تأليف: فاليري نيكري
عرض: سعيد بوكرامي
في كتابها الصادر حديثاً عن دار "تادييه" الفرنسية (القوة الصينية في مائة سؤال: العملاق الهش) تبرز الباحثة الاستراتيجية فاليري نيكري بوضوح شديد، وبأسلوب شفاف وتعليمي جدًا، أن الصين قد تحولت في غضون بضعة عقود فقط إلى قوة هائلة؛ فبعد خروجها من الماوية المتقشفة والمفقرة إلى تبني الرأسمالية ذات الخصوصية الصينية أضحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ولا عجب أن الصين اليوم تحولت إلى قوة اقتصادية وديموغرافية هائلة، فهي تضم أكثر من مليار نسمة، ولديها أكثر من ثلاثة آلاف سنة من التاريخ. كما أن انتشارها الجغرافي شاسع ومؤثر. الصين ليست فقط بلدا، وإنما هي حضارة من الخيبات والنجاحات والطموح والفشل.
بدأ التحول الاقتصادي بعد التغييرات التي شهدتها الصين على إثر وفاة ماو في عام 1976 وبدء الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها دنغ شياو بينغ في عام 1978.
أين تكمن القوة الصينية اليوم مقارنة بمنافسيها؟ كيف يمكن تقييمها بطريقة واقعية والأهم كيف يمكن الاستفادة من نموذجها الاقتصادي؟؟
تجيب الباحثة فاليري نيكري أن الصين كانت منذ قرون مفتونة بكثافتها السكانية، وتأثيرها الديموغرافي، كما أن علاقتها بالآخر كانت ملتبسة وغامضة ويغلب عليها سوء الظن. وهذه الصورة كانت تحبط المحللين.لهذا تحول سحر هذه القوة إلى ميدان لاستيهامات عديدة تظهر في مخاوف الفاعلين الاقتصاديين ومبالغات في خطابات السياسيين. لم يكن للصين منذ زمن طويل تأثير يذكر على الساحة الدولية، كما أن التعاون معها يمكن الاستغناء عنه. الآن لم يعد ذلك ممكنا، بل أصبح من الضروري فهم القوة الصينية بكل أبعادها، لفهم أفضل لتطورات العالم المعاصر؛ لأن الصين أضحت نموذجا في النمو الاقتصادي المتسارع بحيث تحولت إلى مركز جديد للعالم، وهي عودة "طبيعية" إلى قوة الإمبراطوريات السابقة. إن بناء المدن الكبيرة بفخامة وسرعة (تصنع الصين وتستعمل كمية هائلة من الإسمنت توازي ما استخدمته الولايات المتحدة خلال قرن).
وفي الوقت نفسه، تمكنت الصين من تحقيق نجاحات حقيقية، فقد أخرج اقتصادها المتطور أكثر من 500 مليون شخص من الفقر المدقع منذ عام 1980، وهو ما يمثل أكثر من ثلاثة أرباع الحد من الفقر في العالم خلال الفترة نفسها. وهذا يعتبر إنجازا تاريخيا، والصين اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر قوة تجارية، وأكبر مستورد للنفط والمواد الخام. وتحتل ميزانية قواتها المسلحة المرتبة الثانية خلف الولايات المتحدة. كما أن أسواقها، وتبادلاتها، والأولويات التي يحددها قادتها، وخياراتها الاستراتيجية، توجه مستقبل العالم. بعض الخبراء الاقتصاديين يتحدثون عن الصين باعتبارها معجزة اقتصادية ما تزال في بدايتها.
