تأليف: جان بوبيرو
عرض: عزالدين عناية : أكاديمي تونسي يقيم في إيطاليا
في شهر أكتوبر من العام الفائت حلّت الذكرى المئوية الخامسة لحدث الإصلاح البروتستانتي الكبير الذي شهدته أوروبا. واحتفاء بالمناسبة أُقيمت العديد من الأنشطة والفعاليات، وعُقدت سلسلة من الملتقيات والندوات، كما صدرت جملة من الأعمال التي تناولت تداعيات الحدث وما خلّفه من عميق الأثر في الدين والدنيا في أصقاع العالم المسيحي. الكتاب الذي نعرضه صدر باللغة الإيطالية ضمن سياق الاحتفاء والتدبّر في ما جرى،وهو لمؤرخ وعالم اجتماع من مواليد 1941، تدور مجمل أبحاثه حول قضايا اللائكية والدين ومسألة الأصولية المسيحية، حيث أصدر زهاء الثلاثين مؤلَّفا في الشأن.
عاقبة أكل أموال الناس بالباطل
يتوزع كتاب"تاريخ البروتستانتية" لجان بوبيرو على محورين أساسيين: محور يعالج قضايا لاهوتية كلاسيكية ومحور يتناول قضايا راهنة في البروتستانتية. حيث يستهلّ المؤلف كتابه بالحديثعن الشرارة التي ألهبت الاحتجاج الذي سرعان ما تحوّل إلى فتنة عارمة جرّت دولا وشعوبا إلى أوارها. فقد كانت "صكوك الغفران" البؤرة التي فجرت الحدث، أو بعبارة أوضح مقت التحيّل على الناس والتلاعب بمشاعرهم الدينية. فقد كان بيع صكوك الخلاص المزعومة بقصد نهب أموال المؤمنين، ولتشييد الكاتدرائيات الكبرى المنتصبة في ساحات أوروباوالتي منها كاتدرائية القديس بطرس في روما. لم تكن الأموال المجمّعة صدقَةً بهدف تشييد معالم مقدّسة، بل كانت مقايضة للدنيا بالآخرة ضمن تلاعب خسيس بالضمائر. ما حثّ لوثر للإسراع بإعلان أطروحاته الخمس والتسعين الاحتجاجية الشهيرة، سنة 1517، ورفضه رفضا باتا ذلك المسلك المخاتل في الدين.
لكن مجريات الأحداث حوّلتالاحتجاج إلى ثورة لاهوتية حقيقية،مسّت سائر مفردات الغيبيات المسيحية، وجرّت إلى فتنة سياسية مهلكةاندلعت عنها حروب طاحنة وانقسامات اجتماعية مرعبة. ففي المنظور الإصلاحي البدئي تضمّنت كلمة "البروتستانتية/الاحتجاج" دلالة دينيةً بحتة، تمثّلتفي نقد مسلك الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها، باسم حق كلّ مسيحي في الإدلاء بدلوه للإجابة بحرية عن كلمة الرب كما تلقاها عبر الإيمان وعبر شهادة الأسرار للروح القدس. لكن مسارات الأحداث جعلتمن البروتستانتية واقعة مركّبة ارتبطت أيما ارتباط، ومنذ البدء، بقوى سياسية وبأطراف متنفّذة رنت للانفكاك من هيمنة روما. وبالتالي اتخذ المسار بُعدا حركيا جمع بين الدين والسياسة. ليتحول مطلب الإصلاح إلى احتجاج، سرعان ما غدا خصاما دينياوفتنة سياسية. فمنذ انعقاد"مجمعفورمس" (أبريل 1521م) أعلن لوثر بصريح العبارة "نقض عروتيْ الإيمان من البابا والمجْمع...". مثّل إصرار الرجلعلى التمسك بالكتاب المقدس وحده رفضا جازما لمؤسسة كنيسة روما برمّتها. وكما لخص الشاعر نيكولاس بوالو (1636-1711م) واقع الحال "يغدو المحتجّ بابا كلّما رفع الكتاب المقدس وحده"، وهو ما تلخّص لاحقا في المقولات الثلاث: "بالكتاب المقدس وحده"، "بالرب وحده لا غير"، "بالنعمة وحدها لا غير"، تلك المقولات التي ألغت كافة أشكال الوساطة، لتبلغ مستوى إسقاط مفهوم العصمة عن البابا. فقد عارض لوثر الخلاص المشروط واعتبر النعمة الربانية منحة لا استحقاقا، إيمانا بأنّالكائن البشري في حاجةماسة إلى محبة الرب ولطفه لينجو دونشفيع أو وسيط. من هنا عبّر القبول بصكوك الغفران وبكافة مظاهر الخلاصعن تعطيلل معطى إلهي غيبي.
