يكتسب هذا الكتاب "نمط العيش الإمبريالي: عن استغلال الإنسان والطبيعة في عهد الرأسمالية العالمية" "Imperiale Lebensweise
Zur Ausbeutung von Mensch und Natur in Zeiten des globalen Kapitalismus" أهمية بالغة ضمن الأبحاث التي تناولت موضوع الاستغلال الرأسمالي لدول الجنوب، وذلك لثلاثة اعتبارات. يتمثل الأول في كون هذه الدراسة ثمرة تجربة غنية وتعاون علمي مكثف، جلب موجة من النقد البناء من طرف المتخصصين. ويتلخص الثاني في كون اللبنة الأولى في بناء هذا الكتاب هي ورشة عمل أقيمت في شهر أغسطس سنة 2016 في مؤسسة روزا لكسمبورغ "Rosa-Luxumburg" في برلين. وقد تلقي الباحثان أولريش براند Ulrich Brand وماركوس فيسن Markus Wissen أثناء العروض والمحاضرات التي قدّموها في موضوع هذا الكتاب أسئلة ومراجعات نقدية من طرف مجموعة من الباحثين والعلماء وناشطين سياسيين مهتمين بـ"أنماط العيش والإنتاج الإمبريالية" و"بنيات الاستغلال في القرن الواحد والعشرين". ويتجلى الاعتبار الثالث في أنّ قراءة الكتاب، الذي كان ثمرة كل هذه النقاشات وهذه الحوارات، تُبين أنّ الحاجة مازالت ماسة إلى دراسة العلاقات الموجودة بين العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع القضايا والتغيرات البيئية من خلال دمج العلوم الاجتماعية الإيكولوجية مع الاقتصاد السياسي، وذلك من أجل دراسة موضوعات مثل الاستبعاد الاجتماعي والتهميش والصراع البيئي والسيطرة والهويات البيئية والحركات الاجتماعية.
والباحث أولريش براند متخصص في العلوم السياسية وبروفيسور في السياسة الدولية منذ 2007 في جامعة فيينا، ويشتغل أساسا على موضوع العولمة الرأسمالية من خلال تتبعه لنمط العيش الإمبريالي وبالتالي نمط الإنتاج الإمبريالي الذي يعيش على المواد الخام والبترول واليد العاملة التي مصدرها بلدان الجنوب. أمّا الباحث ماركوس فيسن فهو متخصص في العلوم الاجتماعية البيئية وبروفيسور للعلوم الاجتماعية.
لقد كتب الصحفي الأمريكي روبيرت د. كابلان Kaplan في فبراير 1994 مقالا بعنوان "الفوضى القادمة" وتحدث فيها عن إفريقيا الغربية من حيث التطور الاقتصادي والاجتماعي فأعطى صورة قاتمة، وذيّل المقال بصور لشوارع متسخة وأطفال فقراء وشبه عراة. ومن وجهة نظر المؤلفين لهذا الكتاب فالرسالة واضحة من المقال: فبعدما فقد الشمال المعولم مع نهاية الحرب الباردة الاهتمام بالجنوب المعولم، غرق هذا الجنوب في فوضى تمثلت في عنف أدى إلى سقوط الدولة وتضخم في الساكنة وتدمير للبيئة. ولم يكن القصد حينها هو التحسيس بمعاناة الناس أو بالعلائق الموجودة بين الثروة في الشمال والصراعات في الجنوب، فقد كان كابلان مهتما أكثر بسرد نظام عالمي جديد يتم فيه إلغاء المنافسة الظاهرة بين الدول الوطنية عبر عدد من الصراعات الفوضوية والثقافية والصراعات الدينية.
لقد مرت عشرون سنة على ظهور مقالة كابلان عمل أثناءها سياسيون أوروبيون باقتراحات وتوصيات ملموسة لردع المهاجرين الذين يودون الوصول إلى الاتحاد الأوروبي هربا من الفقر والحاجة والرغبة في حياة أفضل، وبالتالي أصبحت قضية اللاجئين عالمية. ومرّة أخرى، في سنة 2016 عاد المؤلفان إلى دراسة كابلان Kaplan ليؤكدا أنّ الكثير من المهاجرين إلى الشمال يهربون من بلدانهم في الجنوب لأسباب إيكولوجية، فالحرارة المرتفعة والصراع حول المصادر النادرة في الفلاحة وأعمال الحقول سرقت منهم إمكانية عيش حياة خالية من العنف والحاجة.
