تأليف: برنارد ريجان
عرض: فينان نبيل | أكاديمية مصرية
أرسل وزير الخارجية البريطاني"آرثربلفور"خطابا في (2 نوفمبر1917) إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا "البارون روتشيلد"، كان نصه كالتالي"يسرني أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته بالتصريح التالي الذي يُعبر عن التعاطف مع طموحات الصهاينة التي تم تقديمها للحكومة ووافقت عليها، إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس"وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية،على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية، والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين أو من الحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى أو يؤثر على وضعهم السياسي، سأكون ممتناً لك إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا البيان"، وصل هذا الخطاب إلى الفيدرالية الصهيونية، بعد التنسيق مع الحكومة البريطانية ليسمح بدعم تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي الفلسطينية وعرف باسم "وعد بلفور"، أدت هذه الرسالة إلى قيام دولة إسرائيل وما تبع ذلك من حروب وأزمات في الشرق الأوسط.
جاءت رسالة "بلفور" تتويجاً لسنوات عديدة من الاتصالات والمفاوضات بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا في زمن الحرب بشأن مصير بلاد الشام، مثل مراسلات المفوض السامي البريطاني لمصر السير"هنري مكماهون"، و"حسين بن علي" شريف مكة، والاتفاق السري الإنجليزي- الفرنسي بين السير"مارك سايكس"،و"تشارلزبيكو"حول تشكيل تبعية الشرق الأوسط المعاصر، والمعروف باتفاقية سايكس– بيكو، ويعبر المؤرخ "بيان الهوت"عن وعد بلفور بعبارة موجزة "وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق"، فقد كان موضوع مصير الأراضي الفلسطينية قيد البحث في دوائر الحكم في بريطانيا بعد دخولها الحرب العالمية الأولى مباشرة. وجرى أول لقاء بين "حاييم وايزمان"، زعيم الحركة الصهيونية لاحقًا، و"بلفور" عام 1904 وتناولا موضوع إقامة وطن اليهود في فلسطين.
يثير"وعد بلفور"جدلا بين المؤرخين فهناك من يرى فيه مشروعا بريطانيا مسيحيا نبيل الأهداف لمساعدة اليهود للعودة إلى وطنهم التوراتي حظي بدعم ساسة متعاطفين مع الحركة الصهيونية، بينما يربط فريق آخر من المؤرخين بين الوعد والسياسة الإمبريالية لبريطانيا، والتي كان من بين أهدافها الحصول على دعم يهود الغرب، لم يقتصر الخلاف على المؤرخين بل إنه ولد قبل صدور الوعد نفسه، فقد كان الوعد مثار خلاف داخل حكومة "لويد جورج" فعندما كان رئيسًا للوزراء انقسم المسؤولون إلى فريقين أحدهما مؤيد، وفريق آخر يعارض الأمر. ومن بين أعضاء فريق المعارضين الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة "أدوين مونتغيو" الذي كان يرى أن إنشاء وطن قومي لليهود سيقوض من الجهود المبذولة لتحقيق المساواة بين اليهود وغيرهم.
لعبت بريطانيا دورا رئيسا في التأسيس لإنشاء دولة إسرائيل 1948منذ فترة الانتداب البريطاني في فلسطين، ورغم أن الرسالة لم تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة دولة لليهود في فلسطين، فهي لا تتضمن كلمة "دولة" بل تتحدث عن "وطن"، لكنها أدت دوراً أساسياً في إقامتها بعد 31عاما من تاريخ الرسالة. كما ساهمت الرسالة في تشجيع يهود القارة الأوروبية على الهجرة إلى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعودا للتيارات القومية المعادية للسامية.