وعلاوة على ذلك، ومن خلال مائة سؤال ذات صلة وواقعية، تصف فاليري نيكري أيضًا كيف أنَّ توجهات الصين قد بلبلت العالم نحو الأفضل تارة ونحو الأسوأ تارة أخرى. وأمام اندهاش الغرب وصدمته من التسارع الاقتصادي للصين، فقد امتيازات كثيرة وجازف بمخاطر لا لزوم لها، فتغاضى عن المطالبة بالديمقراطية في الصين نتيجة لهذه الإصلاحات كإحدى الأولويات، لأن النظام مازال شموليا ومهيمنا وينتهك حقوق الإنسان. ترك هذا التحول في العقود القليلة الماضية آثارا جلية، توضح فاليري نيكري بدقة عالية أن الصين لديها "نقاط ضعف كثيرة" تعرف الصين اليوم: تلوثا كبيرا وبالتالي هناك أزمة بيئية محلية تعيشها الصين، لكنها تؤثر أيضا على المناخ الدولي، كما تفككت في الصين القيم الأخلاقية المكتسبة من الأسلاف، وأصبح البحث عن المال بأي ثمن، حتى وإن كان بالكذب، والتلاعب، والرشوة، كما أن تفاقم المشكل الديموغرافي، الذي لم يحسب حسابه جيدا بحيث انتشرت الشيخوخة الديموغرافية ...
تسلط الباحثة فاليري نيكري الضوء على المكتسبات لكنها لا تتغاضى عن الشروخ العميقة للنظام والمجتمع الصيني منذ بداية القرن الحادي والعشرين. ولا تسعى الأسئلة المائة التي تتناولها هذه الدراسة أن تكون شاملة ومرهقة. فهي تهدف في اختيارها إلى الإجابة عن طريقة عمل الصين وتحليل المفاهيم الخاطئة، التي تعوق دراسة وتحليل قوة دءوبة على الإنتاج والتميز كانت إلى عهد قريب خارج الرهانات.
ولكن يوجد وراء هذه العناصر القوية، لخطاب الرئيس شي جين بينغ القوي حول عودة الصين إلى الساحة الدولية و"الحلم الصيني"، مشكلة مواجهة النمو الصيني حدودا صارمة يصعب تجاوزها. وتتمثل في الجانب الاقتصادي، فبعد أن انتهت فترة النمو السهل، القائم على العمالة الرخيصة والصادرات الضخمة والاستثمار والائتمان، حان الوقت المناسب لإعادة التوازن الماكرواقتصادي. ولكن هذا الأخير يتطلب إصلاحات عميقة لم تكن السلطة الصينية مستعدة لإنجازها. وينطبق الشيء نفسه على المكافحة (الفعالة) ضد التلوث وترسيخ الديموقراطية، وتلبية الاحتياجات الاجتماعية التي من شأنها أن تسمح للصينيين بتوفير أقل واستهلاك أكثر. وأخيرا، قد يؤدي التخفيف من القبضة الايديولوجية إلى القضاء على الرشوة والفساد الإداري، لكن قد يؤدي ذلك أيضاً إلى ردة فعل من الرفض أو السلبية، بين الشعب والنخب، مما قد يعيق "عودة القوة" إلى الصين.
ومن الناحية الإيديولوجية، فإنَّ الإسهام النظري للرئيس شي جين بينغ (بعهد جديد من الاشتراكية بألوان الصين) لا يزال محدودا، وبعيدا عن التحقق لفرض سلطته وضمان الدور القيادي للحزب الشيوعي الصيني. وقبل كل شيء، بالنسبة للعديد من المحللين الصينيين، فإن الاستراتيجية الإقليمية "الأكثر حزما" للصين تثير أيضا ردود فعل من الخوف أو العداء يمكن أن تضر بمصالح الصين على المدى الطويل وكذلك باحتياجات الاستقرار.
