بلاد خارج الحداثة: روسيا في القرن الحادي والعشرين

Picture1.png

تأليف: فلاديسلاف إنوزيمتسيف

فيكتوريا زاريتوفسكايا| أكاديمية ومستعربة روسية

تنبنِي الدراسة التي يطرحها العالم السياسي الروسي المعارض فلاديسلاف إنوزيمتسيف، وتَتناول مكانة روسيا في عالم القرن الحادي والعشرين، على مفاهيم فلسفيةمثل: القاعدة والانحراف، والحداثة والتقاليد، والانحدار والركود والتنمية. ويفسر المؤلف هذا المفهوم الأخير (التنمية) لا على أساس المستوى العالي من تطوُّر المكونات الفردية لأفراد المجتمع، وإنما كمنهجية فعَّالة وتجاوبية بين الفرد والدولة، ووفقا للمؤلف فإنَّ هذا العامل الجوهري للتنمية غير واضح المعالم في روسيا حتى الآن.

لقد تميَّزت العقود الأخيرة في تاريخ البشرية -وفقا لرأي المؤلف- بإقرار فكرة خاطئة مفادها أنه لا وجود لنُظمٍ اجتماعية مختلفة في هذا العالم، كما يفترضه المنطق والعقل، وإنما هناك معايير عامة تنطبق على الجميع وتتخللها حالات انحراف تزيد في خطورتها أو تقل. إن هذا النهج التنظيمي المزعوم أدى -بطبيعة الحال- إلى تبني نوع من الاستيهام، مفاده أن معظم الانحرافات يمكن احتواؤها وتصحيحها، ونتيجة لهذا الوهم العام برزت ظاهرة فريدة اتسم بها القرن الحادي والعشرون دون سواه ألا وهي الحروب باسم الديمقراطية.

وفي واقع الأمر، وإنْ نحن تركنا هذا النهج من التفكير جانبا، وعدنا إلى التاريخ القريب، سنجد أن قيام حروب كهذه لم تكن محتملة الوقوع. فلنأخذ مثالا تشكل النظام الفاشستي في ألمانيا الهتلرية في الثلث الأول من القرن العشرين، فقبل أن تشرع ألمانيا في مواجهة العالم وغزو البلدان، لم يكن لأحد أن يتخيل أن يقوم الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة بمهاجمة ألمانيا، لمجرد أن نظامها لا يوافق الدكتاتورية البروليتارية السوفيتية أو البرجوازية الديمقراطية الأمريكية، وأن النازية نظام يحيد عن نهج البلدين الكبيرين ويجب إزالته!

يُعرب المؤلف عن قلقه من أنَّ البلدان التي يتم إقصاؤها عن العالم المتقدم ودفعها إلى التخوم البعيدة (مازالت تمثل حتى الآن بضعة بلدان قليلة؛ منها: روسيا وفنزويلا، وربما الصين من بعد)، وبمجرد أن تدرك عزلتها وانطواءها، لن يكون أمامها حينئذ سوى الإيمان بقدرها والتكيف معه، بل والاقتناع بنجاعة وضعها الجديد. يشير المؤلف إلى أن العالم غير النامي (نتيجة لعزلته عن العالم النامي والمتطور) سيبدأ تدريجيا في إقناع نفسه بفوائد عدم التنمية. ويرى المؤلف أن البشرية تشهد حقبة زمنية تحكمها القطبية الثنائية التي يقف على كِفة منها الثراء والنجاح، وعلى الكفة الأخرى الفقر والإخفاق، وأن سيرورة هذه القطبية تجري بسرعة قياسية. وعن طبيعة الصراع العالمي في راهنيته الحضارية وما قد ينتج عنه مستقبلا، يقول المؤلف: إننا نعيش أسوأ أنواع الثنائية القطبية. الكل يسعى لإملاء قواعده على غيره، وبموجب هذه الروح، أصبح العالم ساحة صراع على امتلاك السلطة وانتزاع مكانة الحَكم والقاضي. أما السياسات الداخلية للبلدان، فأنيط أمرها إلى الشعوبيين" (ص:12).

