هشاشة الاهتمام بالآخرين: أدورنو والرعاية الأخلاقية

41-Otti0n-L.jpg

 تأليف: إستيلا فيراريز

عرض: سعيد بوكرامي

يجدّدُويقوّي كتاب "هشاشة الاهتمام بالآخرين: أدورنو والرعاية الأخلاقية" النظرية النقدية النسوية؛ لأنه يُسائِل الفلسفة الاجتماعية لثيودور و. أدورنو، ويقترح التفكير في بعض مفاهيمها؛ ومن ضمنها: نظريات الرعاية عامة، وأيضا من خلال مسألة الهشاشة الاجتماعية التي تتمثل في القلق على مصير الآخرين بصفة خاصة. كيف تظهر المبادرة الأخلاقية في أنماط حياتنا الرأسمالية االتي ترتكز اليوم على اللامبالاة الواسعة الانتشار؟ وما هي هذه الظروف الاجتماعية؟ تتمثَّل الفرضية في أنَّ الرأسمالية تجزِّئ الاهتمام بالآخرين، وتحدُّ من تطوره المحتمل عن طريق إسناده إلى النساء، في الحقول والمهام التي تكون دائمًا محددة سلفا. وبناء عليه، كيف نفهم المحتوى الأخلاقي للرعاية الذي يعمل به بالفعل؟ بمجرد أن نتبيَّن أنه نتاج توزيع جنساني للأنظمة الأخلاقية السائدة، بحكم أن هذه الأخيرة هي شرط من شروط السوق الاقتصادية!

تُعلن مؤلفة هذا الكتاب عن الخطوط الأولى التي تهدف لـ"إعادة تسليح النقد من خلال القضايا النسوية". وهنا، تتمثل إحدى نقاط القوة الرئيسية للكتاب في أنه يُجسِّد عرضًا جديدًا ومميزًا إلى حدٍّ بعيد ما بين العديد من موضوعات التفكير. وتكمُن الأهمية في عملها أيضا في التقاء الفلسفات الأخلاقية والاجتماعية، ودراسات النوع الاجتماعي، والرعاية الأخلاقية والنسوية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. إن أبحاث فيراريز تعتمد الشروط الأساسية في علم الاجتماع لمقاربة جميع قضايا النسوية وآثارها، وانعكاساتها.

تتحدَّث الكاتبة في البداية عن مدرسة فرانكفورت، وهي الاسم الذي يُطلق على نظريات مجموعة من الباحثين في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، التي كان مقرَّها في الأصل في معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية منذ عشرينيات القرن العشرين، وتتقاسم مناهج فكرية مشتركة في هذا الموضوع، الذي تطلق عليه مصطلح "النظرية الحرجة". وهو يعتمد في المقام الأول على الفلسفة الماركسية والاجتماعية والأخلاقية لدى هيجل ونيتشه، وبعض الكتاب الكبار في علم الاجتماع والتحليل النفسي، في منظور "نقد الرأسمالية والأعراض المرضية الاجتماعية الناجمة عنها". إذا كان المثقفون المتمثلون لهذا التيار الفكري متعددين ومتنوعين في أساليبهم وأهدافهم، فإن ثيودور و. أدورنو هو واحد من أشهر هذه الشخصيات الفكرية. لهذا تبوِّئه الباحثة مكانة مهمة معتمدة على العديد من كتاباته؛ إذ تسعى إلى العثور على نقاط التقارب مع نظريات الرعاية الاجتماعية والأخلاقية حول "رعاية الآخرين". عمل أدورنو على ترسيخ أسس ومبادئ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وتقديم نظرية نقدية مغايرة للمجتمع لا تكون علما إمبيريقيا فحسب، بل علما اجتماعيا نقديا يحقق ما دعت إليه الطبقة الوسطى في أوروبا من أجل حق الحرية والصراع الاجتماعي والقضاء على الظلم، وألا تبقى هذه المبادئ على المستوى النظري، وإنما عليها أن تنزل إلى مستوى الممارسة العملية، كما عليها ألا تهادن، ما دام هدفها التحكمفي طبيعة الإنسان لتسيير حياته الذاتية ومعه الطبيعة؛ بهدف رفع الوعي الاجتماعي الشامل الذي يستطيع تحمل مسؤولية التغيير في المجتمع.

