تأليف: رومان بادوارد
عرض: سعيد بوكرامي
سندرس في هذه المراجعة بعض التحديات التي تواجه الممارسات الاجتماعية لشبكة الإنترنت فيما يتعلق بالأشكال التي تتخذها الديمقراطية في سياق يتسم بعولمة الرأسمالية وتحول الدولة. وللقيام بذلك، سنقارب كتاباً مهمًا عن علاقة شبكة الإنترنت بالمجتمع، باعتبارها اليومفضاء مهيمنا على تبادل المعلومات ونشرها. وهذا ساعد الفاعلين السياسيين على تعبئة أفراد المجتمع المدني لصالح تحقيق أهداف سياسية أو آيديلوجية.من خلال معطيات الكتاب ونقاشه لمجموعة من القضايا سنتطرق إلى أهمية الإنترنت في تحقيق هذه الأغراض السياسية التي لا تعتمد فقط على التكوين الاجتماعي التقني لمستخدمي الإنترنت، بل أيضًا على السياق الاجتماعي والتاريخي الذي تحدث فيه.
يتساءل الكاتب رومان بادوارد في بداية كتابه: "خيبة الأمل في الإنترنت التضليل، والشائعات والدعاية" إذا ما أصبحت الإنترنت عدوّا للديموقراطية. ليس فقط بما تتضمنه من إشاعات وأخبار ملفقة وتحرش ودعاية، ومراقبة شاملة، بل من خلال المناقشات العامة عبر الإنترنت، التي تحولت فعليا إلى ساحة حرب حقيقية. رغم أنها قبل عشر سنوات، كانت محط إشادة من الكثيرين لنموذجها التواصلي عبر الإنترنت كأداة للتجديد الديمقراطي. كيف نفسر هذا الارتداد؟ يتساءل الكاتب مقترحًا خلاصات واضحة وتعليمية حول المخاطر السياسية للإنترنت.
يبرز الكاتب أن السلطة تقيم في صميم التكنولوجيا. لأن الإنترنت يحمل في آلياته نموذجا جماعيا يحبذ الانقسامات خاصة في هذا العالم المتضارب المصالح والأفكار والعقائد. ومن هنا تحولت إلى محفز على الصراعات ومؤججة للنزاعات، وبذلك ألغي التحدي الذي روّج له صانعو الشبكات التواصلية من أن قاعدة الإنترنت وغاياته هي التواصل والانفتاح وتبديد الاختلافات. وكانت النتيجة سهر القائمين عليها على تحقيق الأرباح بدل دعم التبادل الفكري والإنساني، بل سعوا إلى احتلال الفضاء المعلوماتي كله وإلغاء تنظيم سوق المعلومات على نطاق واسع مما خلق تهديدا خطيرا على ممارسة حرية التعبير وتوفير العدالة الرقمية. ولأن الرقمية هي قضية الجميع، بل هي أيضًا مستقبل الديمقراطيات القادمة، فإنَّ الكاتب رومان بادوارد يستعير مفهوم "خيبة الأمل" الشهير من المفكر ماكس ويبر، ليسلط الضوء على التحول من عالم إلى عالم آخر. وليناقش أيضًا وعود التحرر والتحول من خلال الوسائل الرقمية، التي لم يتبق منها سوى "ساحة لمعركة حقيقية" (ص 12)، بين الشائعات والمعلومات الكاذبة والمضايقات وحرب الصورة. وللتأكيد على هذه الفكرة، يؤكد الكاتب على الأهمية المتزايدة للإنترنت في العديد من القضايا السياسية. وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفعه إلى التركيز في ملاحظاته على "حرب المعلومات الجديدة"، أي حول رهانات النقاش عبر الإنترنت، الذي يتسم بانتشار "سجلات التدخل" (ص. 23). ولذلك يقترح فهم وسائل الاتصال الجديدة على شبكة الإنترنت والتعرف على الطريقة التي يحاول بها المشاركون والجهات الفاعلة المختلفة (المواطنين والدول والشركات الخاصة) احتلال هذا الفضاء الاجتماعي الذي تم تحريره ظاهريا.
