حدود السوق: التأرجح ما بين الحكومة والسوق

41RAVrCl+NL.jpg

تأليف: بول دي غراو

عرض: وليد العبري

في هذا الكتاب الصغير، يقول بول دي غراو -وهو عالم اقتصادي بلجيكي مُحاضِر في كلية لندن للاقتصاد- لماذا لا نسعى لتكوين اقتصاد سوق نقي بدلا من اقتصاد محكم تماما؛ فالتوازن بين السوق والحكومة صعب للغاية، والممارسة كذلك، ونحن نسير بعيدا جدا في اتجاه واحد، ثم نغير المسار في آخر المطاف. إن النقاش القديم حول "السوق أو الدولة" عفا عليه الزمن؛ لتصبح هناك مسألة مهمة تمتزج مفرداتها بالسوق والدولة والقانون، وإلى أي مدى يجب علينا أن ندع السوق يذهب بطريقته الخاصة من أجل خلق أكبر قدر ممكن من الرفاهية لجميع أطياف المجتمع؟ ما هي مسؤولية الحكومة في خلق الرفاهية؟ هذا ما حاول بول دي غراو تحليله في كتابه الشهير "حدود السوق". هناك فترات في التاريخ التي حققت مكاسب السوق، وجعلتها مهمة وكانت الحكومة هي المهيمنة على الأسواق؛ لذلك أوضح بول دي غراو نقاط التحول البديلة التي تتزامن مع الأحداث، التي تختبر حدود السوق والدولة. السوق اليوم شغل حيزا كبيرا جدا من منطلق العولمة؛ لذلك لابد من تعزيزه، ويبقى السؤال هنا: هل نعود للاقتصاد الرأسمالي؟ هل نعود إلى الاقتصاد الذي تدير فيه الحكومة المعرض؟

وبناءً على المبدأ الأساسي بأن السياسة تتطلب موازنة ضرورية بين السوق والدولة، وهذا ما نجده عند المؤلف بول دي غراو أنه قدم تاريخا من الحلول التي تتأرجح بين هذين المجالين، مع الإصلاحات التي يمكن أن تساعد على ضمان الديناميكية للسوق ليصبح أكثر قابلية للتطبيق بين السوق والدولة.

ما لفت انتباهي في هذا الكتاب الرائع أنه يعرض موجزا وفكرة واضحة في شرح النظريات والتداعيات على كيفية تخصيص الموارد في ظل نظام السوق "التفكير الرأسمالي" والنظام الحكومي "الشيوعية"، إضافة إلى ذلك نجد أن المؤلف يدعو لوضع بعض من الحدود للسوق الحرة: مثل العوامل الخارجية لا يتم تسعيرها في القرارات الاقتصادية، وأوضح أن الحكومة المركزية ستقوم بإنقاذ "الرأسمالية" من حد ذاتها، ويؤكد استحالة ذلك من خلال شرح مشكلة المعلومات للمخططين المركزيين الذين ليس لديهم فهم مفصل للكلمة، وهذا أمر لا جدال فيه! بالطبع لابد من معرفة جميع القوانين التي تتناسب مع السوق، والضوابط التي تناسب السوق والدولة، مما يلزم الحكومة وضع رقابة مكثفة لهذه الأسواق، ومعرفة الأسواق الحرة من الأسواق التقليدية، وكيف يتم تطبيق مبدأ الاستقلالية.

الأمر الذي أقلقني هو أن بول دي غراو اقترح أن تكون الأسواق والدولة متساوية، ويؤكد أن هناك حاجة إلى الحكومات لإنقاذ الأسواق الحرة من إخفاقاتها الخاصة، والأسوأ من ذلك، يشير المؤلف إلى أن اقتصادنا اليوم هو عبارة عن نظام سوق حر، وقد أدلى بمثال على ذلك، وهو يخطئ في شرح كيفية فشل تجارة الكربون في أوروبا، وبما أن الأسعار المسموح بها كانت منخفضة جدا (أي مشكلة المعلومات)، فشلت عملية توزيع التراخيص! هذا ليس فشل الرأسمالية أو الأسواق الحرة، وإنما شهادة على أن أنه من المؤكد أن مشكلة المعلومات ستعيق إلى الأبد الحكومات والأشخاص الذين يسعون للتأثير على الأسواق.