هناك أسباب تاريخية تخص بريطانيا ذاتها دعتها لمنح هذا الوعد، فقد تغيرت مظاهر الإمبريالية في الفترة (1850-1800) ففي القرن الثامن والتاسع عشر، تضخمت الصناعة والتكنولوجيا في بريطانيا، وازداد معدل النمو الاقتصادي فيها من (1840-1870) بنسبة 88 في المائة، ثم ازداد في الفترة مابين (1870-1913) إلى 124في المائة مقارنة بفرنسا التي زاد معدلها من 45إلى100% في نفس الفترة، بينما وصلت ألمانيا في الفترة من (1870إلى 1913) إلى 229 في المائة، وأمريكا 426 في المائة. وأدت زيادة سرعة النمو الرأسمالي، والمنافسة الاحتكارية العنيفة للسوق والرغبة في التحكم في المواد الخام، والسيطرة على خطوط المواصلات إلى ظهور شركات ضخمة لها اهتمامات دولية، هذه الكيانات الضخمة بدأت في السعي لخلق ظروف مواتية لها في دولها، وسعت حكومات تلك الدول لتحقيق مصالح شركاتها، شجعت الحكومة البريطانية على الاحتكار، وقبلت وزارة الخارجية أن تعزز الشركات الخاصة في مناطق ذات حساسية سياسية، نتج عن هذا التنافس والصراع بين القوى العظمى على الأسواق أماكن المواد الخام، حرب عالمية سنة (1914( بين جانبين، الأول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا)، والآخر المحور يضم (ألمانيا والدولة العثمانية، والنمسا) ثم أعلنت الولايات المتحدة الانضمام للحرب 1917، وتغيرت نتائج الحرب بعد انسحاب روسيا بعد ثورة (أكتوبر 1917(، أسست الحرب للاقتصاد السياسي العسكري، في بريطانيا نفسها الحرب أصبح لها بناء اقتصادي واجتماعي وسياسي منسجم مع رؤية الدولة.
تزايدت أهمية البترول الحيوية في الصناعة والتقدم التجاري وأصبح عنصرا أساسيا في المنافسة، فقامت بريطانيا بإنشاء شركة بترول (أنجلو برايزيان 1909) وحاولت التحكم في كل منطقة يمكن أن يوجد بها بترول واحتكاره، وأدت المفاوضات بين فرنسا وبريطانيا ولحقتها الولايات المتحدة حول استخراج واستغلال واستخدام البترول في المنطقة لتقسيم الوكلاء لشركات البترول الرئيسة، والحكومات والبنوك.
فلسطين لم تكن مصدرا للمواد الخام، إلا أنها تتميز بموقع له اعتبار ومغزى، فهي نقطة اتصال جوهرية وحيوية للإمبريالية الاستعمارية، تجعلها قادرة على التحكم في طرق التجارة كما تتحكم في وصول المنافسين لمصادر المواد الخام وقوى السوق، لذلك سيطرت بريطانيا على فلسطين، وبنت قاعدة طرفية في "حيفا" تقطع الخط الواصل بين خطوط الإمدادات من الموصل إلى بلاد ما وراء النهرين، وتعتبر فلسطين نقطة التزود السريع بالوقود بالإمدادات واستراحة لرحلات الطيران المتنامية بين الهند والأجزاء الأخرى من الإمبراطورية في الشرق.
تزامنت هذه الظروف مع صعود الحركة الصهيونية وهي حركة نهضة قومية استجابت لبرنامج نشأ خاصة في شرق أوروبا، المشروع الصهيوني هو خلق وطن لليهود يقتصرعلى المجتمع اليهودي، قادة الحركة كانوا على يقين منذ بدايتها أنها حتى تصل إلى أهدافها ستحتاج إلى ظهير قوي يوفر لها الحماية، فاقتربوا من كل القوى الاستعمارية الأساسية (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، روسيا، والخليفة العثماني). حتى قررت الحكومة البريطانية في أواخر (1917) دعم المشروع الصهيوني في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بدافع المصلحة الذاتية، والتي التحمت مع الحركة الصهيونية،هذه المهمة بالنسبة لبريطانيا هي إقرار لاستقرار الامبراطورية دون أن تظهر كمستعمر أو محتل توسعي، وبدأت تخفي الاستعمار تحت ستارة إعادة التشكيل والبناء. إنهم أملوا أن يوفر الاستيطان الصهيوني بديلا مناسبا ومؤثرا لتنفيذ الاحتلال تحت مظهر إعادة تشكيل القومية. الصهيونية حتى اليوم حركة سياسية هامشية خارجة عن المجتمع اليهودي أصبحت مساعدا هاما للاستراتيجية البريطانية الامبيريالية في الشرق الأوسط، وقد اتبع المستوطنون استراتيجية خاصة تتحالف مع الولاء الاقتصادي لراعيهم وحليفهم.
