من أين يأتي المال يا كارل: طبيعة الثروة وأسباب الفقر

Picture1.png

تأليف: إيليناكوتوفا

عرض: أحمد الرحبي

 

تحاول مؤلفة هذا الكتاب، الاقتصادية الروسية البارزةوالشخصية التي احتلت بين أعوام 1994/ 2010 أعلى منصب فيالقطاع المصرفي في روسيا والولايات المتحدة وأوروباولهاما يربو على خمسين ورقة علمية في التمويل الدولي، إيلينا كوتوفا،تحاول في عملها الجديد الإجابة عن السؤال الذي طالما أرق رؤوس الروس منذ بدايات القرن العشرين (أي عند انطلاق الثورة الاشتراكية) وحتى يومنا الراهن والمتعلقبخصوصية المسار الروسيفي التنمية الاقتصادية. حيثتقارنالباحثةالمعروفة بتذمرها من مسألة الخصوصيةفي التطور الاقتصاديالروسي، تقارن اقتصاد بلادها باقتصاديات حققت إنجازات مذهلة في التاريخ الاقتصادي العالمي كاقتصاد الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وسواها من الدول المتقدمة، وهي البلدان التي وقفت ذات يوم، شأنها شأن روسيا، أمام مفترق طرق وواجهت صعوبات اقتصاديةجذرية وعميقة، ولكنها خرجت من عثرتها منتصرة وأحيت اقتصادها بطريقة تشبه المعجزة. فلماذا لم يحدث مثل ذلك في روسيا؟ - تتساءل الباحثة -ولماذا لم تكرر روسيا نجاح جارتها الصين بأقل تقدير؟ لماذا ترتفع أسعار الفائدة في روسيا بشكل مبالغ فيه؟ وكيف تتشوه النظريات الاقتصادية الكبرى ما إن تقع في أيدي الروس؟ ما الذي يمنعهم من الاستحكام بالعقلية التي تصلهم بالركب الغربي مثلما هم يرغبون بذلك دائما؟ من أين تأتي الأموال أساسا، ولماذا يعيش الناس في بعض البلدان برفاه وبحبوحة وفي بلدان أخرى، ومنها روسيا، في فاقة؟ من طينة هذه الأسئلة تجبل إيلينا كوتوفا في كتابها الجديد مُرَّكبا متكاملاعما تنعتهبالفشل الاقتصادي لروسيا الحديثة.

 

وإذ تبحث المؤلفة عن أسباب أزمة الاقتصاد الروسي من خلال تحليلها للعقلية الروسية،مقارنة بينها وبين عقليات الأمم الأخرى، تحضرنا مقولة للشاعر الروسي الأمير بيترفيازيمسكيأطلقها فيأوائل القرن التاسع عشر وذكر فيهاأن اللغة الإنجليزية تمتلك مدلولات جمة تشير إلى قيمة الوقت وتؤكدعلى أهميته، وأن قيمته تتساوى مع المال، إن لم يكنهو المال نفسه. أما فياللغة الروسية فالمدلولات الفكرية تقودنا إلى أن الحياة لا تساوي قرشا. وتنطوي مقولة الأمير الشاعر على نظامين مختلفين من القيم، أولهما أن الإنجليز يثمنونالدقيقة، لذا تجد ثروتهم في ازدياد دائم،بينما لا يهتم الروس لا بالوقت ولا بالمال فتصبح حياتهم، بعدئذ، بلا ثمن.

