تأليف: Edited by Michael J. Sandel، And Paul j. D’Ambrosio.
عرض: محمد الشيخ
دأبتْ العادة على ألا تتم محاورة فلاسفة الغرب المعاصرين إلا من داخل التقليد الذي ينتمون إليه (التقليد الفلسفي الغربي: أكان تقليدا قاريا أم تقليدا أنجلوسكسونيا)، على الأغلب، وليس من خارج التقليد الفلسفي الغربي برمته، على الأرجح. لكن الأمر اختلف مع الفيلسوف السياسي والأخلاقي الأمريكي الذائع الصيت ميخائيل صاندل (1953)، فبعد أن تعودنا على أن يكون محاوروه المفضلون من القدماء أرسطو ومن المحدثين كانط ومن المعاصرين رولز، ها نحن في هذا الكتاب الفريد نجد الحوار يعقد بينه وبين ثلة من مفكري الصين القدماء -كونفشيوس، مانسيوس، زيغونغ، زوانغزي، هانز فايغ زي- والمعاصرين -شينيانغ لي، تونغدونغ باي، يونغ هوانغ، زهو هويلنغ، شين لاي- وقد دار الحوار على خمس مسائل أساسية: العدالة، والجماعة، والفضيلة المدنية، والتعددية، والشخص؛ وذلك وفق ثلاثة تقاليد فلسفية غربية: الليبرالية والجماعاتية والنزعة الجمهورية المدنية، وتقليدين فلسفيين صينيين: الكونفشيوسية والطاوية.
هذا.. ويعد الفيلسوف صاندل -الذي شغل فلاسفة زماننا- من أكبر فلاسفة أمريكا اليوم. وقد كان من حسنات هذا الكتاب العدة أنه لم يتم تصنيف صاندل تصنيفا مسبقا ضمن تيار "الجماعاتيين" الذي لطالما رفض الرجل أن يصنف ضمنه -على نحو ما كان الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر قد رفض أن يصنف ضمن "الوجودية" معلنا تفضيله أن يصنف ضمن "فكر الوجود"- مفضلا أن يحسب على إحيائيي "أخلاقيات الفضيلة المدنية" بمعناها الأرسطي؛ أي ضمن النزعة الجمهورية المدنية. كما كان من حسنات الكتاب أيضا أنه يغير نظرتنا إلى المقابلة بين الفلسفة الغربية والفلسفة الصينية على أن الأولى فلسفة "فردانية" تركز على مبادئ "حرية الفرد" و"استقلال الشخص" و"حرية الاختيار"، بينما الثانية فلسفة "جماعاتية" تشدد على مبادئ "الأسرة" و"تناغم المجتمع" و"طاعة الآباء والأجداد". إذ يكشف الكتاب عن أن الأمر أعقد بكثير من بسيط المقارنة هذا. وهكذا، يقرر صاندل بأن من شأن المقابلة بين التقليدين، هكذا على وجه الجملة، أن يخفي الكثير من التعقيدات (ص:248).
وقد أمستْ نظرية الفيلسوف الأمريكي ميخائيل صاندل السياسية مشهورة بالصين بدءا من تسعينيات القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وركز الدارسون الصينيون الذين درسوا الفلسفة السياسية المعاصرة تركيزا واسعا على نقود صاندل على "نظرية العدالة" التي قال بها الفيلسوف الأمريكي الشهير جون رولز، وبالخصوص على تصور صاندل لبناء الذات البشرية، وتقديمه قيمة "الخير" على قيمة "العدل"، ونقده لفكرة "حياد الدولة قيميا". كما درسوا السجال الحادث بين النزعة الليبرالية والنزعة القومانية (الجماعاتية)، وواكبوا نشره لأعماله المتأخرة؛ مثل: "الاستياء من الديمقراطية" (1998)، و"الفلسفة العمومية" (2005)، و"ما الشيء الحق الذي يمكن أن نفعله؟" (2010)، و"ما الذي لا يمكن للمال أن يشتريه: حدود السوق الأخلاقية" (2012).