ويعتقد المؤلفان أنّ السيناريو الكارثة كما صوره كابلان Kaplan هو في حكم المؤكد في المستقبل القريب، ففي سياسة التبرير الأوروبية تصبح البيئة مسألة أمن وطني، وحين يكون الأمر له علاقة بالجنوب المعولم الغارق في مثل هذه الفوضى إلى درجة غياب أي منظور للتطور الاقتصادي أو الاستقرار السياسي تحت علامة الدولة الوطنية، يتوجب على الشمال المعولم التركيز على الدفاع عن مكتسباته الحضارية. فلم تهرب الناس من أوطانها فقط بسبب ندرة الموارد الطبيعية والتغير المناخي بل أيضا بسبب الظلم الاجتماعي وندرة المياه ووسائل الإنتاج، مما شكل بالنسبة للكثيرين تهديدا وجوديا.
ويمكن فهم هذه العلائق بالاهتمام بالسياق العالمي. هكذا تصبح الأزمات البيئية والصراعات العنيفة وصراع المياه في الكثير من المناطق في تعقيدها التام نتيجة حتمية للجفاف في إطار التغير المناخي، فأضحت مفهومة باعتبارها نتيجة تدمير نمط الإنتاج عند صغار الفلاحين كما استغلته ومارسته كبرى شركات دول الشمال العالمي في تناغم تام مع مصالح النخبة المحلية والوطنية للجنوب العالمي. وقد ساهمت سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية والفلاحية التي بتصديرها المواد الفلاحية المدعومة بقوة إلى إفريقيا في تدمير الأسواق المحلية هناك وإمكانية تأمين الدخل مما عزز من أسباب الهجرة. ومرة أخرى يعتقد المؤلفان أنّ سياسة الاتحاد الأوروبي التي فقدت شرعيتها مبرّرة ومفهومة باعتبارها محاولة إنشاء ثروة على حساب الآخرين. إنّها نتيجة معقولة مبنية على استغلال الطبيعة والقوة العاملة عالميا وتصدير التكاليف الاجتماعية والاقتصادية على شكل ثاني أوكسيد الكربون ونظام مناخي مدمر وصادرات لمواد معدنية خام من الجنوب المعولم تعتبر الشرط الأساسي للرقمنة والتصنيع في الشمال العالمي، أو على شكل استغلال للقوة العاملة في الجنوب المعولم الذين يخاطرون بصحتهم أثناء استخلاص المعادن، وأثناء إعادة تدوير الخردة الإلكترونية أو أثناء الكدح في المزارع الملوثة بالمبيدات فتنتج "فواكه الجنوب" التي تستهلك في الشمال المعولم.
يقول المؤلفان إنّهما يصفان نمط العيش المبني على تلك الشروط وعلى نوع الإنتاج المذكور أعلاه بأنّه إمبريالي. بهذا يكون المراد من هذه الدراسة توضيح ما يسمح به الإنتاج الإمبريالي للناس في الجنوب المعولم، فموضوع هذا الكتاب هو العلاقات الدولية والمجتمعية الناتجة عنها، والتي تثبت السلطة على الإنسان والطبيعة. ويريد المؤلفان فهم واستيعاب الأزمات والصراعات الحالية باعتبارها مظهرا للتعارضات في نمط العيش الإمبريالي. وكون الأزمات الحالية قوية، فلأن نمط العيش الإمبريالي استمات في الدفاع عن وجوده بكل ما أوتي من قوة: وجوهر هذا الدفاع يشمل إمكانية الولوج الحر والآمن إلى الطبيعة والقوى العاملة.
وفي حال الدول الصاعدة اقتصاديا مثل الصين والهند والبرازيل التي طورت نفسها رأسماليا تظهر الفئات الغنية "تصورات شمالية وعمليات الحياة الجيدة في الشمال، فنمت بالتالي حاجة هذه الدول إلى المصادر وإلى تحول حاجتها إلى تصدير موادها إلى الخارج، وقد تزايدت هذه اقتصاديا ومناخيا في منافسة شديدة مع الشمال. والنتيجة هي صراعات مناخية إمبريالية على الطاقة والمناخ. ويمكن النظر إلى حركات الهجرة واللجوء انطلاقا من هذه الخلفية: اللاجئون يحتاجون إلى الأمان، وإلى الحياة الجيدة التي يمكن تحقيقها في إطار شروط نمط العيش الإمبريالي في المراكز الرأسمالية. ويعتمد نمط العيش الإمبريالي على هذه الخصوصية، مما يفسر كون نمط العيش الإمبريالي قمعيا وعنيفا-على شكل صراعات على الموارد الخام أو العزل ضد اللاجئين- رغم ذلك يصبح نمط العيش الإمبريالي ضحية جاذبيتها الخاصة وتعميمها عبر العزل والإقصاء وميولات سلطوية وعنصرية وقومية (وطنية).