 

ومع ذلك، فإنّ الروس،وعلى مدى خمسين عاما منالبداية الممنهجة لتدمير اقتصاد الاتحاد السوفيتي وتحويل روسيا إلى الرأسمالية، أضحوا على يقين بأهميّة المال في الحياة، مع فارق أنّهم لا يملكون دراية بكيفية كسبه وليس لديهم فهما واضحا لإنتاجه. ثمة فكرة تلازم غالبية الروسعن تحوّل بلدهمإلى دولة متقدمة، وبأنهم يستحقون الرخاء والحياة الكريمة مثل جيرانهم الغربيين؛ولكنها فكرةلا تخرج عن إطارها النظري العام ولا تفارق مجالس الكلام الذي تشتعل فيه الانتقادات والاتهامات بين فريقين: الوطنيين والليبراليين، فيلعن الوطنيون تجار السوق، وينهال الليبراليون على العقول المتزمتة، وهكذا يلتهون ويتقاذفون بنتف متفرقة من الحقيقة، وإن اتفقوا على شيء واحد،فعلى الحالة الاقتصادية المتردية في البلاد.

تجّرب الكاتبةالإجابة عن أسئلتهامن خلال أهم النظريات الاقتصادية في القرن العشرين.وبرغم معارضتها للنظام الشيوعي إلا أنّها تعود مرارًا إلى كارل ماركس وتستأنس بنظرياته التي ضمنها كتابه الأشهر "رأس المال". ففي الفصل المعنون بـ "مفتاح المؤامرة العالمية"تخلص الباحثة إلى أن كارل ماركسلم يبرر ديكتاتورية البروليتاريا كما اعتقد الروس والسوفيت من قبل، وأنّ لينين، قائد الثورة الاشتراكية عام 1917 لم ينشغل بتحقيق معجزة اقتصادية في روسيا وكانهمه منصبا على إنجاح الثورة فقط.وبرأي المؤلفة فإنّ الروس قد أخذوا من ماركس عكس ما كان يريده في كتاب"رأس المال" الذي أكد فيهأنّ الرأسمالية تدعو وتشجع على نمو وازدهار المجتمع والدولة وتوفر الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الغايات.وهكذا، وعلى ضوء قوانين ونظريات كارل ماركس تبني الكاتبةتحليلاتها لأهم التحولات الاقتصادية في القرن العشرين وتقدم شرحاتفصيليا عن أسباب الفشل الروسي في الإصلاح الاقتصادي، معززة آراءها بوصفة علمية تضمن لروسيا الخروج من أزمتها وترسم لها خطة عمل لبناء صرح اقتصادي فعّال.

تؤكد المؤلفة علىأنّ الدراماالاقتصادية الروسية مرتبطة أساسا بالخلل الفكري الذي يتوارثه أصحاب الرأي والمتمثل باعتبار المعضلة الاقتصادية الروسية شيء فريد من نوعه ولا يتكرر في مكان آخر، وبالتالي فالحل لا بد وأن يكون روسيا خالصا ولا يشبه الحلول المتبعة في بلدان المعمورة قاطبة. وترى الكاتبة أنّ التعنتفي رفض تجربة البلدان الناجحة اقتصاديا في أوروبا وأمريكا مرده نوع من الغطرسة التي لا تندرج ضمن قوانينوموازين الاقتصاديات الواقعية والواعدة. تقول في هذا السياق: "لم نجن (نحن الروس)منبحثنا عن طريقتنا الخاصة لتخطي المشاكل سوى الفشل، فضلا عن أننا أسسنا لتفكير خاطئ وكارثي وتسببنا في تشويش رؤوس المتعلمين والمفكرين وفي تعطيل أدمغة الشباب غير المعنيين بالسياسة. لم يتشرب العقل الروسي شيئا من الأحداث الاقتصادية والثقافية في البلدان التي أراد اللحاق بركبها، فلم يعتبر من الكساد الكبير الذي دخلت أمريكا في أتونه وخرجت منه بأقوى اقتصاديات العالم. فبالنسبة لنا هذا شيء عديم الأهمية. وماذا عن عودة الحياة إلى ألمانيا بعد الحرب؟ هل سقط المال على ألمانيا من السماء، أم أنّ أمريكا دفعت لها كل ما تريده؟ ربما ظن البعض ذلك ولكن الحقيقة هي أنّ المساعدات الأمريكية لألمانيا بلغت ما نسبته واحد ونصف بالمائة من مبيعات النفط الروسي في العام الواحد" (ص 11).