تتحدث الباحثة فاليري نيكري عن مخطط "أوبور" (قوة واحدة، طريق واحد)، الذي وضعه الرئيس شي جين بينغ، المشروع الأول والأداة الرئيسية لتصدير القوة الصينية إلى الخارج: "أوبور" هو امتداد لـ"الحلم الصيني" الموجه نحو الهيمنة العالمية. وهدفه الأساسي إغواء الشركاء السابقين أو الجدد، الذين يمتدون اليوم إلى جميع أنحاء العالم تقريبا، وهذا يتجاوز الحدود التقليدية لطريق الحرير المعروفة والتي عبرت آسيا الوسطى. بهذه الإصلاحات أصبح البعد الاقتصادي للصين جذابا، بقدرته التمويلية السريعة والمربحة وهي واحدة من العناصر الأساسية للقوة الناعمة لبكين وإحدى وسائلها المهمة للتأثير على استراتيجيات شركائها. وعلى هذا النحو، استفادت الصين من انسحاب القوى الغربية من العديد من الأسواق التي تعتبر صعبة أو محفوفة بالمخاطر. وتراهن الصين في مجال الاستثمار في البنيات التحتية، على ملء هذا الفراغ، سواء في الدول الأقل نموا في آسيا أو في القارة الأفريقية. ورغم الإعلان عن استثمار مبالغ مالية كبيرة، لكن ما زال واقع الاستثمارات أكثر تواضعا في الاقتصاد الصيني. وفيما يتعلق بالمجالات البحرية في جنوب شرق آسيا، فقد استعمل مخطط الرئيس شي جين بينغ منذ إطلاقه في عام 2013، كأداة للتهدئة، ترمي إلى استقطاب البلدان التي تشعر بالقلق إزاء الهجمات الصينية في بحر الصين.
ومع ذلك، تضيف الباحثة فاليري نيكري، فإن جاذبية الصين التي لا يمكن إنكارها، شابها بالمقابل عدم ثقة من بعض الشركاء ببكين.كثير منهم يشكون أن جمهورية الصين الشعبية تخفي وراء مناوراتها الاقتصادية رغبة في تعزيز وزنها الجيوسياسي وتصدير الفائض الضخم لقدراتها الإنتاجية، خدمة لمصالح شركاتها. إذا أبدى بنك الاستثمار الآسيوي لأجل البنيات التحتية (إييب) اهتماما حقيقيا، فإن الشعور بعدم الثقة في الاستراتيجيات الصينية الهادفة إلى "تقسيم" المجموعة الأوروبية، باستخدام جاذبية مشاريع أوبور التي أصبحت شيئا فشيئا تهيمن اقتصاديا. وحتى بالنسبة للمحللين الصينيين أنفسهم، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار بشكل أفضل الخطر الذي تواجهه الصين عند انخراطها، على نطاق واسع، في المشاريع الكبيرة مع البلدان الهشة للغاية من الناحية المالية والسياسية. حتى لو كانت بكين قادرة، بسبب هيكلة اقتصادها الذي لا يزال قائما على أساس الدولة وخصوصية نظامها السياسي، على تحمل مخاطر أكبر خدمة لطموحاتها الاستراتيجية البعيدة المدى.
تشير الباحثة إلى أن الصين، منذ 1980، أبدت طموحا كبيرا كي تصبح قوة بحرية كبيرة. كانت هذه الرغبة موجودة منذ قرون وقد تم مؤخرا اكتشاف مذكرات تشنغ هو والاحتفاء بها، وهو الذي قاد عدة حملات إلى المحيط الهندي في القرن الرابع عشر، لدعم رغبة الصين في الظهور كقوة بحرية عظيمة، لأنهم يعتبرون أن القوة العالمية الحقيقية يجب أن يكون لها بعد بحري قوي. ومن هنا تأتي الأهمية التي أعطيت اليوم في الصين إلى ملاح القرن الخامس عشر تشنغ هو ( أميرال بحري مسلم قاد أسطولا يتكون من 317 باخرة تحت حكم الامبراطور يوغل من سلالة المينغ) كما أن هذا مؤشر على تطور السياسة الصينية، كما يمثل اهتماما جديدا بالمجال البحري. بل هي أيضا إشارة موجهة إلى المجتمع المسلم. ورغبة في إقامة روابط مع البلدان الآسيوية الأخرى والقارة الأفريقية.
تؤكد الباحثة أن الصينيين، يمتلكون، من الآن فصاعدا الوسائل الاقتصادية والتكنولوجية لبناء هذه القوة البحرية العظيمة. فعلى سبيل المثال، يوجد في بكين حاملات طائرات ضخمة، لا تزال قابليتها للتشغيل محدودة للغاية، ولكنها تؤدي دورا هاما في التأكيد الرمزي لسلطتها على البحار. وتعد البحرية حاليا أحد أسلحة الجيش الصيني، التي تحظى بالأولوية، وقد بذلت الصين جهودا كبيرة للحصول على المزيد من الحاملات الحديثة والغواصات المتطورة. كما أن التقدم الصيني في بحر الصين حتمي وهي تدرك أن القوة البحرية مفيدة جدًا في حالة الصراع وضامنة للتفوق الجيوسياسي. الآن تمتلك الصين أول أسطول لخفر السواحل في العالم بأكثر من مائتي سفينة. ولأن الصين، تعتبر نفسها القوة التجارية الرائدة، لديها الآن مصالح يجب الحفاظ عليها في أمكنة أبعد من شواطئها، ويتضح ذلك من خلال افتتاحها الأخير للقاعدة الصينية في جيبوتي.
تنتقل الباحثة بعد الفصل المخصص للقوة الصينية في الهيمنة البحرية والتجارية والمالية إلى القوة التكنولوجية التي انتقلت من أنظمة التواصل والمعلوميات إلى الرغبة في امتلاك الفضاء. مثل العديد من الدول الأخرى، فقد بدأت الصين مغامرتها الفضائية في عام 1950 بدوافع عسكرية وسياسية. على الرغم من البداية الصعبة، حققت الصين بسرعة نجاحًا ملحوظًا. بدأ بإطلاق ناجح للصواريخ الباليستية ثم إطلاق أقمار صناعية في 1960 و1970. مع بداية الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات، أدى انفتاح السوق الاقتصادي والنمو الاقتصادي إلى إعادة تنظيم شامل للصناعة الفضائية. وبعد سلسلة من الإخفاقات، تضاعف النجاح بداية من عام 2000 بإطلاق ناجح للأقمار2/3، وبذلك دخلت الصين السوق الدولية كعملاق جديد في الصناعة الفضائية. كما طورت الأقمار الصناعية د ف ه-4، وبذلك أصبحت ثالث دولة ترسل أشخاصاً إلى الفضاء معتمدة على كفاءاتها الخاصة، وأرسلت أيضاً آليا لاستكشاف سطح القمر.وسيمثل العقد 2010-2020 الظهور الحقيقي للطموحات الصينية لاستكشاف الفضاء واكتساب المزيد من التفوق التكنولوجي.ويتيح تنوع الأنشطة الفضائية الصينية الآن تقديم خدمات في الصناعة الفضائية عالية الجودة وبتكلفة أقل من منافسيها. ستؤكد الأنشطة الصينية نفسها في مجالات مثل الملاحة بواسطة الأقمار الصناعية (كوكبة بيدو، التي ستستعمل في عام 2020) أو في استكشاف الفضاء من خلال محطة تيانغونغ، وعزم الصين على إنزال روادها الفضائيين على سطح القمر بحلول عام 2030).
لهذا كله ترى الباحثة فاليري نيكري في كتابها المهم أن دراسة الحالة الصينية وتفكيك آليات اشتغالها وديناميات انتشارها العالمي سيمكن الكثير من الدارسين من معرفة سر نجاح الصين واستشراف مستقبلها الاقتصادي، وربما التنبؤ بمصيرها المثير للكثير من الجدل. إذ يرى البعض أن الصين يمكن أن تكون قدوة مثالية لعدد من البلدان الراغبة في النمو الاقتصادي والرقي الحضاري. بينما البعض الآخر يرى أن الصين ليست سوى عملاق هش يتهدده الإخفاق الكامن في سياستها العاجزة عن التوفيق بين إيديولوجيتها السياسية وطموحها الاقتصادي.
--------------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: القوة الصينية أو العملاق الهش
تأليف: فاليري نيكري
الناشر: دار تلانديي. فرنسا. اللغة الفرنسية.
سنة النشر: 2017
عدد الصفحات: 272 صفحة.