يقدم الفصل الأول تقريرا عن مكانة الإنترنت في التغييرات الهامة التي حدثت في وسائل الإعلام التقليدية. وعن حدث حلول "ويب 2.0 " الذي يتميز باستخدامات جديدة من خلال إنشاء وتبادل المحتوى من قبل المستخدمين وبالأساس عن طريق البلوغات والشبكات الاجتماعية مشيرا إلى الزيادة الهائلة والسريعة في عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت منذعام 2000. يؤكد الكاتب وجود تهديد من طرف "الرقابة الأيديولوجية" (ص. 26) التي تعمل، على سبيل المثال، من خلال الطريقة التي يتعامل بها القراء مع مرجعية البلوغات السياسية من خلال الروابط الموجودة على الصفحة و التي تحيل على روابط لمواقع أخرى قريبة جدا منمحتوى الصفحة.
إن انتشار مصادر الأخبار على شبكة الإنترنت لا يعني أن الأفراد من الناحية العملية يسعون إلى مواجهة وجهات نظر مختلفة أو معارضتها. فسواء كانوا في اتصال مباشر عبر الإنترنت، أو خارجه، فإنهم يفضلون التواصل مع أشخاص أكثر أو أقل تجانسا اجتماعيا. يدقق الكاتب أن هذه الظاهرة تتعزز بواسطة التسلسل الهرمي للمعلومات التي تديرها محركات البحث. قبل الانتشار الواسع النطاق للإنترنت، لعبت وسائل الإعلام التقليدية دورا حاسما في اختيار المعلومات التي تراها ذات صلة بجمهورها (ما كان يسمى بـ "حراسة البوابات الإعلامية") أما الآن، فبات المستخدمون أحرارا لإنتاج وتوزيع محتواهم الخاص. في الواقع، لم تعد المعلومات التي يطلع عليها المهتمون تخضع للتصفية والتصنيف من قبل الصحفيين المحترفين، كما كان يحدث مع وسائل الإعلام التقليدية.
يشكل الفصل الثاني من الكتاب تأملا حول ما أسماه رومان بادوارد بـ"القسوة في النقاش" في التعليقات على المقالات الصحفية أو في شبكات التواصل الاجتماعي محللا أسباب وآثار النبرة العدوانية عموما المستخدمة في الجدل السياسي، مما يقوض "جودة النقاش عبر الإنترنت" (66). ومن خلال تبادل الآراء، تصبح القاعدة هي المواجهة التي غالبا ما تكون عنيفة، ويعود سببها إلى إمكانية إخفاء الهوية مما يفسح المجال لخطاب شديد الكراهية أو التمييز والعنصري. إن طابع الاستفزاز هو أيضا واحد من الوسائل المستخدمة من قبل بعض مستخدمي الإنترنت ليسمع صوتهم. على سبيل المثال، نشر تغريدة مثيرة للجدل عمدا. ولأن الخوف في المحادثات السياسية بشكل مفرط على شبكة الإنترنت، يدفع العديد من مستخدميها إلى تفضيل البقاء بعيدا عن هذه المناقشات، لصالح ما يسميه الكاتب "ظاهرة التقيّة" (ص 80).