من بين السمات التاريخيةلإدارة الاقتصاد في روسيا تتناول الكاتبةسمة اللحاق المستمر بالدول المتطورة،وهي مسألة عرفتها روسيا في وقت مبكر وسابق لما شهدته البلدان النامية ما بعد الكولونيالية. فإن كان مفهوم "اللحاق بالركب" قد دخل العلوم الاجتماعية العالمية في منتصف القرن العشرينوذلك وقتما كان العالممنشغلا بمشكلة تخلف المستعمرات السابقة، فإنّ اللحاق بركب الدول المتقدمة بدأ في روسيا قبل ذلك بكثير، وتحديدا مع الإمبراطور المتفتح بطرس الأكبر (بطرس الأول 1672-1725) المعروف بأنه "فتح نافذة" إلى أوروبا. وقد حاول الحكام من بعده اللحاق بركب بلدان الضفتين الشماليتين للمحيط الأطلسي، ولكن من غير أن يسفر ذلك عما كانوا يرغبون فيه، هذا إن لم نقل أنه أسفر عن غير المرغوب فيه (...) لقد كان الانفتاح الروسي على تجربة البلدن الأكثر تقدما في المحيط الأطلسي انتقائيا وغير منظما: هذا نقرأه وهذا لا نقرأه، هنا نغير وهنا لا نغير" (ص 7).

ملمح تاريخي آخر من الملامح التي وسمت المجتمع الروسي بميسمه وحالت دون ازدهاره اقتصاديا ما تسميه الباحثة بالاستعمار الداخلي. فبينما شق الاستعمار البريطاني والفرنسي المحيط إلى البلدان الآسيوية والإفريقية البعيدة، ارتد الاستعمار الروسي إلى الداخل، وهو أمر يمتد (بهذا المعنى أو ذاك) إلى راهن الوقت. تقول المؤلفة: "لم نتسبب بتشويهبلدان ما وراء البحار ولكننا شوهنا بلدنا. لقد نهبت نسبة قليلة من المجتمع موارد النسبة الكبرى. لم يربط بين النبلاء والأقنان أية أبوية (...)وكان ثمة شكل آخر من أشكال الاستعمار. كانتالعاصمتان (موسكو وسانت بطرسبورغ) مع المدن العشرة الكبيرةتتغذىمن موارد المحافظات التي ظلت فقيرة وحرم بعضها من الكهرباء حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين (...)يسمى هذا في الفيزياء(الاجتماعية!)بالأواني غير المستطرقة، حيث تجتمع المتاجر المضيئة بوفرة في مكان واحد، وفي بقية الأماكن تمتد سلسلة من المجاعات" (ص 101). وعلى الرغم من كل الإجراءات الظاهرة لتحسين ظروف المعيشة في روسيا،تصر الباحثة على أن الاستعمار الداخلي ما زال ماثلا فيها، وخير دليل على ذلك الفروقات في فرص الناس للعيش الكريم بين العاصمة وبقية المحافظات. تقول الكاتبة: "بحسب الاقتصاد التقليدي فإنّ الهواتف المحمولة والكوكا كولا والسيارات الأجنبية متوفرة في آلاف المدن والبلدات. ولكن ليس أكثر من ذلك، فلا فرصة للمرء هناك لتغيير ظروف معيشته للأفضل. لا وجود ثمةلمتخصصين وخبراء لمضاعفة رأس المال واستحداثالقطاعات المجتمعية الحديثة، المجتمع مغلق والناس يعتمدون على أنفسهم فقط (...)كل شيء مختلف بين العاصمة والقرى: التكنولوجيا، قيمة الروبل، الوصول إلى المعلوماتومفاهيم العدالة والقانون" (ص 110).

