تأليف: فيكتورشنيرلمان
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا| أكاديمية ومستعربة روسية
على عكس التوقعات في الحقبة القريبة الماضية حول حلول السلم العالمي، والأحلام الوردية التي خامرت الأذهان حول سيادة روح التفاهم وتمكين ثقافة الحوار لحل القضايا البشرية، هاهي الإنسانية تدخل القرن الحادي والعشرين بعدد أكبر من بيارق الحرب، وبشعارات للكراهية أشد وأعتى. وهاهي الحدود بين الدول تضطرب وتتحصن بالأسوار الشائكة والألغام وتتمترس خلف الصواريخ الموجهة. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وكضربة قدر مجهولة، يستبدل الإنسان حلمه بنزع السلاح إلى النزوع أكثر إليه وبضبط الجيوش ولجم القوة العسكرية إلى استحداث قدرات جديدة منها. وها نحن نشهد تراجعا مخيفا في ثقافة التسامح والانفتاح بين الدول، وها نحن ننفتح على الانغلاق القومي ونتسع في تضييق الحريات ونتقدم في تراجع الديموقراطية ونميل ميلا خطيرًا إلى ثقافة المجتمعات المنغلقة.
في هذه الظروف تبدو الحاجة ملحة إلى دراسة خصائص رُهاب الأجانب كأحد التهديدات التي يواجهها التعايش السلمي في المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة: فما هو محتوى هذا الرُهاب؟ هل يقتصر على أمزجة عابرة في الحياة اليومية ويندرج ضمن كليشات لحظية تظهر وتختفيأو أنه يشدنا ويشبكنا بأفكار معقدة ومتأصلة في الوعي؟ في أي تربةاجتماعية تنمو شعبيته وما هي البيئة التي يتعملق فيها؟ ما الذي يغذي كراهية الأجانب اليوم وكيف تتعمق في الوعي والوجدان الجمعيين؟
إنّ معاداة السامية اليوم هي نوعمنكراهيةالأجانب الأكثر انتشارا في روسيا. وقد دُرست أسبابها وأنواعها وتاريخهاعلى نحو غير قليل، وتم استقصاء جذورها وأسبابها ضمن مختلف السياقات التاريخية والثقافية. وربما أكثر ما يميز هذه الظاهرة في المجتمع الروسي مقدرتها غيرالعادية على الصمودوالبقاء حيّة عبر الزمن وتكيّفها مع الظروف المختلفة والأوضاع المتغيرة،الأمر الذي يثير لدى المتابع أسئلة ساخنة حول هذه القضية. واستباقا لأي تأويل تقليدي، فإنّ هذه المسألة لا يمكن تناولها (كما جرت العادة لدى الباحثين) من منطلق عنصري أو سياسي أو اجتماعي/ اقتصادي فقط والقفز على الدوافع الدينية أو دحرها إلى الخلف باعتبارها دوافع تعود إلى القرون الوسطى ولا مسوغلها في عالمنا المعاصر والمتطور.
بالنسبة إلى الكتاب الذي بين أيدينا لمؤلفه فيكتورشنيرلمان، فهو يشير، بلا مواربة، إلى صحوة دينية تعيشها روسيا المعاصرة وإلى عملية إحياءمناخات دينيةلمعاداة السامية، هذه المعاداة التي تقومعند الأرثوذكس الروس على أساس عقائدي، مستوحى من تصور عن يوم القيامة يقول بأنّ المسيح الدجال سيخرج من مفرزة يهودية تنشط في مختلف أوجه الحياة، وما مؤشرات هذا النشاط اليوم سوى علامة دامغة على اقتراب نهاية العالم.
لقد اكتسبت قصة المسيح الدجا لشعبيتها في روسيا في الفترة التي بدأ الاهتمام بها في الغرب يذوي ويتلاشى. لم يُذكر المُرّكب اليهودي حتى نهاية القرن التاسع عشر منقبل المؤمنين واللاهوتيين الأرثوذكس، ولم يحتل اليهود أي مكانة هامة في نبوءات نهاية العالم. ولكن كل شيء تغير وبشكل قاطع في أوائل القرن العشرين، وذلك بالتوازي معتفاقم الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد ومشاركة اليهود بشكل ملحوظ في الأحداث الثورية. مع ذلك، وكما يلاحظ المؤلف،فقد كانت مشاركة اليهود في تلك الأحداث المفصلية في التاريخ الروسي"طبيعية تماما بالنسبة لأولئك الذين تعرضوا للتمييز في روسيا القيصرية على مدى عقود" (ص 582).