وأضاف المؤلف على ذلك أنه يوافق على أننا بحاجة إلى حاجة جديدة، إضافية، كضريبة الثروة التقدمية، ويبدو أن زيادة الإنفاق الحكومي هو الجواب على ذلك، ويوضح المؤلفون كيف كانت فترات الركود التي اندلعت في عامي 1929 و2008م متشابهة في حالة تراكم رأس المال وعائد الاستثمار؛ وأن المزيد من الضرائب من شأنها أن تخفف من رغبة الأسواق الحرة في تركيز رأس المال.

يُؤكد  بول دي غراو أنَّ اقتصاد السوق سيستهلك نفسه ما لم تفرض الدولة، أي السلطة العامة، حدودا على الأسواق مرة أخرى. كما يحذر من أن الاعتقاد الساذج بقدرة الدولة على إدارة الاقتصاد، الذي ينطوي على خطر تجاوز العلامة، مع الارتداد الذي يعيد السياسة إلى الأسواق الجامحة، كما كان الحال في أوائل الثمانينيات. وهكذا، ينشأ توتر واضح في هذه الديناميكية، وتتأرجح من خلال قوة السوق وقدرة الدولة على وضع حدود وأسس لاحتواه.

دي غراو يميز بين نهجين للتنمية الاقتصادية على المدى الطويل، وهما التغييرالخطي والتغيير الدوري. ويتجسد التغيير الخطي في نظريات كارل ماركس، وفلاديمير لينين، وكارل بولاني وجوزيف شومبيتر ويقوم هؤلاء الاقتصاديون بتحليل مسار التنمية الرأسمالية، والانتقال إلى نماذج اجتماعية جديدة، وعلى النقيض من ذلك، يقدم دي غراو تفسيرا دوريا تتحول فيه الأيديولوجية الاقتصادية المهيمنة بشكل دوري، ويجادل بأن هناك نقطة تحول حرجة تظهر عندما تصبح هيمنة السوق أو الدولة ساحقة؛ بحيث أنه يلغي التأثير التعويضي الآخر، ويؤدي إلى هيمنة غير صحية على الاقتصاد.

ويُلاحظ دي غراو أن التقلبات الواسعة بين هيمنة الدولة والسوق قد حدثت على مدى القرنين الماضيين، ويسأل عما إذا كان هذا التذبذب سيستمر، وإذا ما حدث ذلك، فإن توسع السوق على مدى العقود الثلاثة الماضية ينبغي أن يؤدي لإعادة تأكيد الدولة للدور المهيمن في تحديد اتجاه التنمية الاقتصادية.

وتتعلَّق حدود نظام السوق بحقيقة أنه يمكن قطع الصلة بين العقلانية الفردية والجماعية، كما كتب دي غراو، ويحدد نوعين من الحالات التي لا يعتقد فيها عدد كبير من الناس أن مصالحهم تلبى بشكل مرض من قبل الأسواق. أما النوع الأول، فيسمى "الحدود الخارجية"، والآخرون عادة ما يطلقون عليه "العوامل الخارجية"، ويتضمن القرارات الفردية التي لها تأثير إيجابي أو سلبي على الآخرين. أما الفئة الثانية وهي "الحدود الداخلية"، فتتضمن الصراع بين عملية اتخاذ القرار من جانب الأفراد "النظام الأول"، وتعتمد على الحدس والعاطفة، واتخاذ القرار في النظام الثاني، وتعتمد على السبب، وهذان النظامان متصلان، ويتطلبان توازنا مرضيا بين المطالب العاطفية والعقلانية؛ لكي يعمل نظام السوق بفعالية، غير أن هذا التوازن بين العقلانية الفردية والجماعية لا يحافظ عليه في كثير من الأحيان.

وهناك آلية أولى بالأسواق والتوزيع؛ حيث يؤدي نظام الأسعار إلى عدم المساواة في الدخل والثروة، والشعور بالظلم، والرغبة في الصدقة الفردية من جانب القادرين على شراء سلعة جيدة، والمشاركة مع أولئك الغير قادرين على دفع ثمن المنتج، فضلا عن ثورة واحتجاجات عنيفة محتملة من قبل هؤلاء الأفراد في الفئات الأقل دخلا.