وكان الرجل اكتسب شهرة واسعة بالصين؛ سواء في المجال الأكاديمي أو في المجال العمومي. وقد بدأ الصينيون يطرحون الأسئلة الجريئة حول ما الذي تعنيه "العدالة" بالذات، وما نوع "العدالة" الذي ينبغي الحديث عنه والسعي إليه، وكيف يلزم التفكير في الإحراجات الأخلاقية التي يواجهونها في حياتهم اليومية، وما ضرر الاستدلال بمنطق السوق، وما العيوب المتضمنة في ذلك. وبالجملة، وكما يقول أحد الدارسين الصينيين المهتمين بالفلسفة الكونفشيوسية وبفلسفة صاندل معا: "لقد ألهمت فلسفة صاندل السياسية الدارسين والجمهور العريض التفكير في الأسئلة الأخلاقية المطروحة يوميا بعون من النظرية السياسية" (ص:69).
ولقد حدث أن صادف ذلك هوى صينيا كان من أثر التطور السريع لاقتصاد السوق المزدهر، والحاجة إلى نظرية سياسية وإلى خطاب أخلاقي للتعامل مع العديد من المشاكل التي رافقت اقتصاد السوق. وكان أن أبدت فلسفة صاندل القدرة على الاستجابة إلى هذه الحاجيات، وإلى تأهيل الجمهور لطرح المشاكل ومناقشتها مناقشة أعمق وأشد فعالية. وتدور قضايا هذا الكتاب الذي يعرض تفاعل التقليد الفلسفي الغربي مع التقليدين الفلسفيين الصينيين -الكونفشيوسية والطاوية- على خمسة محاور:
- المحور الأول: العدالة والانسجام والجماعة.
- المحور الثاني: الفضيلة المدنية والتربية الخلقية.
- المحور الثالث: التعددية والكمال: صاندل والتقليد الطاوي.
- المحور الرابع: تصورات الشخص: صاندل والتقليد الكونفشيوسي.
- المحور الخامس: رد مايكل صاندل: التعلم من الفلسفة الصينية.
هذا.. فضلا عن تقديم كتبه الكاتب الصحفي الأمريكي المختص في الشؤون الصينية إيفانز أوسنوس دار على لقاء الصين بميخائل صاندل ومفاجآته، وتعاريف بالمساهمين في الكتاب، وكلمة شكر، وكشاف بأهم بالاصطلاحات والأعلام الواردة في الكتاب.
وفي كلمته التقديمية -"لقاء الصين بميخائيل صاندل"- يعود بنا أوسنوس إلى ليلة من ليالي شهر دجنبر من عام 2012، جرت بحرم جامعة كسيامن بالصين؛ حيث ازدحم الطلاب والباحثون ازدحاما شديدا لملاقاة صاندل وكأنه نجم من نجوم هوليود أو لاعب كرة سلة أمريكي، كما قالت "يومية الصين".
وفي كلمته الختامية -"التعلم من الفلسفة الصينية"- يحكي ميخائيل صاندل عن سفره الأول إلى بلاد الصين عام 2007، وقد حمل معه ثلاثة نصوص -نص فلسفي غربي قصير (جون ستوارت مل)، ونصان حكميان شرقيان (كونفشيوش ومانسيوس)- تحمل في طياتها إحراجات أخلاقية أراد أن يعرضها على طلاب الصين، وأن يقف على حلهم لما أشكل فيها. وقد ميز بين مقاربتين ممكنتين لهذه النصوص القصيرة: مقاربة تقف على الفوارق بين الفلسفتين الغربية والصينية على أساس أن نص "مل" يحتفي بالحرية وبالفردية احتفاء مجردا، ونصي الحكيمين الصينيين يحتفيان بالأسرة وبالجماعة احتفاء مشخصا. لكن صاندل يعلن أنه يفضل على هذه المقاربة مقاربة أخرى لأنه ما كان يروم من عرض النصوص المقارنة الإجمالية بين التقليدين، وإنما الإصغاء إلى كيف سيكون رد فعل الطلاب على النصوص المعروضة: هل سينجذبون إلى ليبرالية "مل" أم سينتقدونها؟ وهل سيوافقون على أخلاقيات الأسرة أم لا؟والحال أن آراء الطلاب كانت متباينة، وكان المهم أن تنقدح شرارة المناقشة لا بين التقليدين وإنما من ثناياهما.
