من أجل إيجاد حل للنسيان والتهميش

Picture1.png

تأليف: الكاتب الهندي بي. كيه. بوكار

عرض: فيلا بوراتو عبد الكبير

الكتاب يتوزع إلى ست وعشرين فصلا مرتبط بعضها ببعض حيث يدور على محور مواضيعلا تنال عموما اهتمام الكتّاب في التيار الرئيس في كيرالا. والسبب في إهمال النخب والمثقفين لها يعود إلىالذهنية الاستعلائية القائمة في أوساط بعض الكتاب وهيمنة الإعلام الغربي على منتديات الثقافة. ويزعم الكاتب أن محاولات متعمدة من جانب بعض الكتاب قد ساهمت في هذا الإعراض والإهماللتلكم المواضيع ويشير إلى أن الشعور الجماعي الذي يخاف النقاشات المفتوحة والانتقادات الشديدة ليس هو الذي يجب أن يقود حياتنا العقلانية.فالبوتقة التي يتم فيها تشكيل ثقافة البلاد الحقيقية لا يمكن إيجادها إلا من خلال المقاومة ضد محاولات لفرض تحليلات زائفة على الوعي العام. حيث أن الكاتب أستاذ متقاعد في قسم الفلسفة بجامعة كاليكوت وبما أن أطروحته للدكتوراه كانت في"الإبداعية والحرية من وجهة نظر ماركسية" لا غرو أن يغلب على أفكاره وتحليلاته الطابع الفلسفي واليساري. ويطل من خلال مقالاته في هذه المجموعة فلاسفة معاصرون وقدماء أمثال دريدا وغرامشي ونجري وفوكو وابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي وغيرهم. ولم تشب أسلوبه شائبة حزبية لأننا نراهلا يتردد في نقد بعض مواقف المنظرين الماركسيين خارج الهند وداخلها مثل تيري إيجيلتون" و " برابهات باتنايك ". وكونه علمانيا وماركسيا رغم أنه مولود في أسرة مسلمة لا يمنعه من معالجة الإسلام باعتراف أهميته الاجتماعية في العالم المعاصر. ويتضح هذا الموقف في المقالات المعنونة بـ" الغرب والإسلام: أشباح دريدا" و"لما ذا لم يقرأ تيري اغلتن القرآن بينما قرأ الإنجيل" و"ألوان الإيمان وأبعاد المسالك الروحانية".

ويبدو أن الكاتب من خلال هذه المقالاتإنما يستهدف ترطيب الأجواء بين الماركسية والإسلام وخاصة في وقت تحتاج فيه الأحزاب اليسارية إلى تأييد الأقلية المسلمة سواء أكان في الهند أو على مستوى العالم. وفي المقال المذكور أعلاه أولا يأخذ الكاتب بأيدي القراء إلى الحوار الطويل الذي أجراه مصطفى الشريف المفكر الجزائري الذي شغل منصب وزير التعليم العالي وسفير بلاده في القاهرة مع المفكر اليساري الفرنسي جاك دريدا. وذاك كان حوارا لم يحظ باهتمام الدوائر اليسارية في كيرالا ولا في الهند عموما. يشرح الكاتب خلفية هذا الحوار ويؤكد على أهمية الحواروضرورته بين الغرب والإسلام والحضارات الأخرى. ويقول إن دريدا أحد الفلاسفة الذين حاولوا أن يتجاوزوا حدود المنطق التقليدي، وقد قدم حياته لتخصيب المناطق الفكريةبتنوع الرؤى وتعددها. ومن الجدير بالذكر أنه كان مصدر طاقة لمؤلفات العبقري الفلسطيني إدوارد سعيد وحواراته الساخنة. إن النص المقدس في الأديان لا يخلو من قراءات وتفسيرات مختلفة. وهذا المبدأ ينطبق تماما علىجميع النظريات المادية أيضا. هل بإمكان العالم أن يقود حياة زاخرة بالتعددية وتغذيتها في المستقبل؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه مصطفى شريف أمام جاك دريدا. ويحاول دريدا أن يفهمنا في هذا الحوار أن العلمنة وفصل الدين عن السياسة لا يعني إطلاقا القضاء على الدين بتاتا أو تقليص وجوده وإنما يعني نيل حرية الاعتقاد والضمير وعدم قمع الوعي الفردي بأي شكل كان. ويؤكد بأن فصل الدين عن الدولة سيكون لصاح الدين لا ضده عكس ما يتوههم معظم الناس في العالم الإسلامي.

