تأليف: جان شارل دوسين
عرض: سعيد بوكرامي
كان الجغرافيون العرب في العصور الوسطى يلقبون أوروبا الشاسعة بـ"الأرض الكبيرة": ويقصدون بها الجغرافية الشاسعة التي تتشكل من فسيفساء الشعوب المتحرّكة داخل مجال جغرافي يتشكل من "الجزء الغربي الممتدمن أوراسيا بين جبال الأورال وجبال القوقاز وبحر قزوين من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومنطقة القوقاز من الجنوب والمحيط المتجمد الشمالي من الشمال". هذه الأراضي الشاسعة والمبهمة، لم يتوقف الجغرافيون العرب أبداً عن دراستها ووضع خرائطها. كيف نفهم إذن سر هذا الاهتمام المتمثل في تصور جغرافي مميز، لقارة غير معروفة ومألوفة؟ سنجد الجواب الشافي وأجوبة أخرى في كتاب جان-شارل دوسين، الذي يدعونا إلى سبر أغوار حقبة زمنية ضاربة جذورها في المخطوطات والخرائط المنتمية إلى العصر الوسيط بحقبته الضبابية معتمدا على مجموعة من المصادر العزيزة المنال. يتجسد إذن هذا الجهد الأكاديمي المحمود في دراسته الهامة الصادرة مؤخرا تحت عنوان " أوروبا والجغرافيون العرب في العصور الوسطى:(من القرن التاسع إلى الخامس عشر). "الأرض الكبيرة" شعبها، وتصور الفضاء العرقي والسياسي."
يبدأ جان شارل دوسين أستاذ الفلسفة والتاريخ الشرقي ببداية القرن التاسع، حينما كان الجغرافيون العرب ينظرون إلى أوروبا على أنها مجموعة ضبابية من الشعوب ذات الانتماء المسيحي عموما، لكنهم ما زالوا وثنيين وبعيدين عن البحر الأبيض المتوسط، ومركز الحضارات، في حين تبرز مدينتان من بين الأسطورة والواقع ، وهما روما وبيزنطة. هذه المجموعة البشرية تنتظم مع مرور الوقت في سلطة الدولة وتنتشر في المدن، التي وصفها الجغرافيون كأماكن حضرية ومراكز اقتصادية تندرج ضمن شبكة مترابطة من الطرق، والتي تمتد إلى الدول الإسكندنافية والفولجا. ولكن عندما تعرض هذه القوى في منطقة البحر الأبيض المتوسط وتتعدى إلى الأراضي الإسلامية، فإنها تمثل تصورا جيوسياسيا.على هذا النحو ، يغطي الكتاب ستة قرون من الأرشيف الجغرافي الذي يظهر أن "أوروبا" لم يتصورها الجغرافيون العرب كتلة واحدة لا يمكن تجزيؤها ، بل على العكس من ذلك كانوا ينظرون إليها على أنها أرخبيل ديموغرافي متنوع ومتحرك بلا حدود.
رغم أن العصور الوسطى في أوروبا عرفت عند كثير من المؤرخين بأنها عصور مظلمة إلا أنها كانت تموج بالدينامية الجيوسياسية، التي تفتقت عنهاعلاقات متنافرة تارة ومنسجمة تارة أخرى ومثيرة في أوقات أخرى. تمظهرت على مدى قرون على شكل حروب وفتوحات واستردادات ودبلوماسية وتحالفات وتجارة ومصاهرات وعمليات نقل للعلوم والحرف والصناعات. ولولا المدونات الجغرافية للرحالة العرب لما عرفنا تجليات هذه العلاقات بين البلدان الاسلامية و أوروبا ومقدار ثرائها وأهميتها.