وينطلق الفصل الثالث في استجواب شامل حول دور المديرين الرئيسيين للشركات الرقمية والإنترنت. في الواقع أنشئت الشبكة بهدف "اللقاء بين الثقافة المضادة للفوضوية لصناع الإنترنت والرأسمالية الليبرالية" (ص 93). ولا يزال حجم المعلومات على شبكة الإنترنت في نمو متزايد، ونتيجة لذلك، فإنَّ مستخدمي الإنترنت والمعلنين يبحثون باستمرار عن طرق جديدة لجذب الانتباه واستقطاب الجمهور. ولتحقيق مستوى مشاهدة أفضل، يجب أن تتكيف الشركات مع عمل الخوارزميات مثل "نظام ترتيب الصفحات" في غوغل، التي تعد المسؤولة عن تحديد أولويات المواقع في نتائج البحث. في حين أن معظم الخدمات التي تقدمها المنصات الرقمية تتميز بحرية البحث المجاني. هذه المجانية تحجب واقع "اقتصاد النقر" (ص 105) المبني أساسًا على تسويق البيانات المنتجة بواسطة المستخدمين. على الرغم انحجابها وحيادها الظاهري، فإن الخوارزميات هي في الواقع انعكاس لمشروع سياسي حقيقي. والأخبار ليست استثناء بحيث يتم فرزها من خلال "الوسائط الإخبارية" مثل أخبار الياهو أو أخبار الغوغل، وغيرها، التي تتمثل مهمتها في مركزة الأخبار الرقمية لوسائل الإعلام الرئيسية. يحاول الكاتب أن يبين لنا أننا أقل اطلاعا مما نعتقد، على الرغم من التعدد الواضح للمعلومات التي يمكن الوصول إليها: "إن المعركة المحمومة حول البحث عن النقرة، والاهتمام بشكل منهجي تكون دائما لصالح من يوحد المحتوى "(ص 101). نلاحظ في مواقع "الأخبار"، أن هناك عددا كبيرا جدا من المقالات الصحفية التي تتناول نفس المواضيع، على حساب المقالات المميزة أو المخصصة لموضوعات نادرة.
في الفصل الرابع، يواصل الكاتب تأمله من خلال تحليل الأشكال الجديدة للتعبئة عبر الإنترنت. مثل العرائض (من خلال مواقع مثل Change.org) أو بواسطة الهاشتاغ (المنتشر بقوة في مواضيع الشبكات الاجتماعية) وهكذا نلاحظ تغييرا كليا في طرق التعبئة لاستجواب الرأي العام حول الانشغالات السياسية. ومع ذلك، يشدد الكاتب أن نجاح بعض التعبئات الرقمية يمكن أن يغذي الاعتقاد بأن " التكنولوجيا يمكن أن تجد الحل لكل شيء " (ص 127) وبالتالي التفكير في أن اختراع الأدوات الرقمية الجديدة سيكون علاجا لكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. لأن هذه الصعوبات هي قبل كل شيء ذات طابع سياسي، ولهذا تتطلب تدخل السلطات العمومية. ويمكن اعتبار "البيانات الكبيرة" المستخدمة وتحسين قدرات معالجة الأدوات الإحصائية مثالا آخر على استسهال الحلول وجاهزيتها مما يلغي العمل اللازم لبناء موضوع البحث وفئاته. وهناك بعض الخطابات التي تذهب إلى حد التنبؤ بـ"نهاية النظرية" في العلوم الاجتماعية، والاستعاضة عنها بنماذج حسابية خوارزمية.
يؤكد الكاتب في الفصل الأخير المعنون "استعادة امتلاك الإنترنت" على ضرورة مقاومة ونضال مختلف الجهات الفاعلة من المجتمع المدني ضد الشركات الكبرى المسؤولة عن "خصخصة الإنترنت" (ص148) في الواقع، إن المناقشات حول إدارة الإنترنت هي موضوع علاقات القوة على عدة مستويات بين السلطات العمومية والمواطنين، كما يوضح ذلك مثال "إدوارد سنودن" الذي كشف عن مراقبة الحكومة الأمريكية لمواطنيها مراقبة شاملة، ولكن أيضا على المستوى الدولي بين الدول و الفاعلين الرئيسيين في الاقتصاد الرقمي. ويذكر رومان بادوارد ببراعة ظهور شكل من أشكال القوة المضادة على مدى السنوات العشرين الماضية، أو ما يسمى "حركة الهاكرز" أو القراصنة الرقميين الذين يدافعون عن "قيم الشبكة الأولى "(ص 161)، التي تخص" البرامج المفتوحة". وعلى النقيض من الصورة السلبية التي تمنحها وسائل الإعلام للقراصنة، فإن الكاتب يؤكد على الدور الذي يقوم به المبلغون عن المخالفات والذين يشكلون، و بصفة عامة، جزءا من العملية السياسية.