أما الآلية الثانية، فتتعلق بالدافع الداخلي والخارجي، الدافع الداخلي "الذاتي" يعني أن الناس يحفزون على بذل جهودهم في عملهم أو أنشطة أخرى؛ لأنهم يستوفون من العمل أو النشاط نفسه، أما الدافع الخارجي، فيعني أن الناس يبذلون جهدا من أجل المكافأة المالية لنشاط معين، وأن التوفيق بين هذين الدافعين المتعارضين تماما يمثل تحديا بطبيعته؛ حيث يجد المسؤولون أن من الأسهل التركيز على الدوافع الخارجية التي تنطوي على مكافآت مالية، والتي يمكن القضاء عليها بسهولة عندما يواجه هؤلاء المسؤولون الإكراه المالي للشركة.

وتتعلق الآلية الثالثة بالمنافسة والتعاون في بيئة السوق، وعلى الرغم من أن كليهما يمكن أن يشجع سلوك السوق الجيد، فإن المنافسة والتعاون يمكن أن تتعارض مع بعضها البعض على الصعيدين العاطفي والعقلاني، مما يؤدي لتوتر داخلي بين النطاق الفردي والجماعي.

... إنَّ المشاكل المتعلقة بالبيئة والسلع العامة ترتكز على عدم وجود حقوق الملكية، والحلول تكمن في خلق تلك الحقوق بطريقة أو بأخرى، يسأل دي غراو كيف يمكن تحقيق هذه الحقوق. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن للحكومة أن تنشئ حقوق الملكية عندما يتأثر الناس في جميع أنحاء العالم تأثرا سلبيا بتلوث الهواء؟ كيف يمكن تحديد المليارات من الأشخاص المتضررين الذين يسعون للحصول على تعويض قانوني من مليارات الأشخاص الآخرين المسؤولين عن إصاباتهم؟ وفي أي محكمة يدعي دي غراو هذه "مشكلة معلومات معقدة"؟ ولكن، كما يلاحظ، حتى لو تمكن أحدهم من حل مشكلة المعلومات هذه، أي أنه من خلال السيناريو الغير محتمل للغاية للتفاوض على اتفاقيات طوعية مع مليارات الأشخاص، سيتعين على السلطة التشريعية أن تعين حقوق الملكية في القانون، أو أن تتفاوض بشأن تلك الحقوق الطوعية، وسوف يتعين على المحاكم والشرطة إنفاذ تلك الحقوق، وبالتالي لا محالة للمؤسسات الحكومية حينها.

ويقارن دي غراو الكساد الكبير في الثلاثينيات، والركود الكبير في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وشهدت الفترتان أن حصل تقييد كبير من قبل الدولة للسوق، وتعزز دور القطاع العام في إدارة الاقتصاد. غير أن النمو والعمالة في الاقتصاد العالمي قد تعافيا بشكل أسرع بعد الأزمة المالية لعام 2008م، ويقدر دي غراو مساهمة الاقتصاد في هذا الإنجاز الرائع، وكان تشخيص أسباب الأزمة المالية صحيحا إلى حد كبير، وساعدت سياسات التحفيز النقدي والمالي الناجمة عن ذلك بالتعاون الدولي على منع حدوث دورة انكماشية قادمة، واستعادة الطلب الكلي بأن ملاحظاته تذكير سليم بأهمية الاقتصاد، وعلى الرغم من الانتقادات المألوفة في السنوات الأخيرة لعدم قدرة الاقتصاديين على التنبؤ بالأزمة المالية، ما زلنا بحاجة إلى العلم الكئيب، ويقدم دي غراو عدة أمثلة لقيود اقتصاد السوق وقد يؤدي عدم المساواة في الدخل إلى تفويض شرعية اقتصاد السوق، وقد يؤدي سلوك الوعي في الأسواق المالية إلى عدم الاستقرار، ويعود تغير المناخ إلى إهمال العوامل الاقتصادية الخارجية.

ويخصص الاقتصادي دي غراو فصلا كاملا لأزمة الديون في منطقة اليورو، وهو نسخة محدثة من دي غراو 2011م "التشخيص الثاقب من أحلك الحظات في أزمة اليورو"، وهي المادة التي ينبغي بالفعل أن تعتبر الكلاسيكية الحديثة في الاقتصاد، ومعالجة الزيادات غير الطبيعية في أسعار الفائدة السيادية لبعض بلدان اليورو، فإنه يملأ المشكلة إلى قيود البنك المركزي الأوروبي، بسبب ولايته المتصورة.