والحال كذلك، فإنَّ بلدا مثل روسيا، شقت طريقها الخاص طلية مئات السنين، واحتلت شأنا عالميا كبيرا في الجزء الأكبر من القرن العشرين، بلد مثله يعد مثالا بارزا للبلدان التي تواجه تحديا شاقا على صعيد الهوية الوجودية والحضارية.

لا يوجد شك أنَّ الروس يعتبرون بلدهم مميزا عن غيره من البلدان، كما لا يكل أيديولوجيو الكرملين التأكيد على خصوصية روسيا التي لا مثيل لها؛ فما هي إذن الميزات التي تحوزها روسيا دون غيرها من البلدان؟ يؤكد فلاديسلاف إينوزيمتسيف على أن بنية الدولة الروسية بنية طبيعية، إلا أن علاقتها مع الحداثة هو الشيء المميز والخاص فيها، فهي، أي الدولة الروسية، وعلى مدى القرون المتعاقبة، إما أن تواجه مصاعب خارجية تحول بينها وبين التحديث في بنيتها، أو أنها تتعمد تعطيل هذا التحديث من الداخل. يقول الكاتب في هذا الصدد: "من الصعوبة بمكان إيجاد ولو مجال واحد في روسيا يمتلك خصوصية تقدمية طبيعية ويتميز إيجابيا عما هو موجود في الدول الأخرى. إن التاريخ المُسجل في الخمس عشرة سنة الماضية التي تم فيها القضاء على المقدرات الصناعية في البلد بوتيرة مخيفة، إلى جانب محاولات إعادة صياغة الأيديولوجيا والنظرة الدينية، كل ذلك يشير بجلاء إلى التقهقر الجبري عن الحداثة ووقوع روسيا في حالة اللا تحديث" (ص:4).

ويكشف الباحث عن مُفارقة الدولة الروسية القديمة/المستدامة والقوية في ظاهرها. ومن خلال وصفه لتفاصيل حياة المجتمع والاقتصاد والعلاقات الدولية، فإنه يرسم أمامنا لوحة بانورامية لروسيا، حقيقية وإن كانت بألوان كئيبة. يقول إنوزيمتسيف: "لقد ولى الزمن الذي كانت فيه روسيا المتأخرة تعمل بصدق على اللحاق بأوروبا. اليوم لا تتخلف روسيا عن الركب وحسب، بل ترفض كل فرصة للتنمية. فموسكو تتلاعب بموارد المجتمع وممتلكات المواطنين، بينما الأهم لديها هو أن تبقى مصالح الحاشية بعيدة عن الضرر. هذا الإجراء غير الأخلاقي يجرد البلاد من مستقبلها، وإن كانت لا تموت بسببه" (ص:11).