في مسألة العدالة
وفي قلب النقاش، طرحت مسألة: ما الذي ينبغي أن نفكر فيه في أمر "العدالة"؟ هل على "المجتمع العادل" أن يسعى لأن يكون "محايدا" اتجاه تصورات "الفضيلة" و"الحياة الطيبة"؟ أم عليه أن يزكي تصورا معينا للخير، وأن يسعى لتطوير ونشر بعض الفضائل بين المواطنين؟ وقد تبع هذا السؤال سؤال آخر: هل ينبغي أن نفكر في أمر "العدالة" دون العودة لارتباطاتنا وعوالقنا بالأسرة وبالأصدقاء وبالجيران وبمواطنينا؟ أم على تصورنا للعدالة أن يعبر عن مثل هذه الوفاءات والولاءات؟
الحال أن الذين يتبنون الطرح الثاني عادة ما يوسمون باسم "الجماعاتيين" الناقدين لأهل الطرح الأول المدعوين باسم "الليبراليين". وحجة الأوائل أن لا إمكان لتحديد ما العدل من غير ربطه، صراحة أو ضمنا، بتصورات جوهرية لمعنى "الحياة الطيبة"، ومن شأن طرح قواعد للعدل تكون محايدة -أي بمعزل عن هذا الربط- أن يشعر بالإحباط أولئك الذين يعدون أن قناعاتهم الأخلاقية لم تؤخذ بعين الحسبان أو أقصيت. وجواب الليبراليين أن من شأن الناس في المجتمعات التعددية أن يختلفوا في تصور معنى "الفضيلة" و"الحياة الطيبة"، كل فرح بما لديه، ومن شأن فرض تصور من التصورات أن يكون قسرا وأن يناقض مبدأ "التسامح" حيث تفرض قيم الأكثرية على الأقلية.
وعند صاندل أن أصل المشكلة يكمن في التصور الليبرالي لذات الإنسان وكأنها بلا عوالق مجتثة بلا جذور وقد تحددت أساسا في استقلال عن أي دور في المجتمع وعن أي صلات بالأغيار؛ مما يؤدي لتصور شديد الفقر للجماعة وللقوم. وقد اعترض العديد من الليبراليين بأن تصور "الذات" في تعالقها بالروابط الأخلاقية يتعارض مع استقلالها وحريتها. وقد ذكر صاندل في رده على ذلك أنه اعتاد على هذا الاعتراض على تصوره للجماعة بوصفه تصورا شديد التطلب. لكنه استغرب لملاقاة تحد عكسي من لدن الكونفشيوسيين (شيانج لي) يعيب عليه، بالضد من الليبراليين، رقة تصوره، ويعتبر الجماعة هي القيمة الأولى، وأن لا فرد من غير روابط الجماعة، وأن "التناغم" هو الفضيلة المطلوبة في الجماعة؛ ومن ثمة ما كانت القيمة الأولى للمؤسسات الاجتماعية هي "العدل"، وإنما هي "التناغم"؛ وبالتالي، فإن صاندل لا يعير لهذا المفهوم الكونفشيوسي أهمية تذكر. ويعترف الرجل بأنه لم يخطر بباله أن يجعل من "التناغم" قيمة أولية للحياة إلى حين لقائه بالتقليد الصيني، لكنه مع ذلك لا يزال مؤمنا بتصور تعددي للخير؛ حيث يُمكن للمواطنين أن يتحاجوا بانفتاح حول المسائل الأخلاقية والروحية. وهو يذكر أنه كان دائما في ريبة من تصور روسو للإرادة العامة حيث يرى روسو أنه حين تسود الإرادة العامة يحدث الصمت في الجمعية العمومية.
وردًّا على تونغ دونغ باي الذي رأى أن وجه الخلاف بين النزعة الجمهورية المدنية والكونفشيوسية يكمن في أن هذه تزكي نظاما استحقاقيا يبيح حكم أقلية الفضلاء الأغلبية، بينما الأولى تشدد على تربية عامة الناس على الفضائل المدنية (التآزر/ المسؤولية...)، يرى صاندل أن لا تعارض بالضرورة بين العنصر الاستحقاقي والعنصر الجمهوري، لكن عند المفكر الصيني ثمة حدود للمشروع الجمهوري لتربية المواطنين على الفضائل المدنية؛ وذلك بحكم أن الأمة المعاصرة أشبه شيء يكون بـ"مجتمع غرباء" منه بـ"جماعة".