إنّ هذه الدراسة مناسبة لنقاشات المناخ والثورة الخضراء، فالأزمات المناخية ومعايير الاستهلاك والإنتاج للشمال المعولم كما تبلور مع الرأسمالية التي تم تعميمها في النهاية، أدت فعلا إلى مزيد من العنف، وتدمير للبيئة وللمعاناة الإنسانية، من أجل تأمين فعل النمو الرأسمالي وبشكل أقل إعادة إنتاج الأساسيات الطبيعية للمجتمع. انطلاقا من هذا يسائل المؤلفان في هذا الكتاب البدائل المختلفة مقابل التطور السائد والقدرة على التعميم.
وإذا نظرنا إلى بنية الكتاب وجدناه يضم ثمانية فصول ولائحة مصادر ومراجع مهمة جدا بلغت عشرين صفحة من مجمل صفحات الكتاب. واعتمد المؤلفان في محتواه على البحث التاريخي والتحليل للوضع الراهن. واعتمد المؤلفان على مجموعة من النقاشات عن الأزمة المزدوجة وأغنيا بحثهما بالإطلاع على مجموعة من الدراسات الحديثة مثل دراسة شتيفان ليسينيش في خريف 2016 الموسومة بـ"تهميش المجتمع" من أجل تقديم نقد للرأسمالية. كما عمل المؤلفان على تحليل ودراسة المشاكل التي تم تكثيفها في الأزمة المتعددة في علاقة بين هذه والولايات المتحدة أو في مؤسسات سياسة البيئة. واشتغل المؤلفان على ضبط المفاهيم المتعلقة بجوهر هذا المشكل، فقدما من خلاله "نمط العيش الإمبريالي" باعتباره نمطا يتوسط سلوك الإنسان اليومي وما يرتبط به من بنيات اجتماعية يريد المؤلفان كشف آلياتها اعتمادا على تقاليد مختلفة للفكر النقدي كما جاء عند ماركس، وجرامشي، وبورديو، وفوكو. وعمل المؤلفان على توضيح أنّ السلم الاجتماعي في الشمال المعولم باعتباره بعدا مركزيا لنمط العيش الإمبريالي يؤثر في مسؤولية معايير الاستهلاك والإنتاج الاجتماعي والبيئي المدمَّر وفي المصالح التي تأتي منها والمنقولة عبر العلاقات الاجتماعية.
إنّ الطابع المزدوج لنمط العيش الإمبريالي كضرورة بنيوية وإمكانيات توسيع التجارة أصبحت واضحة في ظل الفوردية التي طبعت المراكز الرأسمالية لسنوات بين 1550 حتى 1970 ومنحت الناس تأثيرا واسعا ونموا غير معروف للازدهار المادي الذي في نفس الوقت يعتمد على إعادة إنتاج الظلم الاجتماعي.
خطّ المؤلفان رسما عاما للثورة ضد توسع نمط العيش الإمبريالي من أجل التعويض من العائدات استثمارية وتجارية، وتحقيق وتأمين مجالات حرة متطورة وجديدة من خلال توسيعها على المجالات المجتمعية. وربط المؤلفان في هذا التشخيص المعاصر بعنوان "نمط العيش الإمبريالي: عن استغلال الإنسان والطبيعة في عهد الرأسمالية العالمية" بين الازدهار من جهة واستهلاك الموارد للشمال المعولم من جهة. ويشكل مفهوم "نمط العيش الإمبراطوري" مفهوما مركزيا وكلمة مفتاح من أجل الاشتغال على هذه العلاقة.
إنّ جوهر هذا المفهوم هو "أنّ الحياة اليومية تصبح ممكنة أساسًا في المراكز الرأسمالية بواسطة خلق علاقات اجتماعيّة وعلاقات مع الطبيعة". بكلمات أخرى: الشمال المعولم مرتبط بمبدأ الولوج اللامحدود إلى القدرة على العمل والموارد الطبيعية والمائية للجنوب المعولم. هذه العلاقة المهمة تعيد إنتاج نفسها بنيويا على قاعدة اللامساواة والسلطة والحكم ويتم إنجازها في الغالب عن طريق العنف.