لا يعد التباين بين مستوى الدولة الاقتصادي ومقدراتها المالية الكبيرة وبين مستواها الاجتماعي المنخفض استثناءً في التاريخ البشري، بل يمكن القول إنه هو القاعدة. كما أن الدول لا يقيض لها دائما اللحاق بالركب الحضاري في زمنها وتعجز عن مجاراة غيرها من الدول المتقدمة، وثمة شواهد كثيرة في التاريخ على الجمود الذي يضرب الدول ويصيبها بشلل يمتد لعشرات ومئات السنين، وقد شهد التاريخ الروسي مثل هذا الموات مرة أو مرتين. ومع ذلك، فالحالات الأقل شيوعًا، وهذه هي حال روسيا الراهنة حرفيا، عندما يختار المجتمع بوعي (أو أنه لا يمنع سلطاته من القيام بذلك) طريق العودة إلى الماضي بحجة الحفاظ على قيمه، ويجاهر صراحة برفضه لقيم الحداثة، وهي القيم ذاتها التي اكتسبها في فترات زمنية سابقة. يقول الباحث: "في الاقتصاد، قمنا بالتخلي عن نظام مفتوح نسبيا مع العالم الخارجي، ولجأنا إلى الاكتفاء الذاتي، تركنا ما أنجزناه في اقتصاد السوق الخاصة لنأخذ بنظام شركات الدولة والبنوك، تحولنا من بيئة تنافسية إلى أخرى احتكارية. وفي المجتمع، ثمة انتعاش للروح القديمة، فنكاد نلجأ معها إلى بناء البيوت بموجب التقاليد القديمة، الكنيسة تلتحم بالدولة، والرقابة تعود ثانية، وإجراءات تقييد حرية تبادل المعلومات في تزايد مستمر. وفي السياسة، تم تدمير المؤسسات الديمقراطية بشكل كلي تقريبا، فبعد أن كان اختيار رؤساء البلديات يتم بالانتخاب الشعبي، ثم أوكل الأمر إلى البرلمانات المحلية، أصبح الآن عن طريق الترشيح المباشر والتعيين. أما انتخابات المحافظين، فقد ألغيت في معظم المدن الكبرى. النظام القَضائي لا يمتلك الحد الأدنى من الاستقلالية. أمَّا السلطات التنفيذية، فقد استعادت قوتها التي كانت تتمتع بها قبل خمسين عاما وأكثر.. وبرغم هذا التردي الاقتصادي والسياسي والفكري، تجد أن المجتمع لا يساوره الخوف، تماما كما لو أنه فقد الإحساس بتاريخية الزمن وأضاع غريزة الحفاظ على الذات" (ص:23-24).

يتتبَّع المؤلف السمات التي تتميز بها روسيا الراهنة عن معظم الدول الحديثة؛ وذلك على أسس سيكولوجية وثقافية. يأتي في مقدمة هذه السمات الشعور بالعظمة والتفوق، هذا الشعور الذي يستمد مسوغاته كلية من سعة الأرض ومساحتها الشاسعة، وذلك في الوقت الذي لا يقترن فيه النجاح في الزمن المعاصر بحجم الأراضي التابعة للبلد، كما يندر رصد أي نزوع لدى الدول إلى التوسع الجغرافي، ناهيك -بعدئذ- عن أن الدولة الروسية ليس بمقدورها تصريف أكثر من نصف الأراضي التابعة لها. يقول فلاديسلاف إنوزيمتسيف: "إن أكثر ما يرعب الساسة (في روسيا) ليس فقدانهم الزعامة الاقتصادية في العالم، ولا الموارد البشرية (في البلاد)، وإنما فقدان الممتلكات السابقة التي كانت ذات يوم ومازالت جزءا من الامبراطورية" (ص 54).

السمة الثانية التي يرصدها المؤلف لتحديد ملامح سيكيلوجية السياسة الروسية، ولا تقل أهمية عن السمة الأولى هي تشوه فكرة الدولة نفسها، وقد خصص الكاتب فصلا في كتابه لمناقشة هذه المسألة. يقول في ذلك: "الحكومة في روسيا هي نفسها البلاد. لذلك لم يحدث هنا، ولأمد طويل، أي حوار حقيقي بين السلطة والمجتمع؛ هذا المجتمع الذي لم يقيض له حتى الآن صياغة عريضة مطالبِه للحكومة من أجل العيش معها بقدر المساواة" (ص:57).