ويلاحظ يونغ هوان أن ثمة تقاربا بين تصور صاندل وتصور الكونفشيوسيين للعدل، وذلك على خلاف التباين عن نظرية راولز. إذ هذا يفصل العدل عن الفضيلة والاستحقاق الخلقي -يعتبر العدالة إجراء لا علاقة له بالأخلاق، ويقدم العدل على الخير- بينما الكونفشيوسية تسعى لتربية المواطنين. لكنَّ الفارق بين تصور صاندل -الذي يعود إلى أرسطو- والتصور الكونفشيوسي إنما يكمن في الوسائل: فعند أرسطو وصاندل تتم تلك التربية بسن قوانين جيدة ملزمة، بينما عند الكونفشيوسية يتم ذلك بتقديم قدوات ونماذج أخلاقية؛ إذ إن فكرة جعل المواطنين فضلاء بتشريع قوانين عاقلة فكرة غربية عن كونفشيوس وأتباعه، ولو فُعِل بهم ذلك لارتدعوا لكن ما شعروا بالخجل من فعلتهم ولا أحسوا بالعار. بيد أن صاندل يوضح أن أرسطو ما كان يلح على الزجر بقدر إلحاحه على التربية بالعادة، ومن ثم فلا تعارض بين كونفشيوس وأرسطو، حتى وإن شدد ذاك على الفضيلة الأخلاقية وهذا على الفضيلة المدنية (الولاء والتضامن).
في مسألة الفضيلة
لكن كيف نميِّز بين الفضيلة الخلقية والفضيلة المدنية؟ هذا ما تطرحه زهو هويلنغ وشين لاي، وهما يسألان صاندل من منظورين مختلفين. إذ ترى الأولى أن تصور صاندل للنزعة الجمهورية المدنية لا يمكن من معالجة خطر أن حكومة ما، وباسم الفضيلة، قد تفرض بالقهر تصورا معينا للأخلاق، بينما يلاحظ شين لاي أن تصور صاندل للنزعة الجمهورية ليس قويا بما يكفي. وشاهده على ذلك أن نزعة صاندل تهمل اعتبار الكمال الخلقي الخاص بالشخص. وإذ شددت زهو هويلنغ على أن الجوانب الجمهورية المدنية في فكر صاندل أقوى من الجوانب الجماعاتية، فقد وافقها صاندل الرأي. وقد أشارت إلى كيف أن الرجل يرفض النظرة الأخلاقية الأغلبية التي ترى أن العدل والحق ينبغي أن يتحددا بوفق الأخلاق الغالبة على الجماعة، ورفض النظرة الروسوية التي ترى أن الخير المشترك واحد لا تعدد فيه. وبالضد، فإن نزعة الرجل تشدد على الحرية مبدأ للنقاش بين المواطنين في شأن ما الذي تعنيه الحياة الطيبة أو خير الجماعة.لكن زهو هولينغ لا تخفي قلقها من غياب طرح أي أسئلة تنجم عن محاولة إحياء الفضيلة الجمهورية: كيف ينبغي لنا أن نتداول حول "الخير المشترك" في مجتمع تعددي حيث لا يتفق الناس على معنى "الفضيلة" وعلى مبنى "الحياة الخيرة"؟ كيف يمكن أن نضمن أن هذا التداول لا ينقلب إلى قسر وقمع حين تفرض الأكثرية قيمها على المجتمع برمته؟ والذي عند الرجل أن إلحاحه على "تربية المواطن" وليس بالأولى "تربية الشخص" لا يعني لا عنده، ولا عند أرسطو، أن ثمة تعارضا بين "الفضائل المدنية" و"الفضائل الخلقية"؛ إذ العديد من القيم المدنية قيم خلقية؛ شأن محاربة النزعة الاستهلاكية. وهو في ذلك، وعلى خلاف الليبراليين، لا يقيم حاجزا بين ما هو خصوصي وما هو عمومي، ولا يؤمن بحياد الحكومة اتجاه مختلف تصورات الحياة الطيبة.
