تأليف: ماركوسديسوتوي
عرض: محمد السماك
من صفات الإنسان "حيوان سؤول". فالسؤال هو الطريق إلى المعرفة والمفتاح إليها. وقديماً قال أرسطو:" إن الإنسان مفطور على المعرفة ". والقرآن الكريم يحثّ الإنسان على التفكر في خلق السماوات والأرض. ويحثّه على البحث في نفسه، حيث اللامنتهى من المعارف ومن الأسرار الكونية. غير أن كتاب الدكتور ماركوس دي سوتوي، أستاذ العلوم الرياضية في بريطانيا، يتحدث عن حدود المعرفة عند الإنسان. ولذلك أعطى كتابه المثير عنواناً حول ما لا يمكن معرفته.
وكمدخل إلى تفاصيل هذا الكتاب،كان لا بد من الإشارة إلى ما حققته علوم الفضاء مثلاً من توسع في المعارف الإنسانية. ومن آخر أهم الأمثلة على ذلك وأشدها إثارة، الاكتشاف الجديد الذي توصلت إليه مجموعة من العلماء الأوروبيين برئاسة البروفسور سيمونكلارك لنجم يتمتع بقوة جاذبية تبلغ مليون مليار مرة قوة جاذبية الأرض. ويبعد هذا النجم عن الكرة الأرضية مسافة 16 ألف سنة ضوئية. ورغم أن هذا الموقع بعيد جداً، فإن النجم يعتبر أقرب النجوم المماثلة إلى الأرض.. الأمر الذي يعطي فكرة مبسطة حول مدى اتساع الكون "وإنا لموسعون" يقول القرآن الكريم.
ويؤكد علماء الفضاء وجود مجموعات عديدة من هذه النجوم التي تقدر زنة الواحد منها أربعين مرة أكثر من زنة الشمس.كما يؤكدون أن هذه المجموعات من النجوم تكونت في فترة مبكرة من عمر الكون، وأن من بينها نجوماً أثقل مليون مرة من الشمس، وأنها تكونت قبل أكثر من مليار عام.
من هنا السؤال: إذا كان العلم يعرف كل ذلك؛ وإذا كان يعرف أن ما يعرفه لا يمثل سوى القليل جداً من أسرار الكون، فما هي حدود اللامعرفة التي يتحدث عنها الكتاب؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الاشارة أولاً إلى أن المؤلف يعترف أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين ما يمكن اعتباره العصر الذهبي للمعارف العلمية.ومن الأمثلة التي قدمهاعلى ذلك ما تم تحقيقه من إنجازات علمية من أهمها فك شيفرة الخلية الحية للإنسان.. وحتى للنبات ولكائنات حيوانية عديدة أخرى، الأمر الذي لا يساعد فقط على معالجة الأمراض الوراثية، بل إنه يتجاوز ذلك إلى معالجة الأمراض في النباتات وتحسين الإنتاج وتطويره (القمح والأرز مثلاً)، وكذلك مكافحة الأمراض التي تسببها حشرات (كالبعوض) من خلال تعديل مكونات شيفرتها الحية (D.N.A).
ومن هذه الإنجازات الباهرة أيضاً ما تم تحقيقه في أحد المختبرات العلمية في سويسرا من خلال ما يعرف بجهاز "هاردون" الذي مكّن العلماء من محاكاة العملية الأولى لصدام أجزاء الذرة. فالمنشورات العلمية تضاعف عددها خلال العقد الأخير مما يشير إلى وتيرة التقدم المعرفي العلمي واتساع مداه.
ولكن المؤلف يطرح بعد ذلك السؤال التحدي التالي،وهو: هل يمكن القضاء على السرطان؟ ... هل يمكن وقف الشيخوخة؟ هل هناك نظرية معرفية لكل شيء؟ وهل نستطيع أن نعرف كل شيء؟
يقدم المؤلف جواباً بالنفي على هذا السؤال الأخير. ويتماهى هذا الجواب العلمي مع الآية القرآنية الكريمة التي تقول: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".
ولتوضيح جوابه بالنفي المبني على معادلات ووقائع علمية، يقول المؤلف الدكتور دي سوتوي إن للمعرفة الإنسانية حدوداً. وإن من هذه الحدود التجربة الواقعية أو العملية. ويعطي مثلاً على ذلك فيقول:إنه بموجب نظرية نيوتن حول الحركة (نيوتن أحد علماء الفيزياء الإنكليز) فإن من الممكن التنبؤ بالوجه الذي تستقرّ عليه قطعة العملة المعدنية بعد إطلاقها من اليد. غير أن حسابات ذلك معقدة جداً (حساب قوة رمي قطعة العملة، وسرعة دورانها على ذاتها،وحساب المسافة بين يد مطلقها وموقع استقرارها، وسرعة الريح...إلخ)، بحيث يتعذر ترجمة كل هذه الحسابات الدقيقةإلى أمر عملي وواقعي.