بعد الخوض في تلك القضايا اللاهوتية التي طبعت البروتستانتية على مدى قرون، يحاول المؤلف تسليط الضوء على الأوضاع اللاهوتية المعاصرة التي طرأت مع موجة البنتكوستالية وتحفز التيارات الأصولية. والبنتكوستاليةالتي تُترجَم في اللسان العربي بـ"الخمسينية"، هي تفرّعٌ مذهبي بروتستانتي بملامح إفريقية، أطلّ في منتصف القرن الفائت في الولايات المتحدة. بيْد أن الخلاف بين البروتستانتية التاريخية والبنتكوستالية المحدَثة يتمحور في شكل العلاقة بين الرب والمؤمن.فمع الأولى، يتلخّص في التأويل المباشر للنص المقدس؛ في حين مع الثانية يطغى هاجس التواصل المباشر للمرء مع الألوهية، بناء على تجربة عاطفية قوامها الإيمان بتنزّل الروح القدس.ضمن هذا السياق المستجدّ، يسلّط المؤلفالضوء على الأوضاع في القارة الأمريكية تبعا لما تشهده من فوران دينيلافت.
يعود جان بوبيرو بتبدّل الأوضاع إلى مطلع القرن العشرين،حين عقدت أطراف في الولايات المتحدة الأمريكية العزمَ على تحجيم الوصاية الكاثوليكية في جنوب القارة، وسعت في تقليص هيمنة كنيسة روما.فقدأبدتِ الكنائس البروتستانتية الأمريكية حماسا لمنافسة نظيرتها الكاثوليكية في المنطقة. وهو توجهٌ عامٌ يرى في الجماعات البروتستانتية امتداداً لليبرالية على مستوى ديني واقتصادي. ضمن هذا السياق اندرج تصريح الرئيس الأمريكي تيودور روزفيلت، خلال العام 1912، بأنّ الكاثوليكية تشكّل عقبة أمام تمدد السياسة الأمريكية جنوب القارة. وهي في الواقع رؤية مستوحاة من سردية رائجة ترى أن البروتستانتية تمثّل السند القِيمي والإيديولوجي للرأسمالية والليبرالية، عمادها تلازم مفتَرض بين الأخلاق البروتستانتية وروح المذهب الرأسمالي، وفق القراءة الفيبرية. لتستمرّ أوضاع التدافع بين الأطراف البروتستانتية الأمريكية والكنيسة الكاثوليكيةالأوروبية حاضرة إلى مشارف الحقبة الراهنة. فالكاتب الأمريكي صامويل هاتنغتون يَعدّ البروتستانتية عاملا مهمّا وأساسيا في مسار التطور، وعنصرا فاعلا من عناصر القوة الأمريكية؛ في مقابل ذلك صرّح جوزيف راتسينغر (البابا لاحقًا)، إبّان توليه رئاسة "مجلس مراقبة العقيدة" (في 13 مايو خلال العام 2004) "إن الولايات المتحدة تدعم بقوة تمدّد البروتستانتية في أمريكا اللاتينية، وهو ما يعني أن تراجع الكاثوليكية حاصل جراء عمل الكنائس الحرة، بتعلّة أن الكنيسة الكاثوليكية غير قادرة على ضمان نظام سياسي اقتصادي مستقرّ وغير مفلحة في تربية الأمم، في وقت يُعدّ فيه نموذج الكنائس البروتستانتية الحرّة الأقدر على الإسهام في عملية البناء الديمقراطي، بما يضاهي ما هو جارٍ في الولايات المتحدة". لقد قاد تطورُ النِّحل البروتستانتية في أمريكا اللاتينية رجالَ الكنيسة الكاثوليكية إلى إدانة البروتستانتية بشكل حازم، وهو ما لا نجد له شبها منذ فترة الإصلاح، إلى حدّ مهاجمة البابا يوحنا بولس الثاني "النِّحَل الإنجيلية" ووصفَ مروّجيها بـ"الذئاب الضارية" على صفحات "ميامي هيرالد" بتاريخ 16 أكتوبر 1992.
صحيح شهدت أمريكا اللاتينية، كما يبرز مؤلف الكتاب، حضورَ طلائع المقيمين البروتستانت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين كان أغلبهم من التجار الإنجليز والأمريكان؛ ولكن موجة التبشير البنتكوستالي العارمة تفاقمت مع نزوح جحافل المزارعين الفقراء إلى أحزمة المدن الكبرى، وما لقوه من احتضان من قِبل المبشّرين البروتستانت. فقد ترافق ذلك التمدد البنتكوستالي بشكل عام مع تطور الليبرالية الجديدة أواخر سبعينيات القرن الماضي، وما صحب ذلك من تحرر السوق التجارية المرفوق بتحرر السوق الدينية.