يذكر الكاتب أن الرحالة العرب أطلقوا على أوروبا (أورفا) نسبة إلى المصطلح الموروث عن التراث الإغريقي. ومن بين التصورات التي آمن بها الجغرافيون العرب أن العالم ينقسم الى أقاليم سبعة ولهذا السبب فهم لا يعتبرون أوروبا وحدة متجانسة بل بلدانا متباينة: بلاد الروم (البيزنطيون)، بلاد الفرنج (الفرانك)، بلاد الصقالبة (السلاف)، ولهذا كان الجغرافيون العرب ينظرون إلى أروبا في تعددها وتنوعها. يذكر الكاتب أن عمل أندريه ميكل الضخم الذي أنجزه في أواخر السبعينيات، شكل محطة حاسمة في استجلاء تاريخ التأريخ في الجغرافيا العربية والإسلامية في العصور الوسطى وبروزها كحقل متجدد ومتواصل. وهنا يعترف جان-شارلدوسين بأن كتابه مجرد لبنة أخرى تنضاف إلىالحقل التاريخي وفي هذا المجال من البحث يقترح دراسة تحليلية للبناء التدريجي لصورة أوروبا في المصادر الجغرافية العربية، بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر. ويظهر أنّ الدراسة هي استكشاف جديد، ومفتون بتاريخ التفاعلات بين الكيانات السياسية والدينية في العالم العربي والإسلامي والعالم المسيحي خلال العصور الوسطى.
حقق الكاتب جان شارل دوسين منجزه المتميّز عبر عشرة فصول، تقتفي التطورات الزمنية في المدونات الجغرافية العربية. لهذا يدعونا الكاتب في سياقها إلى إعادة النظر في النتائج التي توصل إليها المستشرقون في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين حول تصورات أوروبا في هذه المصادر.وقد كانت الدراسات التي أنجزت حتى الآن حول هذا الموضوع تتعارض حول مكانة هذه "الأرض الكبيرة"، بحكم التصور الراسخ في ذهن الجغرافيين العرب بأنها مناطق متخلفة في معظمها، ويعتقد البعض أنّ الجغرافيون المسلمين لم يكونوا مهتمين بدراستها، بقدر اهتمامهم بالقارة الآسيوية، والبعض الآخر يدّعي أنّ أوروبا كانت لها مكانة انتقائية في هذه المدونات.ومن هنا يقترح المؤلف تدقيقا كاملاً لهذه المصادر لإظهار التعقيدات جميعها التي تخفيها هذه النصوص ، وطبيعة تباينها وكذلك تطور محتواها وفقا للعوامل الداخلية والخارجية التي يجب ضبطها حتى لا نضيع فرصة فهم هذه الهيكلة التدريجية لأوروبا على ضوء كتابة الجغرافيين العرب.
في المقدمة، يقترح جان-تشارل دوسين تعريفًا للفضاءات التي يختار معالجتها، مهتما بالسياق الجغرافي الواسع لأوروبا بحيث يدمج الأراضي التي تبدأ من شبه الجزيرة الايبيرية إلى شواطئ البونتيك، عبر الجزر البريطانية والدولالاسكندنافية. كما يتضمّن الفضاء المدروس عددًا لا يحصى من السكان لتقديم تاريخ وظيفي، وهذا يمثل تحديا مرجعيا ومنهجيا أمام المؤلف، لكنه يتصدى له بنجاح إذ يقترح جردا ببليوغرافيا يحتوي على أعمال من اثنتي عشرة لغة. وهذا يفسر شساعة معرفته وتنوعها.
وبعد استعراض قصير من طرف الكاتب على ظهور التدوين الجغرافي وتطوره التاريخي في العصور الوسطى، يستعرض الفصل الأول تاريخ حدث التواصل الحربي الأول بين العالم الإسلامي وأوروبا، فضلاً عن كيفية نقل المعرفة الجغرافية القديمة في المدونات العربية. سنتعرف في هذا الفصل - وفي فصول أخرى من الكتاب - على أهمية الميراث الجغرافي الهائل الذي انجزه بطليموس، الذي استفاد من معرفته عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي (المتوفي في 850). ثم يتناول الكاتب في الفصلين الثاني والثالث صورة روما والقسطنطينية في النصوص الجغرافية العربية حتى القرن الثاني عشر. وغالبًا ما كانت تتميز الأوصاف بالمبالغة، ومصدرها اهتمام الجغرافيين بالجانب العمراني الهائل للمدينتين. وبالإضافة إلى ذلك، فقد عزز هذه الصورة أيضا قربالإمبراطورية البيزنطية من بلاد المسلمين والصراعات بين هذه الأخيرة والمسلمين خلال العصور الوسطى التي أصبحت فيه القسطنطينية تمثل مصدر خطر حقيقي على الدول الإسلامية.