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن مدخل التصورالأرثوذكسي لنهاية العالم يكمن فيمفهوم "القابض"Katechon (أو الماسكبموازين الكون).وبدءا من القرنالتاسع عشر أوكل الكهنة الروس مهمة القابض هذه للإمبراطور وأمّنوه مقاليد حفظ النظام والسلم المجتمعي والحيلولة دون ظهور المسيح الدجال. وقد بلغ قلق الكنيسة أشده عندالمقتلة الوحشية للإمبراطور نيقولاي الثاني وعائلته بيدالسلطة البولشفية، وكان من بين المشاركين في عمليات الإعدام أشخاص من أصول يهودية. وقد سوغ هذا الحادث لأنصار المليارية (وهي مجتمع في المسيحية يؤمن إيمانا قاطعا بنهاية العالم خلال ألف سنة أو أكثر بقليل)سوغ لهم الاعتقاد بأنّ ما جرى ليس مجرد اغتيال سياسي وإنماعملية لتصفية القابضمن أجل تمهيد الطريق أمام المسيح الدجال. وبهذا اشتبكت الأحداث السياسية بنسيج العقيدة الدينية والتصورالأخروي، ومنه ولدت معاداة السامية المستمرة في المجتمع الروسي حتى يوم الناس هذا.
لا يقتصر المؤلف على وضع تحليلات نصية لمسألة معاداة السامية في روسيا، ولا يكتفي بتقصي المواقف السلبية تجاه اليهود فيها، إذ ترتكز مهمته على النظر إلى معاداة السامية من منظور اجتماعي شامل وتقييم الخطر الحقيقي لها في راهن يومنا.
يعرض شنيرلمان في كتابه كيفية تغير فحوى الأفكار عبر الزمن ضاربا لذلك عدة أمثلة من بينها أسطورة الخزر التي ظهرت في روسيا وتكيفت مع مصالح وغايات اجتماعية معينة وارتبطت بجماعات دينية بذاتها. كما يصور الباحث كيفية تحول الأفكار وفقا للتطورات السياسية الجارية، وكيف يتم التلاعب بصور الأبطال التاريخيين، وقياسا لذلك فإنّ بعض النبوءات الواردة في سفر الرؤيا تحتمل تفسيرات مختلفة ولا تقتصر على قضيةمعاداة السامية، بيد أنّ ما يحدث هو أنّا لمتلقي يتعامل مع هذا السِفر من الإنجيل باعتباره إجازة لمعاداة السامية وذلك من منطلق إيديولوجي متطرف خاص لا علاقة له بالدين.
إذن فالمؤلف، في مدخله لتحليل بعض الأفكار والتصورات المعادية للسامية، يربط ذلك بالأفكار والتصورات المتعلقة بيوم الميعاد. كما يحلو له أحيانا الخروج من السياق الروسي في بحثه لظاهرة معاداة السامية إلى المحيط العالمي وما يتبلور منها في السلوك الاجتماعي بل وحتى في السياسة العامة. وفي هذا الصدد نواجه مع الكاتب عدة أسئلة محورية منها: كيف يفهم الناسيوم الدينونة وما هي الصورة التي يحملونها عنه؟ لماذا تفضي بعض مساقا تتطور العالم الحديث إلى مخاوف أخروية؟ لماذا يتم إحياء الأرثوذكسية في روسيا جنبا إلى جنب مع القلق بقرب نهاية العالم؟ هل صحيح أن اقتراب نهاية العالم مقرون بمعاداة السامية؟
أفرد الكاتب جزءا كبيرا من كتابه لما يظنه واحدا من المؤشرات الرئيسية لفكرة نهاية العالم عند الروس وهي العولمة وآثارها على العقول والأفكار. يقول الباحث: "إنهم (أي الروس المؤمنين بعلامات يوم الميعاد) يخشون من العولمة التي تعِدُبإلغاء الدول القومية وسيطرة الحكومة العالمية على الثقافات العرقية وبالتالي السيطرة المطلقة على الفرد. أما الأسوأ عندهم فهو خلق ديانة واحدة واقتل اعما عداها، وقبلها كلها الديانة المسيحية. وهم مقتنعون أنّ العالم الحديث يتجه إلى ذلك بوتيرة متسارعة" (ص 589).
في أح دفصول الكتاب يحلل الباحثدور الإيمان بنهاية العالمفي ظهور الهجمات العدوانية في روسيا التي اشترك في بعضها رجال الدين أنفسهم والتي زادت منوتيرتها بشكل كبير بدءا من عام 2012 فشملت هجمات على المتاحف والمعارض الفنية والمهرجانات الموسيقية والعروض المسرحية والأفلام. ويشدد الباحث على أنّهذا النشاط يتلقى في بعض الأحيانالدعم من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
وفي هذا السياقيُقبِلُ الكاتب على مسألة المسيحية السياسية ويقسمها إلى قسمين:علم الأخرويات المعاديللسامية وعلم الأخرويات الإمبريالي. وبرغم الأرضية المشتركة بين الاثنين إلا أنّ أنصار الاتجاه الأول ما زالواينظرون إلى الميتافيزيقية اليهودية كعدو من أعدائهم، في حين أنّالاتجاه الثاني يعطي أهمية أكبرلفكرة الإمبراطورية وتحقيق مهام القابض. بالإضافة إلى ذلك لا ترى المقاربتان بديلالما يحدث في العالم إلا العولمة الأرثوذكسية وذلكبهدف إقرار النظام الروسي، السياسي والروحي،بصفتهالنظام الأصح والأبقى للعالمين. يقول في ذلك:"لم تعد روسيا ذلك المدافع عن المظلومين في العالم وإنّما دولة افتراسية تسعى إلى فرض قواعدها الخاصة على بقية العالم" (ص 484-485). وبحسب الإحصاءات التي أجراها الباحث نجد أن أنصار الرأي الأول يتواجدون بين كبار السن الذين شهدوا في زمنشبابهمالسوفيتي حملةمكافحة الصهيونية العالمية،ولا يزال الأمر يؤثر عليهم ويساهم في تأطير نظرتهم بشكل حاسم.أمّا أنصار الاتجاه الثاني فيمثله الشباب التائقون لتلمس العظمة الروسية ورؤيتها وهي تغطي العالم بجناحيها الروحي والعسكري. وفي هذه البيئة الاجتماعية يطفوالنقاش حول إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة. يقول الكاتب:"تميطمثل هذه الحجج المحرمات عننشوب حرب نووية، فيذهب الجمهور إلى التعود على الفكرة وتقبل مثل هذه الحرب التي لا يبدو أنثمة مفرا منها. ولسنا بحاجة بعدئذ إلى شرح مدى الخطورة التي يكتنفها هذا المنطق" (ص 485).