وتُشير عبارة "أخلاقيات الرعاية"، أو "الاعتناء"، إلى موضوع دراسي يصبُّ في مجال علم الأخلاق بصفة عامة، لكنَّها بالإضافة إلى ذلك فهي أخلاقيات اجتماعية تهم المجتمع بجنسيه، وكلاهما يرتبط بمقاربة محددة تجاه ضعف الآخرين. وبالتالي، فإن الرعاية تشير إلى نشاط الرعاية في المجالين الخاص والمنزلي، ولكن هذا المفهوم يشير أيضًا إلى مجالات مهنية مختلفة تتعلق في المقام الأول بالعمل الاجتماعي والرعاية؛ لذلك فإن الأنشطة الاجتماعية وأخلاقيات الرعاية مبنيَّان على "الاهتمام بالآخرين" والذي -بحسب الكاتبة- يشمل "مختلف التصرفات والتأثيرات، شريطة أن تأخذ بعين الاعتبار احتياجات وآلام الآخرين"(ص:11).

إنَّ الصلة بين الرعاية ودراسات النوع الاجتماعي ومقاربات النسوية تُصبح واضحة تمامًا عندما ندرك أن الممارسات في المجتمع"تؤثر"، ومهن الرعاية تؤول أساسًا إلى النساء. وهنا يبرز هدف فيراريز المتمثل في البحث عن كيفية قيام نظرية أدورنو النقدية ونظريات الرعاية بتعزيز بعضها البعض. وفي الواقع، كما يتبين من أسئلة الكاتبة المتعددة في جميع مظان الكتاب، يمكن التشكيك في معنى الرعاية وآثارها الأخلاقية عندما نتحدث عنها في مجتمع رأسمالي مثل المجتمع الغربي. وقد وضعت الكاتبة محاور تفكيرها ضمن أربعة فصول تقدم تباعا المساهمات الفكرية الاجتماعية الرئيسية لأدورنو حول هذه الموضوعات ونقاط الالتقاء، والاختلاف والتكامل بين عمل الفيلسوف الألماني ونظريات الرعاية الأخلاقية والنقد النسوي.

تصرح فيراريز في البداية بأن نظريات الرعاية، يجب أن تكون المصادر الاجتماعية لفهم المعاناة الإنسانية في كل مكان وزمان، دون تمييز جنسي. ويجب أن تعد من الأشياء الرئيسية للنقد: "النظرية النقدية تجعل من فهم المعاناة شرطا للمعرفة الحقيقية" (ص:14). من خلال التركيز على "الجانب المادي والعيني للفعل الأخلاقي" (ص:20)، فإن هذه المقاربات النظرية تظهر شكلاً من أشكال الاهتمام بالآخرين. وينعكس هذا الاهتمام أيضا في العناية التي تمنح إلى "الفرد" بدلا من "الأفعال"، و"العمومي"، بدلا و"الخصوصي". بالنسبة لأدورنو العمومي والكوني هما في الواقع مجرد وجهة نظر للفئة المهيمنة؛ لأن لدينا وجهات نظر محددة وخاصة فقط: "المعرفة الوحيدة التي تصاحب عملنا هي جزء من المعرفة الممزقة، السلبية، الجوهرية للوضع" (ص:26).