ويخصص الكاتب الفصل الرابع والخامس والسادس على التوالي لأوروبا الشرقية وأوروبا الشمالية وأوروبا الغربية. في القرنين التاسع والعاشر، ويظهر أنّ المصادر حول سكان هذه المناطق هي أكثر دقة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بسرد الرحلات، ويقدم الكاتب أمثلة عن ابن فضلان أو إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي. ويمكن أن نتأسف هنا على أن الاستنتاجات العامة والعناصر التحليلية التي استعرضها الكاتب من المصادر يصعب الحصول عليها وتدقيقها، نظرا لكمية التفاصيل والمعلومات الكثيرة. وهذا يدل على سعة اطلاع لا تصدق للمؤلف الذي يأخذ في بعض الأحيان الأسبقية في طرح المعلومات، فيبقى القارئ المهتم متلهفا للمزيد من المعارف التاريخية، وانتظار بضعة أسطر إلى أن يصل إلى استنتاج أو ملخص لكل فصل من الفصول، التي تسمح له بفهم تلك الرهانات والتحديات الجيوسياسية والديموغرافية التي تحكمت في التدوين الجغرافي.
وبعد أن نتتبع المسار الذي سلكه إبراهيم بن يعقوب الطرطوسي خلال جولته في أوروبا الأثونية في النصف الثاني من القرن العاشر، يعكف المؤلف في الفصل الثامن، على نصوص من القرن الثاني عشر، ويلاحظ القارئ بروز الخطوط العريضة للخطاب الجغرافي عن أوروبا ، مكتسبا التنوع والدقة. وهنا يحضر من الكتاب العرب الأكثر شهرة عند المؤرخين الأوروبيين، مثل الإدريسي، على وجه الخصوص، والحميري وغيرهما. يبرهن المحتوى الوصفي للمصادر أنه كان يُنظر إلى أوروبا على أنها مجالات متداخلة بشبكة طرق كثيفة، محفوفة بمناطق مدنية وخصبة. أمّا على المستوى الديني، فيحدد الجغرافيون العرب السكان الأوروبيين على أنهم مسيحيين، في حين بقي معظم هؤلاء السكان حتى القرن العاشر مرتبطين بالوثنية.
بعد ذلك خصص الكاتب فصلين لمكانة روما والقسطنطينية في المصادر حتى القرن الثاني عشر، يعود جان تشارل دوسين إلى العاصمتين المسيحيتين وما وصف بهما في النصوص اللاحقة. نلاحظ عندئذ أنّ المعلومات المتعلقة بروما تنفصل تدريجيا عن الواقع، ولا تستوفي معالمه أو تنزلق إلى عالم الخيال، بينما تظلالقسطنطينية مكانًا يجتذب اهتمام المؤرخين الذين كانوا يتابعون التطور العمراني للمدينة.سيتغير الخطاب الجغرافي كليا في العصر المملوكي. بحيث كان لتكثيف العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين أوروبا وسفارة القاهرة تأثير على تصورات الجغرافيين لأوروبا، والتي اكتسبت الدقة وفي الوقت نفسه، أعادت التركيز على الكيانات السياسية المتنافسة أو المتحالفة معها، التي تتمركز في العواصم فقط، وتقدر حسب قوتها. ومع سقوط الأندلس سيتوجه التدوين الجغرافي، نحو مناطق هامشية مثل شواطئ البحر الأسود، في هذه الفترة سيبرز شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري (توفي عام 1349) وهو من أهم الرحالة في عصره ويعد كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" تحفة جغرافية. قام فيها بدراسة الجغرافية السياسية، ودرس تواريخ الأمموعجائبها، ودرس الفلك، وتجول في البلاد من الشام إلى الحجاز والأناضول وغيرها من المناطق. كما حاول في مصنفه تحديث المعلومات السابقةوتثبيت معلومات جديدة مبنية على المشاهدات المباشرة، كما يقدم تأملات حول مفهوم المملكة - بمعنى الدولة – وحول الوسائل اللازمة لتسييرها بشكل صحيح. وأخيراً، يدعم عمله الجغرافي بخريطة جيوسياسية للقوى ذات النفوذ في البحر الأبيض المتوسط. هذه الجانب الأخير هو الأكثر أهمية وبه ينهي الكاتب الفصل الأخير، حيث يبرز أنّ الخطاب الجغرافي في القرون المتأخرة من العصر الوسيط ستنزلق نحو مسألة تجسيد هذه الكيانات السياسية، ويقلل من مساحة العمل وصف عاصمة أو كيان سيادي، وهكذا تختفي أوروبا الشمالية والغربية لصالح شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث المنافسة السياسية والحربية والتجارية والدبلوماسية بين الكيانات السياسية في جنوب أوروبا والعالم الإسلامي محتدمة وأكثر إثارة لانتباه الجغرافيين العرب.
يقدم الكاتب خاتمة رفيعة تسمح باستكمال قراءة هذا الكتاب بأفكار واضحة حول تطور الخطاب الجغرافي العربي الاسلامي حيث سنخلص إلى أن الأعمال الجغرافية الأولى، كانت تركز على العرق الجغرافي لأوروبا، هذه الجغرافيا العرقية المتباينة تعارض صورة الأمة الإسلامية التي ألغى فيها الإسلام هذه الهويات العرقية. وقد سمح الاتصال المباشر للرحالة مع هؤلاء السكان - خاصة في أوروبا الشرقية - بتطوير المعارف.ربما تأتي المساهمة الأكثر إثارة للاهتمام في هذه التصور الجغرافي الاسلامي لأوروبا الغير متجانسة، أنها في الواقع تم تصورها في فضائها المسيحي - بصرف النظر عن نفوذ الامبراطوريتين الكارولنجية والبيزنطية. فبعد القرن الثاني عشر، ستتوسع الأراضي البحرية والبرية، لهذا سيحضر الفضاء الجغرافي بدقة، وتصبح الديانة المسيحية سمة لهذه الجغرافيات، التي تتجسد، من الآن فصاعداً في المدن وصلاحيات الدولة التي أصبحت معالمها أكثر وضوحا. تعد الأسطر القليلة التي خصصها جان شارلدوسين لتطور المصطلحات المستخدمة لوصف هذه الأراضي الأوروبية مثيرا للاهتمام بشكل خاص ويعكس هذا التصور التدريجي للأراضي الأوروبية في أذهان الجغرافيين.
يمكن القول أن قراءة الكتاب لا تخلو من التعقيد لأن الموضوع غني وشاسع ويستند فيه المؤلف إلى معرفة مفصلة ودقيقة عن تاريخ البحر الأبيض المتوسط ، والعالم اللاتيني، والعالم الإسلامي في العصور الوسطى، متنقلا بين ما وصفه الرحالة من عادات وتقاليد وأعراف وفنون وأساطير وديانات وحياة سياسية وتجارية. وهو ما سمح للكاتب بالرجوع إلى معلومات غنية ونادرة وردت في مصادر عزيزة المنال، لإنجاز عمل تأريخي فذ. نجد فيه تأملا معمقا، في كثير من الأحيان، يحيل على معلومات جديدة ومفاجئة، تؤكد تمكّنَالكاتب من مصادره المعتمدة. بالإضافة إلى ذلك، في خاتمة كتابه ينصح الكاتب الدارسين بضرورة إتقان العديد من اللغات القديمة، ومن بينها اللغة العربية، لكي يتمكن الباحث من سبر هذه الكنوز، بالمقارنة والتمحيص بين المصادرالتاريخية والجغرافية الأصلية التي قدمت صورة متباينة ومتنوعة وغريبة في بعض الأحيان عن أوروبا من شرقها إلى شمالها وغربها ونزولا إلى جنوبها، والتي عكست، في بعض الأحيان، تصورا عربيا وإسلاميا يصعب فهمه إذا لم يردّ إلى مصادره الأصلية وسياقاته التاريخية والثقافية والسياسية.
-----------------------------------------------------
التفاصيل :
عنوان الكتاب: أوروبا و الجغرافيون العرب في العصور الوسطى من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر.
المؤلف: جان شارل دوسين
دار النشر: CNRS ، باريس، فرنسا
سنة النشر: 2018
عدد الصفحات:500 ص
اللغة: الفرنسية