إن وعد بلفور لم يكن مجرد اتفاق بين شخص أو مجموعة أشخاص أو منظمة إنما كان متابعة للقوى الاستعمارية لأهدافها. كل من بريطانيا ومنافستيها الاستعماريتين ألمانيا وفرنسا كان لديهم أطماع في نفس المنطقة لنفس الأسباب السابقة، في حين كانت بريطانيا في صراع عسكري مع ألمانيا وحلفائها، إذ تحركوا لبناء نظام تعويضي للحلفاء يتأسس على ركيزتين رئيستين، الأولى استخدام طموح الحكام العرب في الاستقلال عن الدولة العثمانية من خلال التفاوض مع "السلطان حسين" معتمدين في ذلك على علاقته بالمسئولين الإنجليز، وهي العلاقة التي اتضحت من خلال رضوخه لهؤلاء المسئولين الذين استأثروا بالسلطة الفعلية من دونه،الركيزة الثانية :توثيق الشراكة مع فرنسا من خلال اتفاقية سايكس- بيكو، وكانت الامبراطورية العثمانية تعاني من التوسع الاستعماري في منطقة نفوذها،وفي توقع لهزيمة بريطانيا كان هناك عدة خيارات لإنشاء وطن قومي لليهود متضمنة استعمارا لبعض المناطق حول منطقة البصرة في دولة العراق، ولكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض، ومن أجل ذلك تم دعم المشروع الصهيوني لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
وعد بلفور بيان متناقض مع ذاته لأنه التزام تجاه الصهيونية بوجود وطن لهم على حساب السكان الأصليين. قدمت بريطانيا إجراءات سياسية واقتصادية لخلق وطن قومي لليهود ومنحت عقودا اقتصادية للصهاينة كوكلاء. هذه الشراكة غيرت من شكل السياسة الفلسطينية، وساهمت في إعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني. هذه التغيرات السياسية والاقتصادية المفروضة من أعلى لم تكن متجانسة مع المجتمع الفلسطيني، إذ أدت لتغيره في القرن العشرين،فقد تحالف المستوطنون اليهود مع المستعمر البريطاني مما أثر في التركيب الديموغرافي للسكان. في البداية كان احتجاج الفلسطنينين منصبا على هجرة اليهود واستيطانهم،ثم أصبح واضحا لهم أن السلطة الإنجليزية تنكر حقهم في تقرير مصيرهم،وبدأ الكفاح المسلح منذ نهاية 1920ضد الاحتلال الإنجليزي، وتعاظم طموح الفلسطينين جنبا إلى جنب مع نمو رغبة الصهاينة في تشكيل وطن قومي لهم والتي تشجعت واحتمت بالاحتلال الإنجليزي.