يلتحق أدورنو ونظريات الرعاية معاً بهذا النوع من الحساسية التي تعتبر أن الفعل الأخلاقي ورعاية الآخرين لا تستند إلى تفكير مجرّد وعام، بل على ممارسة علائقيّة، وتأثيرات، واحترام الطبيعة في كل من الإنسان وما حوله. وبعيدا عن التأقلم التعاطفي مع احتياجات الآخرين، وهو أمر أساسي في الرعاية، يمكن أن تؤدي هذه المواقف المشتركة؛ من خلال مساهمات أدورنو ومدرسة فرانكفورت، إلى نقد العقل المؤثر والتقني الذي يشجع الإنسان بدلاً من مرافقته نحو تقدمه الشخصي والأناني. هذا السبب الفعال، والذي يعبر عنه في عصرنا بالمنطق ومؤسسات السوق والدولة، يُسهم في "تنسيق" مختلف السلوكيات في "مجتمعنا الإداري"، كما يقول أدورنو، يزداد الأفراد بفعل "برودة البرجوازية" لامبالاة، فيبدون أقل اهتماما وقلقا على الآخرين: "الرأسمالية لا تفعل شيئاً سوى أنها تدير منطقًا جوهريًا للعقل وعمله الدؤوب قصد الهيمنة على الطبيعة، والذي بموجبه كل شيء في الطبيعة يمكن إعادة إنتاجه، ويقترن هذا بتطور الصناعة التي تجسدوتنظم هذه القدرة على توفير الإنتاج"(ص:48).

يخفي عصرنا الحالي من الإنتاج الصناعي للسلع والخدمات، للأفراد والثقافة، معناه الخاص وكأنه مجرد "مسرحية للأشباح"، كما يقول أدورنو ورفيقه والتر بنيامين، وهذا يعني، أنه يوضع في إطار أيديولوجيات وأدوار مسرحية تعتمد على الأوهام أكثر من الحقائق الواقعية. إن امتداد هذا "المجتمع الذي يديره" السوق في نهاية المطاف يبرز السعي وراء استنزاف الطبيعة عن طريق العقل المؤثر، ومن ضمنها أيضا: "الطبيعة البشرية" التي تنتجها العملية التاريخية والنشاط العملي الخاص بالمجتمع الرأسمالي الذي لا يعرف الشعور بالقلق والاهتمام بالآخرين الذي يؤدي منطقيا إلى الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، بل على العكس، فهو يفضي إلى اللامبالاة"(ص:73). ومع ذلك، يشير أدورنو إلى أن الجنس النسوي لديه مكان محدد ومتعدد في هذه العمليات. لأن النساء وضعن "في قلب توسع رأس المال الذي لا نهاية له" (ص:87) ليس فقط لأنهن مستعداتلرعاية الآخرين والعمل المنزلي والأسري، ولكن أيضا لأنهن محاطات بمنطق السوق، الذي يتحكم في ذواتهن حتى يصل إلى أشد خصوصياتهن، أكثر بكثير من الذكور. وقد منحت لهن هذه المكانة باسم فكرة وهمية تحيل على الطبيعة النسوية التي تنتجها المؤسسات الاجتماعية، لدعم "الهيمنة الذكورية". بعض النساء يجدن أنفسهن في وضع الإنهاك من خلال هذا العمل الذي يجثم عليهن بمسؤولياته الساحقة، والتي تمثل "عبئا نفسيا هائلا" (ص:97). وفي المقابل، يمكن للمجموعات المهيمنة أن تفلت من هذه المهمة، وأن تتباهى بقدر أكبر من الاستقلال. إن التنظيم الاجتماعي يديم امتيازات هذا الأخير من خلال استغلال عمل الرعاية بالآخرين وجعله من اختصاص المرأة.

وهكذا.. فإنَّ السياق الحالي "للرأسمالية المتأخرة" أصبح فيه المنطق التجاري من يتحكم في مفهوم الرعاية؛ بحيث: "لم يعد بالإمكان معرفة الوضع بطريقة ملائمة"(ص:120). لذلك؛ من الصعب تحديد معنى الفعل الأخلاقي في السياق الرأسمالي. هذا يمكن أن يفسر، بالفعل، بالعديد من وجهات النظر حول العمل الاجتماعي، على سبيل المثال: هل هو وسيلة للتضامن أم وسيلة للتخريب الاجتماعي، أو وسيلة لاستمرار الهيمنة والإدارة غير المنتجة للآخرين؟منالصعب تحديد معاني جميع أنشطة العمل الاجتماعي وما يترتب عليها. كما توضح المؤلفة في سياق كتابها، يجب علينا بعد ذلك النظر مع أدورنو إلى أن احتمال وقوع فعل أخلاقي بالنسبة لتنظيم اجتماعي، لا ينبغي أن يقودنا إلى القول بأنه يحدث بشكل آليّ ومنهجي. لأنالبحثفي مجالات مختلفة من العمل الاجتماعي يدلّعلى الرغم من ذلك على تناقضات اجتماعية لا يمكن تفسيرها بسهولة، تقول المؤلفة: "الموقف الأخلاقي يرتكز على مواجهة الانزعاج من المفارقة"(ص:140).