في مسألة الشخص
ما الذي يعنيه أن تكون "شخصا"؟.. هذا السؤال يقع في صلب مداخلتي أستاذين غربيين متخصصين في الكونفشيوسية ينتقدان التصور الغربي للذات بما هي "فرد حر عقلاني مستقل" أنشأته الفلسفة الغربية إنشاء. وهما يعتبران هذا التصور مسؤولا عن اقتصاد السوق الرأسمالي. ويجدان بديلا في الفكر الكونفشيوسي الذي يتصور "الشخص" تصورا يعتبرانه جذابا أخلاقيا ومطابقا للحياة البشرية التي تستحق أن تعاش: إنما الشخص دور اجتماعي. ويقر صاندل بموافقته الكونفشيوسية في نقد مبدأي "الفردانية" و"الاختيار الحر". وهو لا يرى أن الذات متحررة من كل العلائق الجماعية ومن كل المرجعيات. لكن الباحثين يريان أن هذا النقد غير كاف؛ إذ لا وجود عندهما للذات خارج الأدوار التي تقوم بها، ولا وجود لهوية ثابتة للشخص، إنما الشخص حال من التقلب في الأدوار التي يسندها المجتمع إليه. ويجيب صاندل: نعم أنا أرفض القول بأن الأخلاق تنبع من اختيارات ذوات مستقلة فردية، لكن لا أوافق على أنه يمكنننا أن نفكر في الأخلاق من غير التفكير في الفاعلين الأخلاقيين، وإذ لا أؤمن بماهية ثابتة للشخص بمعزل عن تقلبات حياته، فإنني لا أؤمن أيضا بأن الشخص ما هو إلا جماع أدواره وظروفه. فما ينسياه هذان هو دور الشخص الراوي: أعيش ظروفا، لكن بمكنتي أن أستقل عنها وأن أروي ما حدث لي. وفي ذلك بالذات يكمن جوهر مفهوم "الشخص": إنه راوية ومؤول.
في مسألة الحوار بين الثقافات
يعتبر صاندل أن ردوده على دارسي الفلسفة الصينية إنما شكلت فرصة تعلم على عدة مستويات: من جهة أولى، تطلب الأمر منه اعتبار التحديات التي تواجه رؤاه من وجهات نظر غير مألوفة لديه. ومن جهة أخرى أضاءت له المناقشات آفاق متنافسة بضوء من الفلسفة الصينية. ومن جهة ثالثة دفعته إلى التساؤل إلى أي حد يمكن أن يجرى حوار عابر للثقافات وللتقاليد الفلسفية.
والذي عنده أنه يمكن تصور طريقين لمقاربة هذا الحوار: واحدة تكمن في إجراء المقارنة بغاية بيان الأشباه والنظائر، من باب الفلسفة المقارنة؛ وذلك في تحد للذات المنغلقة في فكر معين. وهو الأمر الذي من شأنه أن يجلب معه دواء لداء مركزية الفلسفة الغربية والنظرية السياسية المتشرنقة على الذات، كما من شأنه أن يجلب معه تصويبا للصورة الكاريكاتورية السائدة عن الفكر الشرقي والتي ظهرت في أعمال مفكرين كبار من أمثال هيجل. لكن، رغم إيجابيات هذه الطريقة، فإنها قد تمنع من التشجيع على التعلم المتبادل بين الثقافات وعبرها؛ وذلك بسبب من اقتضائها التعميم؛ علما بأن التعميم معاد للروح الفلسفية؛ إذ يكاد يعمى عن الفوارق داخل التقليد عينه.
والبديل الذي يقترحه صاندل هو أن يتم البدء لا من التجريدات والتعميمات، وإنما من الإحراجات العينية بغاية الحث على تفكير مشترك. لذلك ما طلب هو من تلامذته الصينيين أن يتحدثوا عن تقاليدهم، وإنما وضع أمامهم معضلات أخلاقية ملموسة والتمس منهم معالجتها بصرف النظر عن أي تقليد. مثلا، هل من الخطأ أن يعمد صاحب متجر إلى الرفع من ثمن قنينة الماء غداة كارثة طبيعية؛ حيث يرتفع الطلب ويقل العرض؟ وما القول في طفل يبيع إحدى كليتيه ليشتري جهاز آي فون؟
لهذا السبب، ينتهي صاندل إلى نصح الفلاسفة بأن ينكبوا على الإقبال على نصوص تقاليدهم الكبرى -شرقية كانت أم غربية- بُغية تدارسها وفق ما يسميه "التأويليات التعاونية". هو ذا ما يمكن أن يفيد "التعلم المتبادل" بين الفلسفة الصينية والفلسفة الغربية، بناء على الإقرار، أولا، بتوازيهما. وهو درس من صاندل في التواضع، حيث لا يتحول الدرس إلى وعظ.
----------------------------
التفاصيل :
- الكتاب: "اللقاء بالصين.. ميخائيل صاندل والفلسفة الصينية".
- المؤلف: Edited by Michael J. Sandel، And Paul j. D’Ambrosio.
- دار النشر: جامعة هارفارد للنشر، 2018م، لندن.
- عدد الصفحات: 296 صفحة.