ويقول الكاتب إن أمريكا في نظر دريدا هي المتهمة الرئيسة في معاداة الإسلام والمسلمين وموقف الدول الأوربية مثل ألمانيا وفرنسا يختلف عن موقف أمريكا في هذا الشأن. ولا شك أن في نظام أمريكا عناصر تعادي الإسلام والمسلمين ولكن الأمر مرتبط بسياستها في الشرق الأوسط المنحازةإلى إسرائيل بسبب ـتأثير اللوبي الصهيوني في البيت الأبيض. وعلمانية أمريكا أكثر مرونة بالمقارنةبـ"اللايكية" الفرنسية المتشددة. ولذلك لا نرى الإدارة الأمريكية تصر على أن تحظر الحجاب كما حظرته فرنسا. حتى أننا نرى فرنسا التي ترفع شعار حرية الاعتقاد تفرض على مفكر عظيم مثل رجاء جارودي غرامة مالية كبيرةبتهمة معاداة السامية لمجرد إعرابه عن شكوك في دقة إحصائيات "هولوكوست"  المحرقة.الكاتب الذي يقول في أحد فقرات المقال إن الحرية الديموقراطية ضرورية جدا إذا لم نرد أن نموت مجمدين داخل الكواليس الحديدية التي بناها النظام، نراه يصمت عن موقف ديريدا المزدوج من الانتخابات التي جرت في الجزائر في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لأن دريدا لا يتأسف على إيقاف العملية الديموقراطية هناك بعد أن أوشك "الأصوليون" على الوصول إلىالسلطة، ولا يتردد في أن يصرح أنه لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية ولا حرية لأعداء الحرية.ولا تقلقه حين يُصرّح موقفه هذا حمامات الدم التي جرت في الجزائر وصعود العنف المتزايد نتيجة لقرصنة الديموقراطية في تلك الحقبة. وفوز الإسلاميين في الحقيقة ما كان يشكل ضربة للفكر الديموقراطي، وبالعكس قد يكون يعزز عملية الديموقراطية كما كانت في الغرب. وإدخالهم في عملية الدمقرطة ربما سيكون له أكبر حافز للإيمان بضرورة الاعتراف والاحترام للآخر كما سيكون بمقدورهم استصحاب القيم المستمدة من الإسلام الحضاري الذي أسس للحكم الراشد في عملية أنظمة الحكم الحديثة.

ومن أبرز ناقدي القضاياالثقافية اليساريين الكاتب البريطاني تيري ايغلتن الذي يشغل منصب كرسي أستاذية جون ادوارد تايلور بجامعة مانشستر وزميل الأكاديمية البريطانية. وهو الفيلسوف الذي أقنعالحقول الفكريةبالمكائد الخفية ضد الشيوعية في أفكار ما بعد الحداثة. انتقد العولمة والاحتلال الأمريكي وشن هجوما شديدا على الأقلام ووسائل الإعلام التي تنفثسموم الإسلاموفوبيافي أنحاء العالم. وتدخلاته الجريئة في مناهضة المذهب العقلاني الخالص الذي يتبطن معاداة الإسلام والذييتبناه أمثال ريتشارد دو كينز كانت أيضا لافتة النظر.وله كتاب تحت عنوان " العقل والإيمان والثورة"،إن هذا الكتابأصلا قائم على أساس سلسلةمحاضرات مؤسسة داويت هارينغتن تيري حول الدين على ضوء العلم والفلسفة التي ألقاها إيغلتن في جامعة ييل في شهر نيسان عام 2008. يبحث فيه ايغلتنمعتمدا على الديانة المسيحية والأناجيل عن الروابط بين الأديان والنظريات اليسارية، كما ينتقد موقف دوكينز وكريستوفر هيتشنز صاحبي الإلحاد الجديد، ويقول إن كريستوفر هيتشنز ارتكب نفس الخطء القاتل نفسه بادعائه في كتاب " الله ليس أكبر" أنه "بفضل التليسكوب والمايكروسكوب، لم يعد الدين أي تفسير لأي شيء هام" لأن المسيحية منذ البداية لم يكن الهدف منها أبدا أن تكون تفسيرا لأي شيء، ويسخر منه بأن الأمر أشبه بقول إنه بفضل آلة التمحيص الكهربائي بات في وسعنا أن ننسى كل شيء عن تشيكوف.