جاء تصريح بلفور استجابة للضغط الصهيوني واستجابة لأحداث أخرى خارجية أثرت في الامبراطورية البريطانية، كان سباقا من التنافس المستمر بين الامبيريالية البريطانية وحليفتها لبناء المستوطنات التى واجهها شعب فلسطين كما واجه تحديات في محاولاته لتحديد مصيره، ولم يكن تسهيل التوسع في بناء المستوطنات اليهودية إلا نتيجة ضعف الدولة العثمانية. ذهبت كثير من الآراء إلى أن المستوطنات كانت بديلا عن المستوطنات التي فقدت في الشرق الأدنى. المستوطنون اليهود شكلوا مجموعات تعتبر اليهود شعبا عائدا،وقدم البريطانيون أنفسهم كمساهمين في تحقيق العودة التاريخية لفلسطين أكثر من كونها تمددا استعماريا. وربطت الحركة الصهيونية نفسها بالهوية اليهودية، واستحضرت الروايات التوراتية لإضفاء الشرعية على إنكار حق الشعب الفلسطيني، واستحلال ممتلكات أصحاب الأرض،وتنفيذا للأيديولجيات العلمانية التي ادعت "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" تأسست في الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية عند جون لوك .
شن الفلسطينيون في الذكرى المئوية لإعلان بلفور حملة تدعو بريطانيا لاعتذار رسمي، حيث خاطب رئيس السلطة الفلسطينية "أبو مازن" الأمم المتحدة لتدعو بريطانيا إلى اعتذار رسمي وتعويض عن الوعد الذي أعطته بريطانيا دون موافقة من أي شخص، وقد هدد بمقاضاة لندن عن الأضرار الناجمة عن الإعلان وإنشاء إسرائيل،والهدف لم يكن الاعتذار في ذاته، و"إنما الهدف هو الكشف عن عدم شرعية دولة إسرائيل في الوقت الذي يدخل ضمن عدة خطوات عملية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين .
لقد فشلت المقاومة الفلسطينية تاريخيا ضد الامبراطورية البريطانية والصهاينة سواء العنيفة وغير العنيفة؛ لذلك أصبح من الضرورة تدويل القضية،وكانت المفارقة هي أن التزام بلفور القانوني الكامل الذي صدقت عليه عصبة الأمم في عام 1920،تم إدانته بنفس القوة وصدرت توصية من الأمم المتحدة في فلسطين لعام 1947 بأن تقسيم فلسطين غير شرعي وغير عادل بالنسبة للفلسطينين،قد يمثل الاعتذار استعادة جزئية للشرف الوطني الفلسطيني ويشكل خطوة للأمام نحو القضاء على إسرائيل،وعلى الرغم من مطالبة النشطاء الفلسطينيين بتعويض عن بلفور فإنه من الصعب أن نرى القيمة المباشرة لهذا الاعتذار في المساعدة على إقامة دولة فلسطينية .
تأتي الاحتجاجات في الذكرى السنوية لإعلان بلفور في ظل نظام عربي في أدنى مستوياته/سوريا وليبيا واليمن في حالة انعدام الفاعلية،والعراق ينحصر بين زاويتين إيران من ناحية وكيان داعش الآخذ في التقلص وكردستان المستقلة، في لا شيء إلا الاسم، والسلطة الفلسطينية دولة زائفة لا توجد إلا بفضل المساعدات الخارجية والمساعدة الأمنية الإسرائيلية. الاحتجاج على إعلان بلفور وحملة طلب الاعتذار هي عنصر آخر في الحروب الفلسطينية ضد الحقائق التاريخية المغلوطة التي يجب إنكارها أو مهاجمتها أو إعادة كتابتها، بدلا من مناقشتها، أو الاعتراف بها، أو تقاسمها.
يعد وعد "بلفور" امتدادا لسياسة بريطانيا الاستعمارية،، لم يرتبط هذا الوعد بأي بعد ديني أو أخلاقي بل هو محاولة من بريطانيا إلى مد نفوذها إلى فلسطين بسبب موقعها المتميز، فاهتمام بريطانيا بفلسطين كان يسبق أي علاقة بينها وبين الحركة الصهيونية.
----------------------------
التفاصيل :
عنوان الكتاب: وعد بلفور- الانتداب والمقاومة في فلسطين
المؤلف: برنارد ريجان
الناشر: المملكة المتحدة- فيرسو- 2017
اللغة: الإنجليزية