وانطلاقا من هذا، ووفقا لرأي الباحث، فإن فكرة الحكومة بنموذجها الروسي ظلت قائمة، ومنذ الأزل، على تكريس كل مقدرات البلاد البشرية والمادية من أجل خدمة الدولة وليس لصالح المجتمع الذي عليه أن يضحي بحياته ومستقبله صيانة لهذه الفكرة/الظاهرة، التي هي في حقيقتها ظاهرة هلامية وغير قابلة للتجسيد الحي. لقد نجحت الدولة في إقصاء المجتمع عنها، كما لا تجد للدولة أثرا في الحياة الاجتماعية للفرد. لذلك؛ فروسيا من البلدان القليلة التي لا ترتقي فيها قيمة البشر بمرور الوقت، فنجد أن الحكومة كانت وراء فقدان المواطنين لحياتهن أكثر مما حصدته الحروب والكوارث (يمكن الاستدلال على ذلك بالقمع الجماعي إبان حكم القيصر إيفان الرهيب وستالين وبطرس الأكبر والحروب الداخلية للأمراء الروس والحروب الأهلية وبطبيعة الحال المجاعة). كما تزداد أعداد الأفراد الذين تتم إدانتهم ومعاقبتهم عن جرائمهم ضد الدولة من قرن إلى آخر، وهذا على النقيض تماما من الدول الأوروبية. كل هذا أدى إلى ظهور عدد من الظواهر الأخرى التي من أهمها ظاهرة غياب العصرنة في العلاقة مع الاقتصاد، فأصبح العمل أقل قيمة من الموارد، وأحيانا لا تكون له قيمة البتة. إن نتيجة هذا التوجه الذي يرتفع فيه شأن الدولة على حساب الفرد وفوق أكتافه تؤكد على الفرضية الروسية القائلة "الغاية تبرر الوسيلة"، وهذه الفرضية هي نفسها القاعدة التي يتم بموجبها تجاهل الكفاءآت في المجتمع. وهكذا، وعلى مر العصور، تم استبدال الفاعلية بالكفاءة في روسيا. وعلى إثره أصبح معنى النجاح وجوهره هو الوصول للهدف وليس حل المعضلات الكامنة والمحيطة بمسألة ما. وفي التاريخ الروسي شواهد كثيرة على ذلك، ومنها بناء المدن الجديدة وشق الطرق وإقامة المنشآت الصناعية، ولكن من غير أن تكون الحاجة إليها واضحة للعيان.

وفيما يتعلق بمشاعر الجماهير حيال الأوضاع في البلاد، يشير الباحث إلى سمة أخرى من سمات المجتمع الروسي ألا وهي الشعور باستحالة تحقيق الذات مع هيمنة البيرقراطية، وهو شعور يستحوذ على جزء لا يستهان به من المجتمع الروسي. وباستشعارهم للقوة التي تمتلكها السلطات، يقوم الناس بإفراز حاجتهم للاحتجاج من خلال التواصل (بما فيه التواصل الافتراضي) من أجل رفع مستواهم المعيشي وتحقيق ذواتهم في الأعمال التجارية والمؤسسات العامة غير المسيسة والأنشطة الترفيهية المتنوعة. من جهة أخرى، وعن فردية المواطن الروسي بالمقارنة مع جاره الأوروبي يقول المؤلف: "من الصعب لنا عند معاينة الحقائق تجاهل فكرة أن الروسي يمتلك فردانية تفوق ما يمتلكه الأوروبي، فهم أكثر استعدادا للاعتماد على قواهم الذاتية وأكثر جرأة وحيلة" (ص:86). في الوقت نفسه لا تهيمن الاحتياجات لممارسة الأنشطة الاجتماعية، التي يتم إدراجها بشكل طبيعي في قائمة الأولويات الأساسية لمواطني البلدان المتقدمة، لا تهيمن على نظام القيم الإنسانية للروس، وبالمقابل لا يلتزم الناس في روسيا بالبحث عن الأسباب الرئيسية لعدم الرضا الشديد من حياتهم ولا يتقيدون بصرامة للقضاء عليها. يقول المؤلف عن ذلك: "إنه مظهر من مظاهر الفهم الثابت تاريخيا من أن الدولة في روسيا ليست خادما للمواطن، وبالتالي فإن أفضل ما يمكن توقعه منها هو عدم تدخلها في الفضاء الخاص للأفراد" (ص:88).

-------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "بلاد خارج الحداثة.. روسيا في القرن الحادي والعشرين".

- المؤلف: فلاديسلاف إنوزيمتسيف.

- الناشر: ألبينا بادليشير، موسكو، 2018م، باللغةالروسية.

- عدد الصفحات: 406 صفحات.

أخبار ذات صلة