ويقدم مثلاً آخر، عن حال الطقس مثلاً، ويقول إنّ الأمر دقيق جداً، وإن المتغيرات تتوقف على عوامل صغيرة وطارئة. ولأنّ الناس، بمن فيهم العالِم المختص لا يستطيع أن يقيس بدقة كاملة هذه المتغيرات الطارئة، فإنه لا يستطيع أن يتنبأ بمتغيرات الطقس بشكل مطلق وثابت، اليوم وفي المستقبل.
وتلتقي هذه النظرية مع ما ورد في دراسة علمية للعالِم الجغرافي إدوارد لورنز نشرت في عام 1972 تساءل فيها:" هل إنّ حركة أجنحة الفراشات في البرازيل يمكن أن تطلق عاصفة في تكساس بالولايات المتحدة؟" مع ذلك، وحتى لو أنه يتعذر،أو يصعب التنبؤ بالمستقبل العلمي، فإن الناس تأمل دائماً، وتواصل السعي للكشف عن المزيد من القوانين العلمية.
وفي كتابه "التاريخ المختصر للوقت" للعالِم الفيزيائي الشهير ستيفن هوكنغ والذي صدر في عام 1988، قال:" إنني أعتقد أن هناك من الوقائع والأدلة ما يحملنا على الاعتقاد بأن الحكمة تقتضي أن نكون حذرين في تفاؤلنا بأننا أصبحنا على قاب قوسين أو أدنى من المعرفة الكاملة والنهائية لقوانين الطبيعة ". ولكن متى يعرف الناس أنهم لم يصلوا إلى المعرفة الكاملة؟ لقد اعتقدوا أنهم وصلوا إليها فعلاً، ثم اكتشفوا أنهم كانوا على خطأ.فاللورد كالفين مثلاً وهو من كبار الفيزيائيين الإنكليز، أعلن في عام 1900 وبثقة علمية مطلقة أنه "لم يعد هناك شيء جديد لاكتشافه في عالم الفيزياء". ولكن لم تمر سوى سنوات قليلة على ذلك حتى اكتشف العلماء نظريات جديدة حول النسبية (أينشتاين) وحول الفيزياء الكمية التي فتحت فضاءات علمية جديدة وواسعة.
فالفيزياء الكمية Quantum Physicsوضعت حدوداً للمعرفة البشرية، وبيّنت أن هناك متغيرات غير متوقعة وغير محسوبة وغير موثوقة في الكون.فالإلكترونات مثلاً تتواجد على شكل موجات في الفضاء، وليس لها موقعمحدد وثابت إلى أن يتم اكتشافها. ثم إن هناك حدوداً للمعرفة البشرية، وإن هذه الحدود ترسمها نظرية هيسنبرغ حول مبدأ اللامؤكد، والتي تقول إن هناك معادلة تبادلية بين الموقع والحركة والجسم. وهكذا إذا ما عرفنا عن موقع موجة الإلكترون في الفضاء، نعرف أقل عن الاتجاه الذي تتحرك إليه. وهو أمر يحيّر العلماء أنفسهم. ويفرد المؤلف صفحات مطولة من كتابه لهذا الأمر الذي يكشف عن لا معرفة العلماء ليس بالمستقبل العلمي فقط.. ولكن حتى بالوقائع العلمية الحاضرة.
يعرف العلماء الكثير، كما يقول مؤلف الكتاب. يعرفون أصل الكون من خلال نظرية الانفجار العظيم، ومن خلال الجزئيات النووية (منذ عام 1930) ومن خلال اختفاء المادة وكذلك من خلال "الثقوب السوداء" في الفضاء البعيد..
ويعرف العلماء الكثير أيضاً عن دماغ الإنسان وعن حالتيْ الوعي واللاوعي. ويقول المؤلفوهو الاختصاصي في علم الرياضيات إنّه إذا كان الناس عاجزين عن معرفة كل شيء من خلال العلوم، فلعلهم يعتمدون على حقيقة الرياضيات. ولكنه سرعان ما يعترف أنّه حتى هنا فإنّ للمعرفة حدوداً.
فقد تبين لعلماء الرياضيات أنّ بعض النظريات تحتاج إلى عمر الكون لإنهائها. وينقل عن العالم النمساوي كيرت غودل قوله أنّه لا يوجدنظام رياضي كامل، وأنّ هناك دائماً عبارات صحيحة ولكن لا يمكن إثباتها.
ولعلّ محاولات الإثبات تجري ولو بصورة غير مباشرة من خلال "الذكاء الاصطناعي"، أي من خلال الحواسيب المتطورة التي تحاكي ذكاء الإنسان.. بل بدأت تتجاوزه.
وقد صدر كتابان جديدان حول هذا الموضوع هذا العام (2017) أيضاً. الأول للكاتب الصحفي لوك دور ميل Luck Dormehl وعنوانه :" الآلات المفكرة: التطلع نحو الذكاء الاصطناعي.. وإلى أين تقودنا ".
