تأليف: رينيه تن بوس
سعيد الجريري | كاتب عربي مقيم في هولندا
أيُّ ناس، وأيُّ كهف، اللذان يُعنَى بهما المفكِّر الهولندي رينيه تن بوس أستاذ الفلسفة في جامعة رادبود، في نايميخن، في كتابه الجديد "الناس في الكهف؟".
إنَّه يميل -عادةً- لاستخدام الاستعارة في التعبير عن أفكاره وعرض رؤاه الفلسفية، في سياق ما يقترحه من آلية اشتغال تضع الأفكار الأكاديمية في متناول جمهور واسع. ولعل المدخل إلى كتابه يقتضي إضاءة كهوف اللغة والتاريخ والفلسفة، وهنا تشخص أسطورة كهف أفلاطون، في الباب السابع من كتاب "الجمهورية"، التي يُوظف الكاتب رمزيتها في تصوره الدائر محتواه حول تعاملنا مع الحقائق، وهو جزء من مشروعه الفكري الذي أنجز منه حتى الآن ثلاثة عشر كتاباً، منها ما هو حول العلاقة بين البشر والحيوانات، والكارثة البيئية التي تسمى الإنسانية، والبيروقراطية. ولعل من أبرز تلك الكتب: التفكير الاستراتيجي (1997)، الموضة واليوتوبيا في التفكير الإداري (2000)، الحيوان العبقري (2007)، تجوّل في الإنثروبوسين (2017). وقد أُسبغَ عليه لقب "مفكر الوطن"، لمدة عامين؛ اعتباراً من أبريل 2017، وهو لقب فخري له رمزيته في سياق الاحتفاء الوطني الهولندي بمنجزه العلمي.
يتألف الكتاب من مُقدمة ضافية وثلاثة فصول، يعرض في أولها لمرجعية النظر إلى الناس ومعرفتهم العالمَ من البدايات الأولى إلى الطرائق المنهجية، ويتم فيه التفكير بعناية في إعادة بناء الكهف بدلالته الأشمل. ويدير الثاني حول العلماء والصحفيين أو نخبة المجتمع. فيما يخصص الثالث لتأمل الناس وبلورة خصائصهم المائزة وفق تصوره؛ باعتبارها علامات دالة في متن الفلكلور الفلسفي الذي يقترحه.
ويبدو أنَّ تأملات الكتاب وتحليلاته تؤدي إلى تفسير الفجوة بين العلم والمجتمع، وتجسير المسافة بين الفلسفة والناس. ولنا على خلفية التعبير الاستعاري من أفلاطون أن نستحضر هنا نظرية الكهف التي هي من أشهر نظرياته الفلسفية على مر التاريخ؛ إذ أسس نظرته الجوهرية على أن ما يراه الناس أو ما اعتادوا أن يروه، قد لا يكون هو الواقع أو الحقيقة عينها، بل لا يعدو كونه مجرد ظلال للحقيقة، فالحواس خادعة، ولا سبيل إلى الركون إليها، بأي حال من الأحوال.
الناس -ناس هذا الكهف الأفلاطوني- ليسوا متجانسين، وفق رينيه تن بوس، فهم نماذج عديدة مختلفة؛ فمنهم: الكهفي البدائي، والمنسي، والحسي، والمطمئن، والمخدوع، والأعمى، واليقظ، والراضي، والمستأنس، والتائه، والماضوي، والمتخلف...إلخ. على أن هناك، أيضاً، الباحث عن المعنى، والفاشل، والحكيم، والنزق، والنائي، وشارد الذهن، والكذاب، والمميز، والمبتسم والسعيد...إلخ. أي أن الناس معنى متعدد التجليات، فلا مجال، والحال هذه، للزعم بأنهم عينة واحدة، وهو ما يشيع في خطاب الساسة ورؤساء الحكومات مثلاً في المواقف الرسمية؛ إذ يشيرون إلى الناس أو الشعب، بينما الواقع لا يحيل إلى الناس أو الشعب في منطوق خطاب ذلك السياسي أو رئيس الحكومة الذي ينوب عن السكان أو الجميع، في بلده!
ومِمَّا يثيره رينيه تن بوس في كتابه سؤال قديم جديد ما زال مُعلقاً: لماذا يجب علينا الخروج من الكهف، مادام في الكهف شعور بالراحة، حتى بالأخبار المزيفة التي يميل الكهفيون إلى تصديقها، بدلاً من قلق البحث عن الحقيقة أو رعبها؟ وهل يكون من الطبيعي اختيار أو تفضيل الكهف المشبوه على ضوء الواقع البارد وفقاً للفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك: نريد جميعاً العودة إلى طمأنينة الرحم؟
الجهل أصل الشر في نظر الفلاسفة وغيرهم؛ لذلك كان على الناس أن يعالجوا هذا الإشكال، ولأنهم لا يعرفون معرفةً فُضلَى، فإنهم يحتفظون بظلال الحقيقة أو الواقع. غير أن الحقيقة ربما هي أن الناس قد لا يريدون أي حقيقة على الإطلاق -يقول رينيه تن بوس- وليست هناك حقائق أيضاً، وأنْ ليس المراد هو المعرفة التي يجب تعلمها؛ فالمعرفة التي تُراد إنما هي المعرفة الفطرية، بحيث لا يكون للفلاسفة على الناس درجات، فهو يريد أن يكون فيلسوف الحد الأدنى الذي يفعل أقل قدر ممكن من ذكائه. فليس على المرء أن يعرف ماهية الشمس للاستمتاع بدفئها. فوفقاً لهذه الفلسفة قد يكون لدى الناس أسباب وجيهة لعدم الإصغاء للعلماء مثلاً والصحفيين أو صنّاع الرأي؛ وبالتالي عدم الخضوع لمقولاتهم ووجهات نظرهم، وما يُصدِرون عنه من منظور فكري أو ثقافي.. إنهم يؤدون وظيفة قديمة مموهة بالجدة.
لكن: هل يغدو التنوير ممكناً في عالم لا يريد أن يرى؟ سؤال تعمق فيه رينيه تن بوس، مستقصياً كيفيات العالم الذي لا يريد الحقائق كما هي لا كما تبدو له؛ فالحقيقة المرة تبقى خارج الباب، والكهف ملجأ يهرب إليه الخائفون الذين كثيراً ما يضعون رؤوسهم في الرمال عندما يتعلق الأمر بالحقائق، فهُم يفضّلون البقاء في كهوفهم، ويخلقون أشكالاً جديدة للطمأنينة تمكنهم -على الأقل- من الحفاظ على الواقع، أياً كانت صورته.
وفي سياق ضرورة الوهم الذي يحتاجه الإنسان ويبحث عنه، لا يمكن لأحد أن يستغني عن الأوهام، لكن إذا كان الوهم هو القاعدة فذاك مؤشر حينئذ على أن هناك خطأ ما. فالسياسيون، مثلاً، هم بشر من لحم ودم مثلهم كمثل غيرهم من الناس، لكن عندما يتم ترويجهم بالصور على الدعائم الإعلانية، أوفي الحملات الانتخابية، يصبحون أكبر من حجم ذواتهم الحقيقية.
ليست هناك حقائق بحسب نيتشه، وإنما هناك تفسيرات، وقراءة العالم لا تعني أنه كتاب، لكن من المفيد رؤيته كذلك -باعتباره كتاباً- فهذا قد يجعل العالم مألوفاً. وإذ لا يوجد حل فهو الحل الوحيد: ليس الدين وليس السياسة وليس العلم، فالأمل الوحيد الذي يبقى -بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس- هو أن االعلم يتمثل حكمة تسامحية لم يعرفها الدين والسياسة في سياقيهما العامين واشتغالاتهما الجوهرية.
لقد أصبحتْ الحياة مُعقَّدة إلى درجة أن أيًّا منا لن يكون خبيراً في جميع الحقول والمجالات. فالحقيقة لا تعني شيئاً على الإطلاق في الحركة الاجتماعية مثلاً، لكن يمكن تلخيص رسائل التنوير المظلم في ثلاثية متصلة:
- أن أي ادعاء للحقيقة سخيف ومتعجرف وخادع.
- إذا كان هناك أي معرفة بالحقيقة فهي -عادةً- ليست جيدة للناس؛ لأنها تنفّرهم من الواقع.
- الولاء للناس أكثر أهمية من الولاء للحقيقة.
ولعل من المفارقات أن المدينة نفسها هي كهف -مهما تكن ذات توصيف موازٍ أو على النقيض منه- فسكان المدينة، أي مدينة، لا يعرفون ما يحدث خارج المدينة في العالم. ومنذ أفلاطون كان هناك ازدراء خفي للناس، فهم كهفيون لايمثلون شيئاً على الإطلاق فكريًّا؛ لأنهم غير قادرين على تفسير الحقيقة، وقد كان للكهفتأثير هائل، على ثقافتنا الإنسانية عامة، ذو فاعلية عميقة.
إنَّ كتاب "الناس في الكهف" خطاب للناس، أولئك الذين هم بقدر شمولهم باللفظ يختلفون ويتعددون في الدلالة والكيفية والماهية أيضاً، ولعله لذلك حاول رينيه تن بوس أن يبلور الفلكلور الفلسفي، في منجزه الجديد، بجملة من الخصائص المائزة للناس، وفق تصوره؛ من أبرزها أن:
- الناس يحبون كهفهم.
- الناس يهتفون أو يصرخون عندما تجري الأمور بخير أو بسوء.
- الناس يشعرون بالنسيان.
- الناس يعيشون في الكهف، لكنهم لا يحبون ذلك.
- الناس لا يريدون رؤية الأشياء.
- الناس لا يرون دروس النخبة مثيرة للاهتمام.
- الناس يحبون التقليد.
- الناس يحتاجون إلى تعلُّم المعرفة.
- الناس يرون الحياة في الكهف ممتازة.
- الناس لا يجوز لهم العيش في كهف، ولكن في أنواع من المنازل.