وفي سياق حديثه عن الاسخاتولوجية الروسية (الأسخاتولوجية هي علم الأخرويات) يقارن المؤلف بينها وبين قرينتهاالأمريكية. ويعطي أمثلة عن الحالة الاسخاتولوجية الروسية ومنها حينما عاش رهط من المؤمنين والنُسّاك الروس حالة انتظار وترقب لاقتراب موعد المسيح الدجال وتدبروا طريقهم للهروب من العالم والانزواء في أديرة منعزلة من أشهرها ما هو موجود في مدينة بينزا الروسية. بينما لا نعثر (في الحالة الروسية) على شيء يشبه الانتحار الجماعي الذي شاع في أمريكا مثل حادثةجونز تاون التي راح ضحيتها ألف مسيحي. كما خلت الساحةالروسية من استخدامالخطاب الاسخاتولوجيفي وسائل الإعلام والإنتاج السينمائي مثلما هو الحال في الولايات المتحدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وبحسب الباحث تقودنا هذه المقاربةإلى التيقن من واقعية السلوك الإيماني عند غالبية الأرثوذكس الروس.
ويشير المؤلف إلى أنه ووفقا لاستطلاعات الرأي العام بين أعوام 1989-2010 فقد ارتفع عدد المؤمنين الأرثوذكس من 30 بالمئة إلى 70-75 بالمئة، مع بقاءعدد الذين يتقيدون بالطقوس الإيمانية عند معدل 5 بالمئة. وهذا أقل بكثير من التدينالطقوسي في الولايات المتحدة. فهل نحتسب هذا انضباطا للعاطفة الدينية عند الروس وبالتالي اتساع الفجوة بينهم وبين معاداة السامية؟ قد يبدو هذا حقيقيا من الوهلة الأولى، ولكن التمحيص في راهن الأمور، والإطلال على المستقبل انطلاقا مما يجري في الحاضر قد يرسم لنا صورة مغايرة. إذ يرى المؤلف أنّ الروس يتمتعون بقابلية التعبئة السريعة حينما يتوجب الأمر، وما عملية المشاركة في التوبة الجماعية لقتل القيصر الروسي الأخير نيقولاي الثاني سوى ملمح من ملامح الطفرة الإيمانية لدى الشعب الروسي في لحظات تاريخية بعينها.
علاوة على ذلك،وكما يلاحظ الباحث، يمكن للرأي العام الروسي أن يغير اتجاهه بسرعة فائقة، وهذا يتعلق أيضا بمسألة معاداة السامية التي تعمل في خدمتها اليوم سوق للإيديولوجيات والخرافة تملأ الفضاء المعلوماتي الروسي لم يكن لها وجود في السابق. ويؤكد شنيرلمان أنّه إذا ظلت الكنيسة على إصرارهاتدريس التاريخ المقدس في المدارس الروسية (وقد قُررهذا الاتجاه في إطار الإصلاحات على التعليم السوفيتي)فعلينا أن نتوقع تجدد معاداة السامية مصحوبة بعواقب لا يمكن التنبؤ بها.
جانب آخر من الخطورة يكمن في إبدال الشعار القديم القائل بأنّ الاتحاد السوفيتي هو الضامن للسلم وزعيم التطور التدريجي، إبداله بالصيغة الجديدة التي ترفع شعار روسيا باعتبارها آخر معقل للمسيحية والمعرقلة لظهور المسيح الدجال. وبتكريس هذه الشعارات ستصبح روسيا هدفا رئيسيا وطبيعيا للقوى الشيطانية،مايعزز من احتمالية خلق أرض خصبةللمشاعرالجنونية التي تجتاح الوطنيين المتطرفين وتمدهمبصورمختلفةعن رُهاب الأجانب، بما في ذلك مناهضة السامية والغرب.
--------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: قبيلة دان.. الإيمان بالآخرة ومعاداة السامية في روسيا الحديثة.
المؤلف: فيكتور شنيرلمان.
الناشر: دار نشر: بي بي إي/ موسكو 2017.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 617 صفحة.