لقد طوّر المؤلفان مصطلح "نمط العيش الإمبريالي" على ضوء تقليد "الإمبريالية" من خلال النظرية أو النقاشات الجارية حول "الأزمة المزدوجة" الراهنة وما يتطلبه في هذا الإطار "التحول الاجتماعي البيئي"، وما يواجهانه اليوم بالمقترحات الحالية الداعية إلى "الاقتصاد الأخضر" أو " الرأسمالية الخضراء". المؤلفان يؤمنان نظريا وتجريبيا بالأطروحة القائلة بأن التحول البيئي الاجتماعي أو "الرأسمالية الخضراء" لن تقود إلى الهدف حين يتم تحديث التصنيع أو تحديث قاعدتها الطاقية ولا تحاول مثلا تغيير الاقتصاد السياسي لنمط العيش الإمبريالي. ويضرب المؤلفان المثل بسوق السيارات الذي تهيمن عليه اليوم ما يسمى بسيارات الدفع الرباعي التي تحتاج إلى مزيد من الموارد في صناعتها مقارنة مع باقي السيارات الأخرى بسبب حجمها ووزنها، وتشغل المزيد من الفضاء العام، وتبعث نسبيا على المزيد من الملوثات. هذه السيّارات يشتريها الأغنياء، وبالتالي غالبا ما يكون الوعي البيئي أعلى، كما أنّ السيارات أقوى وتحمي سائقيها وركابها من الحوادث، وهي الأفضل لمواجهة عواقب تغير المناخ في الطرق الوعرة والانزلاقات. رغم ذلك ساهمت سيارات الدفع الرباعي في تناقض نمط الحياة الإمبريالية: لا يمكن تشغيلها دون استخراج الموارد، إذن أصل المشكل والحل هو إمكانية تعميم التجارب الفردية لمعالجة الأزمة الإيكولوجية والاقتصادية مع سيارات الدفع الرباعي أي تحديث السيارات التي يعتمد إنتاجها على الموارد الآتية من دول الجنوب المعولم.
وختاما يتحدث المؤلفان عن نهج أسلوب متين للحياة يحل محل المجتمع النيوليبرالي الذي يعاني من أزمات متعددة. يتعلق الأمر بمقاومة الحركات التي تنشر طرقا استبدادية أو سوقية أو راديكالية أو عنصرية أو قومية. إضافة إلى ذلك ينبغي وضع قواعد سياسة أخرى، مثل القواعد الواردة في الأفكار المتعلقة بالديمقراطية الاقتصادية. ويجب أن يكون الاستدلال الاجتماعي على المجتمع محل استجواب نقدي وأن تحل محله نماذج تجبر الرأسمالية على الخفض الملموس للظلم. وتوجد حركات اجتماعية وسياسية في هذا الاتجاه وينبغي تعزيزها بالانتقال إلى نمط عيش متين يكمن في "تجنب معايير الاستهلاك الرأسمالي، وعدم اتباع القواعد الصريحة والضمنية، وعدم قبول بعض الممارسات. لأن نمط الحياة الإمبريالي في الشمال المعولم قد أدرجت نفسها في الحياة اليومية ولهذا يتوجب علينا تجاوزه بمراعاة هذه الإبعاد.
لقد كان هذا فهما من الكتابات المساهمة في "نقاشات علمية اجتماعية سياسية". حقق المؤلفان هدفهما في الكتاب المنظم الواضح، والأمر الآن بيد الحركات الديمقراطية والعلم، والمساهمة العلمية المدعومة من الناحية النظرية والتجريبية ذات الأبعاد العالمية.
في ختام هذه القراءة لفت انتباهي عنوان الفصل السابع من الكتاب بعنوان "بدائل خاطئة. من الاقتصاد الأخضر إلى الرأسمالية الخضراء؟"، هو فصل مهم جدا ضمن فصول هذا الكتاب. حين نتصفح سيرة الباحث أولريش براند نرى بأنّ هذا الباحث طوّر هذا الفصل وأصدر هذه السنة (2018) كتابا مهما موسوماً بـ "البدائل الراديكالية: لماذا لا يمكن التغلب على الرأسمالية إلا بتوحيد القوى؟" Radikale Alternativen Warum man den Kapitalismus nur mit vereinten Kräften überwinden kann، وربما تلقي قراءتي القادمة في هذا الكتاب الجديد المزيد من الضوء على وجهة نظر الباحث الألماني فيما يخص موضوع العلاقة بين دول الشمال والجنوب وما يسميه الباحث نهاية الرأسمالية الإمبريالية.
----------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: نمط العيش الإمبريالي: عن استغلال الإنسان والطبيعة في عهد الرأسمالية العالمية.
النشر: 2017، عن دار oekom verlag بميونيخ ألمانيا. (عدد الصفحات: 224)
اللغة: الألمانية