وأهمية هذه الدراسة تقع في أنها محاولة جادة من جانب ماركسي لإعادة قراءة الأديان. يقول ايغلتن إنه لا يؤمن بالملاك جبريل وبعصمة البابا وبفكرة أن يسوع مشى على الماء أو الادعاء بأنه ارتفع إلى السماء أمام مريديه، بالرغم من أن الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية لديها الكثير لتقول كإجابة عن بعض المسائل الحيوية مثل الموت والمعاناة وإنكار الذات وما شابهها التي يلزم اليسار الصمت المربك حيال معظمها. ويُذكِّر اليساريين أنه قد حان الأوان لإنهاء هذا الحياء السياسي المعيق كمايؤكدضرورة التعاون بين الديانات والماركسية في الظروف الراهنة مشيرا إلى أن الاكتشافات الجديدة في الحقول العلمية ورؤى الفلسفات الحديثة قد ساعدت على تعزيز قواعد المعتقدات الدينية. وواضح أن قصده بهذا توسيع إطار النظرية الماركسية حتى تتسع لمزيد من شرائح المجتمع. والكاتب من خلال ملاحظاته على ذلك الكتاب المتميز، رغم احترامه الشديد لايغلتن الذي يتبنى موقفا إيجابيا نحو الأديان السماوية يستغرب من إعراضه عن القرآن، ويطرح سؤاله:لماذا لم يتسع لهالوقت لقراءة القرآن فقط بينما وجد وقتا كافيا لقراءة الإنجيل؟وهذا السؤال له وزن ومكانة لا شك فيهما. ولكن السؤال كان يجب أن يبدأ من ماركس نفسه. لما ذا لا نجد في خريطة دراسات كارل ماركس الموسوعية نقطة عن الثورة التي قادها النبي العربي. المشكلة في الحقيقة مشكلة التمركز الأوربي ليس إلا. ولكننا نستغرب من أنكاتبا مطلعا مثل "بوكار" كيف يفلت من قلمه في هذا السياق شخصيات أخرى من الصف اليساري الذين اهتموا في دراساتهم بالإسلام ودوره في العصر الحديث مثل ماكسيم رودينسون واريك هوبزوام. يرى أريك هوبزوام الراحل في الإسلام قوة ديناميكية هائلة حتى في الوقت الحاضر لتغيير مسار المجتمعات خلافا للأديان الأخرى كإرساليات الكاثوليكيةوالبروتستانتية اللتين تقتربان من الأفول. وفي مقال كتبه في مجلة"مراجعات اليسار الجديد" يشير إلى أن سقوط النظريات التنويرية قد سبب في توسيع مزيد من المجال للسياسية الدينية أو القومية ذات الطابع ديني. إلا أن هوبزوام لا يسمح بهذه الإمكانية لجميع الأديان، بل يرى أن أغلب الأديان بما فيه المسيحية الكاثوليكية في طريقهإلى الهاوية بشكل واضح. وهي في جهد جهيد للاستبقاء ليس في أمريكا فقط بل أيضا في القارة الأفريقية. وإن كانت طائفة البروتستانت الايفانجلية ناشطة إلا أنها في نظر هوبزوام أقلية غير ذات أهمية. أما الأصولية اليهودية في إسرائيل فهي ظاهرة لا تتمتع بقاعدة جماهيرية. الاستثناء الوحيد في نظره الإسلام فقط. يكتب هوبزوام: "ظل الإسلام خلال القرون الماضية الأخيرة ينتشر بسرعة فائقة بدون أي نشاط دعوي تبشيري، الحركات المسلحة التي تحاول استعادة الخلافة تبدو أنها ليست إلا أقلية نشطة لا يصل نفوذها إلى الجماهير. أعتقد أن الإسلام يحمل داخله طاقة غيرعادية وثروة عظيمة للصعود المستمر. وتتمثل هذه الثروة الداخلية في المساواة والمؤاخاة والإيثار الموجودة في العلائق بين أتباع المسلمين. لا أعتقد أن هذه القيم راسخة الجذور في التعامل بين أتباع المسيحية قدر ما نحسها بين أتباع المسلمين. "(New Left Review 2010 Jan-Feb)