والأمر اللافت في حمّى التنافس على المخيال الديني في جنوب القارة الأمريكية، أن يغدو مشروع الدين مشروعا مستورَداً بعيدا عن القضايا الجوهرية للمنطقة. وهو ما يجلو من خلال الصراع الخفي والجلي بين الكاثوليك والإنجيليين، ونقصد الكاثوليكية ذات السند الرومي الأوروبي والإنجيلية ذات السند الأمريكي. لتغدو المطالَبة بالحريات الدينية والتعددية وتحرير السوق الدينية مطالب غير بريئة. وبصرف النظر عن هذا التدافعالذي يرصده جان بوبيرو، بين الكاثوليكية والبروتستانتية، فإنوجه أمريكا اللاتينية الديني لا ينحصر في المكونات الكاثوليكية أو في الانشقاقات البنتكوستالية والإنجيلية فحسب؛ بل ثمة مكوّنٌ دينيٌّ شعبي عميق، وإن تراجع طفوه على الساحة، ناجمٌ عن غياب البنية التنظيمية في تلك الاعتقادات، التي طالما تعرّضت إلى الطمس منذ اكتساح الكاثوليكية وهيمنة التأويل الأوغسطيني المستوحى من النص الإنجيلي:"اُخرجْ إلى الطرق والسياجات وأجبر الناس على الدخول حتى يمتلئ بيتي" (إنجيل لوقا14: 16-24). فقد تعرّض السكان الأصليون إلى ما يشبه "الكروتشاتا الجديدة" (الحرب الصليبية) هدفت إلى "تعميم الحضارة" و"نشر الدين الحق" إبان المرحلة الاستعمارية.
الدين ووعثاء السياسة
شكّلت الأوضاع السياسية والاجتماعية الضاغطة في أمريكا اللاتينية دافعا قويا لبروز تأويليات جديدة في الدين، تمحورت بالأساس حول الاستفادة من عامل الديمقراطية والقبول بالتعددية، سواءفي شكلها الديني أو السياسي. إذ لم تكن الديمقراطية مغرية للأديان يوما كما هو الحال في الراهن. حيث تُشكِّل الديمقراطية بالفعل الإغراء الأكبر للتوجهات الدينية بعد تخوّفٍ ران في أوساط المتديّنين، باعتبار مؤدى الديمقراطية إلى النسبية، وإذا بالتعددية وما تفرِزه من مناخ تنافسي تسهم في تجدد الأديان. فقد ساد طويلا أن الحداثة تجرّ حتما إلى تراجع الدين وتقود صوب العلْمنة، غير أن ذلك لم يفضِ إلى ما كان منتظَرا، وشهدنا نوعا من المصالحة، وما حصل هو تنافس الأديان وتطورها، وعودة الدين إلى الفضاء العمومي. كانت حقبة السبعينيات حاسمة في أمريكا الجنوبية، لِما مسّ الخارطة الجيودينية من تحولات أتت آثارها متداخلة ومتناقضة أحيانا. ففي الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الكاثوليكية مع لاهوت التحرير تتبنّى خيار الفقراء، كان الفقراء يميلون إلى خيار البروتستانتية ويسيرون صوب الكنائس البنتكوستالية، وهو ما لم يكن خيارا سياسيا صرفا؛ بل خيارا دينيا إيمانيا بوجه عام.
ستشتد حدّة التنافس الديني مع الثمانينيات والتسعينيات، بعد أن أمست البنتكوستاليةُ الرؤيةَ الدينيةَ الأكثر تناغما مع الليبرالية الجديدة. ليتعزّز نفوذ البروتستانتية الجديدة ببروز ظاهرة الكنائس الإنجيلية العملاقة (megachurch) التي لا تكتفي بالوعظ الديني، بل تمارس أنشطة اجتماعية شتى تربوية وتعليمية ورياضية وصحية. وضمن هذا التطور الحاصل غالبا ما دعمَ البنتكوستاليون مرشَّحين معيَّنين للرئاسة أو مرشَّحين موالين لهم، كما حصل في فينيزويلا والبرازيل والبيرو وغواتيمالا وكولومبيا. كانت الحالة الأكثر بروزا مع انتخاب ألبارتو فوجيموري (Alberto Fujimori) في البيرو سنة 1991 وتعيينه نائبا بنتكوستاليا، وكذلك حالة الجنرال إفراين ريوس مونت (Efraín Ríos Montt) المشايع للبنتكوستالية، الذي اعتلى كرسي السلطة في غواتيمالا في أعقاب انقلاب عسكري سنة 1982. الأمر ذاته حدث في البرازيل مع ديلما روساف (Dilma Rousseff)، في وقت شهدت فيه الأحزاب الكاثوليكية تراجعا. الحالة التي أوردناها بشأن البنتكوستاليين تنسحب على الكاثوليك أيضا من حيث توظيف عامل الدين ورمزيته، ذلك أن الإضرابات الكبرى في قطاع السيارات التي شهدها البرازيل في منطقتي سانتو أندري وساو برناردو، خلال العامين (1979/1980)، كانت تجمّعاتها تُعقد في الكنائس، بعد أن وجدت دعماً من الأسقف كلاوديو هومْس.