Thinking Machines, The Quest for Artificial Intelligence- And Where It’s Taking us Next?
والكتاب الذي يقع في 275 صفحة هو من منشورات دار نشر Taicher Perigee.
يقول الكتاب إنه في عام 1962 حاول أحد العلماء من جامعة كورنيل الأميركية فرانك روزبلات Franck Roseplatتطوير حاسوب –جهاز كمبيوتر- يحاكي الذكاء الإنساني، بما في ذلك مفهوم اللغة، والترجمة. ولكنه لم يستطع. أما اليوم، فإن هذه الحواسيب أصبحت جاهزة وأصبحت قادرة حتى على قيادة السيارة.
والسؤال الذي يطرحه هذا التطور العلمي المعرفي الجديد والمفتوح أمام آفاق معرفية واسعة جداً في المستقبل، هو هل تحلّ الآلة محلّ الإنسان؟
يجيب المؤلف عن هذا السؤال الذي يشغل العالم كله من خلال تقديم أرقام مبنية على إحصاءات رسمية. فيقول إنه في عام 1900 كان 40 بالمائة من اليد العاملة في أميركا تعمل في الزراعة. وأكثر من 20 بالمائة تعمل في الصناعة. ولكن في عام 2015 انخفضت نسبة العاملين في الزراعة إلى 2 بالمائة فقط، وانخفضت نسبة العاملين في الصناعة إلى 8،7 بالمائة.
ولكن ماذا حدث لبقة العاملين ؟.. من الواضح أنّ مجالات عمل أخرى استحدثت واستوعبتهم. ويقول المؤلف إنه مقابل كل فرصة عمل أُلغيت، توفرت فرص عمل جديدة، مما أدى إلى تضخم القوة العاملة من 24 مليوناً (أي 30 بالمائة من السكان في عام 1900) إلى 142 مليوناً (أي 44 بالمائة من السكان في عام 2015).
أما المعدل الوسطي لدخل العامل اليوم فقد ارتفع 11 مرة عما كان عليه في القرن الماضي.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، ففي كتاب آخر عنوانه:" قلب الآلة: مستقبلنا في عالم الذكاء العاطفي الاصطناعي" “Heart of the Machine Our Future In A world Of Artificial Emotional Intelligence”، للعالم ريتشارد يونك Richard Yonck، (وقد صدر هذا العام أيضاً في 312 صفحة عن دار نشر أركاد Arcade Publishing). في هذا الكتاب يقول المؤلف إن المشاعر تقع في صميم التفكير الإنساني، وإن التفوق الإنساني يقوم على قدرتنا على الإعراب عن مشاعر الحب وعلى تذوق الموسيقى وابتداعها، وحتى على صناعة النكتة والضحك. فالمشاعر تقع حسب المؤلف في بداية وفي نهاية تفكيرنا. واستنادا إليه فإن وظائف هذه المشاعر يقوم بها جزء من الدماغ اكتسبه الإنسان قبل مليوني عام، وأن الله خلق رأس الإنسانليستوعب هذا التطور. وهو يعتبر أن صناعة الأحجار المسنونة للصيد هي البداية الأولى للتطور التكنولوجي. وأن هذا التطور مستمر.. وقد وصل اليوم إلى ما وصل إليه في صناعة الأجهزة الذكية.. بل البالغة الذكاء!!.
نعود إلى الكتاب الأول الذي بدأنا به، وهو كتاب "ما لا يمكن أن نعرفه". هنا ينتهي المؤلف في كتابه (العلمي المعقد جداً ولكن الشيق جداً) إلى الإقرار بأن هناك حقائق لا يمكن للإنسان أن يعرفها. أو أن يعرف ما هي هذه الحقائق التي لم يعرفها. ولكن يبقى أن الرغبة في معرفة المجهول تشكل حافزاً للإنسان للبحث عن المعرفة. وهو ما دعا إليه القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته البينات التي خص فيها الإنسان على التفكر والعقل (أي استخدام العقل) لمعرفة بعض الحقائق الكونية عن خلق السماوات والأرض. من ذلك قوله: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء " (الأعراف 185). وقوله أيضاً:" ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى" (الروم 8)، ولعل كلمة وما بينهما تشير إلى موجات الإلكترونيات التي لا يزال فهم حركتها يستعصي على العلماء حتى اليوم. وقوله كذلك "والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (النحل 12).
--------------------------------------------------------
التفاصيل :
اسم الكتاب: ما لا يمكن أن نعرفه What We Cannot Know
اسم المؤلف: ماركوس دي سوتوي Marcus Du Sautoy
اسم الناشر: فايكنغ بنجوين Viking Penguin
تاريخ النشر: 2017
عدد الصفحات: 440 صفحة