ومضمون المقالتين تحت عنوان " ألوان الإيمان وأبعاد المسالك الروحانية" و"توسيع الصداقة والمؤاخاة" موصول في صورة أخرى بما ورد في المقالين المذكورين أعلاه.يقول الكاتب في مقال " ألوان الإيمان" إن الأمم المؤمنة(Faith Communities) حقيقة تاريخية ارتبطت ببني الإنسانمنذ الأزل إلى الآن فلا بد من أن نعترف بها. فلا نستطيع أن نتقدم باستئصال الأديان.وهنا أيضا يحاول الكاتب أن يكتشف النقاط المشتركة بين الثوار الشيوعيين والروحانيين حيث أن كليهما يبحث عن عالم سعادة بتضحية مصالحه الذاتية. ويقول إن كان يجوز أن تكون لـ ماركس أشباح كما يقول دريدا فالتعدد حقيقة في المذاهب الروحانية وداخل ديانة واحدة ذاته كمذهب واصل بن عطاء ومذهب أبي الحسن الأشعري ومذهب الحسن البصري. ومن خلال هذه الأفكار يقدم أهمية فكرة "الجماهير" (Multitude) للفيلسوف "سبينوزا"التي أصبحت موضوع بحث في أوساط الفلاسفة اليساريين أمثال "بابيبار" وأنطونيو نيجري" و " جيليس دليوز" وغيرهم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.ومن الآن، يقول، إنه لن يكون البقاء إلا لمجتمعات قوس قزح ويحلم بعالم يتعايش فيه مختلف النظريات والأحزاب بأمن وسلامة،وتتسابق إلى تحقيق سعادة الجماهير.

وفي مقال "توسيع الصداقة والمؤاخاة" الذي يبدأ بمقطع من شعر "الفيلسوف الملايالي" شري نارايانا جورو "سعادة كل واحد لا تتحقق غلا من خلال سعادة الآخر" ينقل نظرات الفلاسفة أمثال أرسطو ودريدا وفريدريك جيمس وكاسانديكاز. ينظر أرسطو إلى الصداقة والتواد بصفتهاالسياسية حيث يقول إن الصداقة بين الملوك والعاديين بعيدة جدا، وموقف دريدا من الصداقة أيضا سياسي. ولـ دريا كتاب موسوم بـ "سياسة الصداقة (Politics of Friendship).يتحدث دريدا وموريس بلانغوط عن صداقة تمتد إلىالأضرحة، وهذه الصداقة تختلف عن الصداقة في العالم الرأسمالي التي يحكمها منطق الربح. يقول الكاتب إن الصداقة الخالصة إنما تتحقق إذا تكبر شخصيتنا إلى المستوى الدولي متفوقة حدود الأسرة والقبيلة والوطن. اذن فقط يمكننا أن نفترض حياة مستقلة خالية من الاحتلالات. هذا هو "الإنترناشيونال" الجديد الذي يناشد لتشكيله فريدريك جيمس بناء على تجارب الدول الاشتراكية الفاشلة بدلا من رفع الهتافات القديمة. ونجد في هذا المقال مراجع من روائع كافكا وكاساندكاز مثل "اغتيالات الإخوة (Fratricides) بينما لا نجد ذكرا عن كتاب ابي ريحان التوحيدي "الصداقة والصديق" الذي يتحدثعن الصداقة والصديق من خلال سرد القصص والحكايات والحكم والأشعار.

ما هي العوامل الحقيقية التي تعمل وراء العنف المتصاعد في الساحة الدولية؟ وكيف لا يسود العنف المجتمع حين يكون النظام ذاته أداة للاضطهاد؟ هنا ينقل قول الفيلسوفسبينوزا الذي يفيد بأن السلام ليس حالة من عدم الحرب بل وجود العدل. وفي المجموعة مقالات أخرى شيقة ومفيدة ولكن المساحة لا تسمح لعرضها. وجميع المقالات تتصف باستبصارات بالغة العمق. هذه هي ميزة هذا الكتاب مجملا.

-----------------------------------------------

التفاصيل :                                                                                                     

عنوان الكتاب: من أجل إيجاد حل للنسيان والتهميش

اسم المؤلفة:P. K. Pocker

عدد الصفحات:271

لغة الكتاب: مالايالام (لغة محلية في الهند)

الناشر: Vidyarthi Publications،كوزسكود،كيرالا، الهند

أخبار ذات صلة