وكدليل على هذه الخطيئة الأصلية للاتحاد النقدي الأوروبي، يقول دي غراو إن البنك المركزي الأوروبي يحتاج العمل كمقرض بحيث يكون الملاذ الأخير للأسواق، حتى لو لم يكن صريحا أبدا في معاهدة ماستريخت، وبعبارة أخرى، يجب على البنك المركزي أن يفعل ما يجب على البنك المركزي القيام به: يجب أن يكون الداعم والسند الرئيسي لجميع أنواع الأسواق، من أجل الاستقرار المالي الذي هو ضروري للنمو المستدام، وخلق فرص العمل، وقد استجابت مقالة دي غراو إلى آراء العديد من صناع السياسات الاقتصادية، وقدمت بطريقة لا لبس فيها من الناحية التحليلية، وتم استدعاء رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي في مؤتمر الاستثمار في لندن في يوليو 2012 وقال: "البنك المركزي الأوروبي مستعد للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على اليورو. وأعتقد أن ذلك سيكون كافيا" وبهذا الخطاب وقرارات أومت اللاحقة في أغسطس وسبتمبر 2012، أزال البنك المركزي الأوروبي خطر التسمية بانفصال منطقة اليورو كعامل في تصورات السوق، وبدأت أسعار الفائدة في الانخفاض.

ومن المؤكد أنه يشدد على أهمية الإنتاجية العالية كمصدر أساسي للقدرة التنافسية للاقتصاد الحقيقي والازدهار، ولكن هذا أمر بديهي عندما تكون السياسة الاقتصادية حكيمة بخلاف ذلك، ولا يواجه الاقتصاد أي صدمات غير متناظرة، حيث يفتقد دي غراو إلى حد ما في تقديره لأهمية القدرة التنافسية للتكلفة، وكما يتضح من الركود الهيكلي الذي شهدته فنلندا في الفترة 2011-2015م، فإن البُلدان المرتفعة في الإنتاجية، يمكن أن تعاني من فقدان القدرة على المنافسة من حيث التكلفة.

... إنَّ معاملة دي غراو للأسواق والسياسة العامة باعتبارها تأرجح بندول (أو تقلبات) يشعر بأنها أكثر واقعية في ضوء التجربة التجريبية للقرن السابق، من معظم النماذج التفسيرية القائمة على التفسير الخطي، وهو يصف مزيدا من التنسيق الدولي في مجال السياسة العامة لمعالجة المشاكل الاقتصادية، وهو رأي يؤسف له أنه لا يحظى بقبول واسع في الوقت الراهن مهما كان الحال.

وخلاصة الأمر أنني ما زلت أوصي بهذا الكتاب لجوانب عديدة يمكن الاستفادة منها من جهة الاقتصاد وتنوع ودعم الأسواق؛ لذلك أختتم بأن المؤلف دي غروا ليس مقتصرا على السوق الحرة على الإطلاق، بل هو مؤيد للحكومة. والسوق الذي وصفه ليس السوق الحر الذي يتم تنظيمه بشكل كبير، ثم إعادة تنظيمه ثم ينظم مرة أخرى، وقد أدت هذه الأنظمة المتزايدة إلى إضعاف العديد من الاستثمارات التي كان من شأنها أن تدفع النمو وتوقف أرباح التوزيع، في ظل معدلات ضريبية عاجلة. وقد أدت السياسة النقدية الحالية إلى عدم المساواة بشكل مباشر، هذه السياسات لم تنقذ الرأسمالية، كما يدعي صاحب البلاغ، ولكن من الممكن أن يتم نهبها.

وهناك العديد من الأسئلة التي تتبادر في الذهن؛ منها: هل سيعزز السوق بالدعم اللازم، الذي يمنح اليوم دورا أكبر وأوسع نتيجة للعولمة؟ أو هل تظهر الأزمة المالية من جديد بحكم تزايد التفاوت الكبير في الدخل؟ وهل علينا أن نستعد لرفض النظام الرأسمالي؟ هل نعود للاقتصاد الذي تدير فيه الحكومة المعرض؟ لابد من وضع الحجر الأساس والجواب الرئيسي لهذه الأسئلة حتى نتمكن من تفادي المشاكل الاقتصادية لاحقا.

------------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "حدود السوق.. التأرجح ما بين الحكومة والسوق".

- المؤلف: بول دي غراو.

الناشر: oxford university press، 2017م.

عدد الصفحات: 192 صفحة.

أخبار ذات صلة