لم يكن حرص البنتكوستاليين على تشكيل أحزاب دينية في كولومبيا يهدف إلى "مسحنة السياسة"، بقدر ما كان يهدف إلى انتزاع امتيازات تضاهي امتيازات الكاثوليك، من خلال التأكيد على مبدأ الحرية الدينية، وهو ما تحقق بالفعل مع دستور كولومبيا 1991. نتج عن ذلك اعترافٌ (سنة 1997) بتراتيب الزواج الديني الذي يعقده البنتكوستاليون، فضلا عن السماح لرجال الدين المنتمين لكنيستهم بالتردد على السجون والمستشفيات. في هذا الجو التنافسي شعرت الكاثوليكية بالغبن من تراجع نفوذها، ولكن بقدر ما شكّلت الديمقراطية والتعددية مشكلة بالنسبة إليها غدت حافزا للتجدد والتطور.
انبعاث هجين
تجد البروتستانتية نفسها أمام تحولات اجتماعية جذرية تتمثل في لائكية ما بعد الحداثة، فهل بوسعها اليوم الفوز بموقع في الساحة الاجتماعية، بين دعوات أصولية ضاغطة وإكراهات رأسمالية مغالية؟ ذلك ما حاول المؤتمر الثالث للأنجلة العالمية التابع للكنائس الإنجيلية في كيب تاون بجنوب إفريقيا، في أكتوبر 2010، الإجابة عنه بوصفه مراجعةً وتقييماً لاستراتيجيات التبشير في الداخل والخارج. فلئن شهدت أوضاع البروتستانتية تطورا لافتا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فهي تشهد تقدما محدودا في شبه الجزيرة الهندية بفعل النشاط المكثف للجمعيات الهندوسية في الذود عن الهوية الهندية وبموجب تكشّف استراتيجيات التبشير الأجنبي وأساليبه. لكن يبقى العنصر المميز للتبشير البروتستانتي في انطلاقه من مبادرات خاصة وهادفة.يبرز الكاتب أنه غالبا ما يجري إنشاء البعثات التبشيرية البروتستانتية ضمن مبادرات إنجيلية خاصة، يتأتى تمويلها من متحمّسين أثرياء قادمين من قطاع التصنيع.
هذا وقد تضافرت تلك التحولات مع بروز أوضاع جديدة، فقد بقيت الكنيسة اللوثرية بسويسرا مرتبطة بالدولة إلى غاية العام 2000، لتسلك عقب ذلك التاريخ انفصالا متدرجا عن الدولة، وهو الوضع نفسه الذي شهدته النرويج خلال العام 2012. وإذ ما كان الانفصال حاصلا في بلاد الغال وفي شمال إيرلندا، فلا تزال الكنيسة البريسبيتارية في المملكة المتحدة وفي سكوتلاند كنيسة رسمية.
ما الخلاصة التي يخرج بها هذا المؤلف من خلال التطرق إلى قضايا ذاتصلة باللاهوت وبالواقع؟ البيّن أن البروتستانتية،وبوجه عام، قد فقدتْ عبر القرون كثيرامن ذلك الزخم الإيماني الأصيل، وتحديدا ذلك النفس العقلاني في علاقة الدين بالإيمان، لتغرق مجددا في أشكال من التوليفية والحماس الباطني، باتا يطبعان البروتستانتية. صحيح ربحت البروتستانية من خلالهما تمددا وتطورا، ولكن فقدت كثيرا من سماتها الأصيلة، فهل بات الاحتجاج في حاجة إلى احتجاج أيضا؟
-----------------------------------------------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: تاريخ البروتستانتية.. من لوثر إلى الحركة البنتكوستالية.
تأليف: جان بوبيرو.
الناشر: كلاوديانا، (تورينو- إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2018.
عدد الصفحات: 120 ص.