أنجزتْ الكاتبة فيراريز كتابا قصيرا، لكنه شديد الكثافة من الناحية المفاهيمية وغنيٌّ جدا بالأطروحات التي تفند منطق وأسس الهيمنة الاجتماعية، وبأسلوب دينامي وحجاجي متجدد، إلا أن فهمه الكامل يتطلب القليل من الخبرة في القراءة الفلسفية عامة. وأطروحات أدورنو خاصة. وفي الواقع هذا ليس عائقا كبيرا، لأن الكاتبة تذلل الصعوبات من خلال عرض نقاط الانسجام والتناقض والتقاطع مع التيارات الفلسفية المختلفة ذات الإمكانات الحجاجية، خصوصا داخل بيت مدرسة فرانكفورت نفسها. عبر تقديم العديد من الحجج النقدية، ومن خلال المنظورات النسوية المناهضة للرأسمالية، يجمع عمل فيراريز بذكاء بين النقد الاجتماعي والأبحاث الفلسفية. يُمكننا أيضا تقدير عملية تقديم وتحديث بعض العناصر البارزة في فكر أدورنو والعديد من المؤلفين الذين تحاوروا معه في مجتمع غربي يقوّضه تآكل المعنى المشترك للأشياء، كما يمكننا الانتباه إلى أن مدرسة فرانكفورت مازالت أدواتها المفاهيمية قيّمة باستمرار، وإجرائية بفعالية لنقد المظاهر الاجتماعية المختلفة.

لابد من الإشارة قبل الختام إلى أنَّ الكاتبة لم تُشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أن أدورنو أخفق في المسألة النسوية إخفاقا كبيرا؛ فعندما كان يلقي محاضرته وربما كانت الأخيرة، عن علم الجمال بجامعة فرانكفورت في 22 أبريل عام 1969 واجه احتجاجا نسويًّا حادًّا، بدعوى أن نظريته لنقد المجتمع الرأسمالي ودواليب هيمنته لم تكن في مستوى تطلعات الحركات الطلابية الثقافية النسوية؛ إذ لم تهبط إلى أرض الواقع، وبقيت في برجها العالي. كانت الاتهامات بالرجعية والتواطؤ كفيلان بانسحابه من المحاضرة كسيرًا مهزومًا ومُحبطا، ليموت بعدها بشهور بأزمة قلبية.

وفي النهاية، نُشير إلى أنَّ كتابات إستيلا الأكاديمية تتسم بالجدية والجرأة على مناقشة موضوعات فلسفية واجتماعية مهمشة، يُركز عملها على النظرية النقدية للأخلاق، والاعتراف، والضعف، والنسوية، ومن بين أهم أعمالها نذكر: "الأخلاق والسياسة في الفضاء العمومي انطلاقا من هبرماس". و"أشكال الحياة من البيولوجي إلى الاجتماعي"، و"ما معنى النضال من أجل الاعتراف؟". وتشتغل إستيلا فيراريز أستاذة للفلسفة الأخلاقية والسياسية بجامعة بيكاردي جول فيرن. وقد كانت أستاذاً زائراً في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك، وحائزة على جائزة من مؤسسة ألكسندر فون هومبولت. وهي أيضًا نائبة مدير معهد النوع الاجتماعي وترتبط بمؤسسات بحثية دولية مختلفة.

---------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "هشاشة الاهتمام بالآخرين: أدورنو والرعاية الأخلاقية".

- المؤلفة: إستيلا فيراريز.

- الناشر: منشوراتENS، ليون، فرنسا، 2018م.

- عدد الصفحات: 149 صفحة.

 

أخبار ذات صلة