في الختام، يتساءل رومان بادوارد عن كيفية "إحياء المثال الديمقراطي للإنترنت" (173). وحسب الكاتب فهذا هو دور الجمعيات التي تدافع عن حقوق مستخدمي الإنترنت وحركة الهاكرز، وكذلك من طرف الدولة. وهو بذلك يعبر عن الرغبة في "عودة السلطة العمومية" (176) لمواجهة النفوذ المتزايد للشركات المتعددة الجنسيات في وادي السيليكون. وفيما يتعلق بـ "النقاش العام عبر الإنترنت"، يصر الكاتب على دور المدرسة، مقترحا وضع برنامج لرفع مستوى الوعي بقضايا الشبكة. ستسمح هذه الأدوات التعليمية الجديدة للمواطنين في المستقبل من تعلم موقعة أنفسهم بذكاء في الخلافات على الشبكات الاجتماعية، وكذلك منحهم مفاتيح لـ"تجريب نقاش بناء".
يمكن اعتبار بحث رومان بادواردكتابا موثقا توثيقا جيدا. ويتميز كذلك بتوصله إلى العديد من الاستنتاجات المهمة المستمدة من الأبحاث الحديثة حول استخدامات الإنترنت. كما أن أطروحته عن "خيبة الأمل" سمحت له بتسليط الضوء على التناقض بين بعض المثل العليا للمؤسسين للإنترنت (خلق مساحة المساواة الديمقراطي العام والتنظيم الذاتي) وبين واقع استخداماته اليوم بالمحفوفة بالزيف والغموض والإيديلوجيات الجديدة في جميع أنحاء العالم . ومع ذلك، فإن استخدام الكاتبلبعض المصطلحات مثل "الرقابة على الجمهور" أو "الدعاية المحلية" تدل على أن هناك إشكالية لا تتناسب بشكل ملائم مع ما توصلت إليه العديد من الدراسات التجريبية الواردة في الكتاب. هذه المصطلحات القوية، التي تستخدم للتأكيد على أهمية الموضوع، قد تبدو مفرطة في الانزعاج وغير سليمة منهجيا، على الرغم من أن الكاتب رومان بادوارد تمكن من جعل قضايا كتابه مثيرة للاهتمام ونتائجها سهلة المنال. بحيث تمكن وهذا يحسب له سحب العديد من الخيوط المتشابكة بخصوص الاضطرابات الحالية الناجمة عن استعمالات الإنترنت، وبذلك نجح في دق ناقوس الخطر لإعلامنا تشعب قضاياه عموما وتنبيهنا إلى أهمية القضايا السياسية والديمقراطية للإنترنت.
يفترض الخطاب حول دور الإنترنت أن تجديد الأنظمة السياسية يقوم على مفهوم المواطنة المفرطة النشاط، بيد أن هذا النوع من المقاربة يميل ضمنا إلى وجود مستخدم نموذجي، وبالتالي لا يأخذ في اعتباره ظروف الحياة الحقيقية التي تجعل عددا معينامن المستخدمين في وضعية الحرمان أو النقص في المعرفة الرقمية وهنا يمكن أن نتحدث عن انعدام المساواة المعرفية بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، لهذا من الصعب أن تتمكن هذه الأخيرة من تحقيق قوى اجتماعية قادرة على التحول إلى حركة اجتماعية قادرة على تغيير التاريخ، لأنَّ الأمر ليس مجرد مسألة اجتماعية واقتصادية. ولكن أيضا مسألة معرفة رقمية وحتى وإن كانوا من المستخدمين المفرطين للإنترنت، فإنَّ وعيهم السياسي الهش غير مؤهل لتغييرات جذرية. وأخيرًا، إن التنمية الديمقراطية على شبكة الإنترنت وعبرها لا تعتمد فقط على التكوين الاجتماعي التقني لهذه الأخيرة، ولكن على الوعي السياسي النشيط، الذي لا يحدد إمكانياتها وفقا للخيارات التي وضعها مصممو الإنترنت، ولكن أيضا اعتمادا على السياق الاجتماعي والتاريخي الذي تحدث فيه الممارسات الفعلية التي يمارسها المستخدمون للإنترنت.
-----------------------------------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: خيبة الأمل في الإنترنت. التضليل، والشائعات والدعاية
المؤلف: رومان بادوارد
الناشر:منشورات ليموج فيب. فرنسا. 2017
اللغة: الفرنسية
عدد الصفحات: 180 صفحة.
