد بن مسكويه (320-421هـ) الناس الذين لا يرون السعادة إلا في متعة الأكل وحلاوة الشراب وإشباع الغرائز، فالفضيلة العليا والكمال الأسمى والسعادة الحقيقية لا تنال إلا بالعقل. والسعادة لا تتم إلا بالاجتماع والتعاون والمشاركة في بناء المجتمع بدلاً من الفرار والهروب إلى الأماكن المنعزلة. وبالتالي، الذي يتعارك داخل المدينة ويساهم في تدبيرها وبنائها أفضل من الذي يهرب بعيدا ليتقرب من الله.

لقد ألحق الباحثون في هذا الكتاب كل مقال على حدة ببيليوغرافيا مصادر استعملوها واستعانوا بها في كتابة هذه الدراسات المطوّلة. وتنوعت هذه المصادر بين كتابات بالإنجليزية وكتابات بالألمانية وأخرى بالعربية. وتحيل كل هذه الدراسات إلى دور الفلسفة الإسلامية وأهميتها وعلى مدى استقبالها في المجال الغربي، سواء الإنجلوساكسوني أو الناطق بالألمانية. مما يؤكد فكرة هذا الكتاب التي أجمع عليها المشاركون في تأليفه (وقبله الجزء الأول من هذه السلسلة)، وهي أنَّ الفلسفة الإسلامية فكر عابر للثقافات ومؤثر في الفكر الغربي والعربي، وأن هذا الفكر الفلسفي كوّن وأنشأ جيلا من المفكرين والعلماء ذوي التفكير النقدي المنفتح على الثقافات الأجنبية، وعلى التعددية الفكرية، والمتشبث بالصرامة العلمية التي استندت إلى أعمال هؤلاء المفكرين الذين اشتغلوا على الفكر اليوناني والإغريقي دراسة وتحقيقًا وترجمة وتدريساً وقدّموه للعالم ليبرهنوا على أن الفكر الإسلامي إذا حمل أهله همّه لم يعرف الانحطاط ولا التخلف.

 يُكرَّس هذا الكتاب لتبيان كيف كان العالم الإسلامي في زمن ما مشهوراً بعلمائه وفلاسفته، مما أثار عند الغرب مزيداً من الحسد والتعبير عن الإعجاب بالشرق والغرب الإسلامي. ولكن هذا كان منذ زمن طويل كما تبين هذه الدراسة. أما الحديث اليوم عن الإسلام وعصوره الذهبية في العصر الوسيط فيشبه رواية قصص خيالية لا أحد يهتم بها. فعادةً لا يعرف المسلمون أنفسهم المفكرين العظام والتاريخ الفكري الذهبي للمسلمين، كون هؤلاء المسلمين لا يلتزمون بأعمال هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الذين أعطوا الكثير للإسلام وللمسلمين. بالتالي يدين المستشرقون المسلمون بذلك لمفكريهم ولا ينسون هذا أبداً. فقد كانوا يعملون بجهد على دراسة مخطوطاتهم وتحريرها من جديد والتعليق عليها وتدريسها وترجمتها، وتكييفها مع الفكر الإسلامي من خلال العظماء الإغريق واليونان، وبهذا يسجل لهم قيامهم بما أسماه الباحثون في هذا الكتاب بـ"الإنقاذ الفكري". لأنه منذ القرن الثامن عشر هناك اعتقاد بوجود من أراد جعل الأمة الإسلامية تعيش عصر انحطاط حين قال العلماء المتشددون إنه يلزم التقيد الحرفي بالقرآن والسنة وتفصيل كل شيء بعد ذلك حسب التفسير الأحادي دون تقديم تجديد. بالتالي يصبح التاريخ الفكري للأمّة فصلاً من معرفة أجيال من المسلمين بهذا العداء للاجتهاد، مما تسبب للأمة في سبات طويل وهي تواصل التراجع والركود، بينما بقية العالم يتقدم فكريًا وعلميًا.

 يعلن مؤلفو هذه السلسلة بأنّ الجيل الجديد من المسلمين في ألمانيا لا يعرفون شيئاً عن الكندي والفارابي وابن سيناء والغزالي، وعن عمل اللاهوت البروتستانتي الذي له هدف واحد هو محو كل تاريخ يتعامل مع القرون الوسطى الإسلامية ويتباهى بها. لأن من فضائل هذه المرحلة، التعددية وحرية الفكر في فهم الدين، والرشاقة العقلية. وقد حاول "مراد هوفمان" في كتابه الصغير ذي المحتوى الضخم بعنوان "مسلك فلسفي نحو الإسلام" التعريف بجيل جديد من الفلاسفة الشباب والمفكرين المسلمين يجعلون الذين يتخذون من الفلسفة الإسلامية مرجعًا لهم. فالشجاعة تكمن في اكتشاف تاريخ التفكير الإسلامي، سواء كان هذا التفكير صحيحا أم خاطئا، لذلك، يجب على القراء المسلمين – وغير المسلمين- في ألمانيا قراءة هذه السلسلة، ليس من أجل الاستهلاك بصورة عمياء، بل من أجل بناء تفكير نقدي وتحفيز على هذا التفكير. عندها فقط تصبح الفلسفة متعة لا تصدق.

 يدخل إعداد هذا الكتاب ضمن مشروع مكون من عشرة أجزاء. كل جزء يجب أن يضمّ فلاسفة لهم رؤى وتوجهات مختلفة ومتعددة، وإعطاء الإمكانية للباحثين الشباب لتقديم هذه الرؤى وهذه الأفكار الفلسفية الإسلامية لجمهور عريض في المجال الثقافي الألماني. وهؤلاء الباحثون يعملون على مساعدة باحثين آخرين يكتبون باللغة الألمانية، فالأمر لا يتعلق بمسألة إذا ما كانت الكتب مهمة أم لا. لأن هؤلاء الباحثين في ألمانيا كانوا منقطعين بشكل نهائي عن تقليد المعرفة الإسلامية، عن الكلام والفقه والحكمة والتصوف. بهذا يُريد منسق هذه السلسلة "محمد سمير مرتظى" "تقديم مساهمة فعلية ومميزة فيها يقدم عشرة كتب للمكتبة الألمانية عن الفلسفة الإسلامية، والتي يمكن للقراء المسلمين وغير المسلمين قراءتها اليوم، وغداً، وربما بعد مائة عام. إنه "مشروع تكوين".

تستهدف سلسلة الكتب هذه إذاً جمهور القراء، لكن المسلمين هم الفئة المستهدفة بالدرجة الأولى: "لأننا في ألمانيا انقطعنا هنا عن التقاليد الفكرية الإسلامية وبهذا أصبح هذا الفضاء أرضاً تغذيها التجمعات الإسلامية ذات الآيدولوجية المسيئة للإسلام في ألمانيا. نريد أن نعطي للمسلمين مرة أخرى شعوراً وإحساساً وإدراكاً بتقاليدهم الفكرية العريقة. ولكن طبعاً يمكن لأي شخص أن يشتري الكتاب ويحصل على تكوين ذاتي في مجال الفلسفة الإسلامية".

-----------------------------------------------------------

التفاصيل : 

الكتاب: الفلسفة الإسلامية في صراع من الرازي والفارابي حتى ابن مسكويه

المؤلف: مجموعة من المؤلفين، تنسيق محمد سمير مرتظى.

اللغة: الألمانية

دار النشر: تريديسيون، هامبورغ، ألمانيا، 2017.

عدد الصفحات: 120 صفحة.

أخبار ذات صلة