- الناس عالقون في الكهف.
- الناس في كهف أفلاطون لا يتذكرون أي شيء.
- الناس يَخدعون ويُخدعون.
- الناس لا يتسامحون مع الأفكار المعارضة.
- الناس يتعرضون للاختبار.
- الناس يقرؤون كل شيء.
- الناس ليسوا مجانين ولا يريدون الفشل.
- الناس يحافظون على الذات ويعتمدون على الحس السليم.
- الناس الذين يكونون مستقلين في العالم لا يُسهم استقلالهم في الحفاظ على الذات.
- الناس لا يعرفون ما إذا كان باب الغرفة يُفتح داخليًّا أو خارجيًّا.
- الناس جميعهم يكذبون.
- الناس يكونون في بعض الأحيان محبين للحقيقة.
- الناس يختارون مصالحهم الخاصة.
- الناس يحبون ترامب.
- الناس لا يستطيعون إخفاء ضحكهم.
- الناس في الكهف راضون وسعداء.
غير أنَّ الناس لا يحتاجون إلى الحقيقة ليعيشوا برضا. فالحقيقة هي نوع من السهول التي تقع في مكان ما في مكان مرتفع، ولكن لا يمكن الوصول إليها بسهولة.
وفي سياق رؤيته التي يصدر عنها في مجمل مشروعه الفكري المُنجَز، يوجه رينيه تن بوس قراءته النقدية إلى تصورات النخبة من علماء وصحفيين يستهدفون تشكيل وتوجيه وعي العامة، بالمعنى الواسع، أومعرفتهم وفق مشارب منهجية وأيديولوجية معينة، فيرى أنه آن الأوان لكي تغادر الفلسفة نخبويتها وتقترب من تكوينها الشعبي، ربما كمحاولة لمغادرة كهف أفلاطون بعد ألفي عام من الفلسفة التي أقامت كما يرى جدراناً سميكة في الكهف نفسه، أدت دور العزل والإغواء بالظِلال عن رؤية الحقيقةكما هي وأصواتها لا أصداءها التي تبدو بديلاً عنها.
ولعلَّ أهمية هذا الكتاب تأتي من كون مؤلفه مفكراً من داخل المؤسسة الأكاديمية، لكنه يقفز على جدارها العالي، ليقترب من الناس بما هم خارج النخبة التقليدية، وهذه مزيةٌ له ولمشروعه الفلسفي الذي يشتغل عليه في التفكير والممارسة، باحثاً ومحللاً وناقداً لقضايا تاريخية وآنية على تماس مباشر من منجزات اللحظة وتحولاتها، كمختص في فلسفة الإدارة التي رفدها بأبحاث وأفكار إستراتيجية، رغم اشتغالها على الآني والمتغير، ليقدم بذلك نموذجاً مثيراً للجدل عن المشتغل بالحقل الفلسفي في عالمنا المعاصر، الذي يستطيعمد جسور بين الفلسفة من حيث هي، والقضايا الاجتماعية، ولكن دون تبسيط المسألة بلا داع. ولعل كتابه هذا يمثل مساءلة فلسفية للمنجز الفلسفي عبر التاريخ منذ أفلاطون إلى اللحظة الراهنة وتحدياتها، لا سيما السياسية التي أنعشت النزعات الشعبوية في أوروبا وأمريكا، ولم يعد من المنطقي بقاء الفلاسفة على مقاعد معلقة في فضاء تاريخي، فيما يمُور العالم من حولهم بتساؤلات جوهرية تجاوزت كهفيات الإجابات النخبوية التي تبدو له تسويغية أكثر من كونها تنويرية، كما هي وظيفة الفلسفة الحقيقية.
ثمة عِبارة مُكثَّفة يختم بها رينيه تن بوس كتابه، كخُلاصة موجزة لكل ما أمعن النظر فيه والتأمل: "... بعد كل شيء، ليس على الناس أن يأكلوا ما تُعده النخبة وتقدمه لهم". وتلك هي رؤيته التي ينطلق منها لإشاعة الأفكار الأكاديمية، وجعلها مبذولةً في متناول الجمهور (الناس)؛ حيث لا سلطة للنخبة على الشعب بمزاعم كهفية جديدة، تنفي عن نفسها كهفية مضمرة، يقف تن بوس على مسافةٍ منها ناقداً جارحاً، وربما مستفزاً أحياناً. فهل يبقى الناس كما هم في متصور الفلكلور الفسفي؟ أم هل يغادر الكهف بأفلاطونيته العتيدة؟ سؤالان مازالا معلقين في فضاء التأمل، ريثما ينتج المسار الفلسفي إجابات تعزز منطوقهما أو تقوضه، أو تجري عليه اقتراحاتها المعمَّقة.
-----------------------
التفاصيل :
- الكتاب: "الناس في الكهف".
- المؤلف: رينيه تن بوس.
- الناشر: بَوم ـ أمستردام، باللغةالهولندية، 2018م.
- عدد الصفحات: 192 صفحة.