تقدمإيلينا كوتوفاصورا حيةللوضع الاقتصادي المتناقض في روسيا إبان عهود مختلفة من القرن العشرينوذلك مع تحديد أهم المعضلات والخرافات الاجتماعية المسيطرة في كل فترة، وعن ذلك تقول: "كانخروتشوف وبريجنيف على قناعة تامةبأن المصانع وتسويق منتجاتها لا يمكن أن يخرجا عن يد الدولة. وقد منحت الدولةمواطنيها رواتب شهرية تتراوح بين تسعين إلى مائة وخمسين روبلا، أمّا العمل وجودته فعلى الجميع أن يحّكم به الضمير. ويا لها من ثقة غريبة! إن الإنسانكسول بطبعه والعمل بضمير بالنسبة إليه أمر غير مفهوم. إنه لا يعمل إلا لسببين: من أجل المال أو خوفا من الموت في الثكنات. بعدها ألغيت الثكنات ولكن الرواتب لم تزد ومعها لم تزد طاقة العمل عند الشعب (...) وجاء يلتسين، ومعه حلت مفاهيم السوق الجديدة وحُررت الأسعار وانطلقت عجلة الخصصة من غير قوانين تضبطها بآليات السوق. وظل الناس على وهمهم بأن المال يثمر في الأشجار، ثم صاروا بعدها يغمغمون بأن الثعالب سطت على الأشجار".

إنّ عدم استعداد روسيا لتكون شبيهة بالآخرين وانتفاء رغبتها في التغيير بالإضافة إلى توهمها القدرة على الإتيان بتجارب اجتماعية جريئة، هيمن بعض أسباب المواقف السلبية التي يتبناها الغرب ضد روسيا. فبعد أن كانت في التسعينيات بلدا محبوبا من الغرب، حيث ضمها إلى مجموعة الثماني وناقشانضمامها إلى حلف الناتو، خاب ظن الغرب بها وأنقطع أملهم فيها. تكتب الباحثة في هذا السياق: "لقد ذوت حماسة الغرب تجاه روسيا (...) وسوف لن يقيض لروسيا أن تولد من جديد بين ليلة وضحاها. ستتعافى ببطء، ولن تساعد أية أصفاد أخرى من قبل الغرب في شيء بل ستعرقل إحلال أفكار جديدة محل البحث الذي فطر عليه الروس عن الأعداء الخارجيين. إنّ الغرب مخطئحين يشدد العقوبات على روسيا، وإن نمّ ذلك عن شيء فإنّما ينمّ عن جهل للواقع الروسي وعدم إدراك للطموحات التي نشأت في الداخل الروسي طيلة عقود من الزمن. لقد استبدلت بلدان المحيط الأطلسي، وبسهولة كبيرة، توقعاتها العالية تجاه روسيا بخيبة أمل وأنهت سريعًا قصة تربية المراهق الصعب" (ص 335).

إنّالفكرة الرئيسية التي تشيعها الكاتبةبين دفتي كتابها تكمن فيعدم كفاءة وفشل الأفكار الشيوعية، وبالأخص في فصل الكتاب المعنون بـ "هل كان ثمةنظام عظيم؟"لذلك، وإلى جانب الشأن الروسي، شمل الكتاب أحوال الصين التي تتنبأالمؤلفة حدوث انهيار في اقتصادها خلال العقود القادمة والسبب أنّ الصين،وإن كانت قد غمرت العالم بأسره بمنتجاتها من السلع الرخيصة، إلا أنّ اقتصادها لا يعتمد على ابتكار التقنيات الحديثة، وهذا بحسب الكاتبة نقيصة عضوية ومدمرة.

لاقى الكتابالكثير من ردود الفعل وأثار جدلا في الوسط الصحفي وجوبهت أفكاره الراديكالية برفض مبرم من قبل شخصيات المجتمع المدني الروسي، بيد أنّ الكل أجمع على الموهبة الكتابية لهذه السيدة القادمة من القطاع المصرفي وعلى جمالية أسلوبها في التأليف.

-------------------------------------------

التفاصيل :

الكتاب: من أين يأتي المال يا كارل... طبيعة الثروة وأسباب الفقر.

المؤلف: إيلينا كوتوفا .

الناشر: ألبينا بوبليشير/ موسكو 2018.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 340 صفحة.

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة