تأليف: جون لويس جاديز
عرض: فاتنة نبيل
يرجع مصطلح الإستراتيجية إلى اللغة اليونانية من الكلمة الإغريقية (Strato)، وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، فيما تعني كلمة (Strategos) فن الحرب أو التخطيط العسكري، ومن ثمَّ فقد ارتبط المصطلح في بدايته بالعسكرية وفنونها؛ حيث كانت تدل على رغبة القائد في وضع خطة مستقبلية من أجل الحصول على مكاسب وانتصارات، وتحقيق أهداف عسكرية مختلفة. ويختلف مصطلح "الإستراتيجية الكبرى" عن المفهوم البسيط لكلمة الإستراتيجية؛ إذ يشير إلى جميع الموارد التي يمكن أن تركز عليها الدولة: عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا؛ لتعزيز مصالحها الخاصة على الساحة العالمية؛ فالإستراتيجية بوجه عام تعني أصول القيادة، والتخطيط عالي المستوى، وقد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، وهي علم وفن التخطيط والتكتيك والعمليات.
ولا يُقدِّم المؤرخ البارز وكاتب السير الذاتية للحرب الباردة جون لويس جاديز، في كتابه "عن الإستراتيجية الكبرى"، دراسة تحليلية مقارنة، بقدر ما يقدم تاريخا عن الإستراتيجية على نطاق واسع على طريقة الدراسات الكلاسيكية التي انتهجها أنجلو كودفيلا، وإدوارد ميد إيرل، وويليامسون موراي...وغيرهم؛ إذ يُؤكِّد الكاتب في جل كتاباته عن الإستراتيجية أن "الإستراتيجية الكبرى" يجب أن تكون بعيدة عن المشاعر الذاتية، والأنا، والحكمة الأخلاقية التقليدية.
وقد سجَّل جاديز ملاحظته حول التشابه بين عدد كبير من القادة، مؤكدا أن كثيرا منهم كانوا عباقرة، منذ الجنرالات الذين قادوا الحملة الأثينية على صقلية، يوليوس قيصر في روبيكون، ونابليون وهتلر على حدود روسيا، وليندون جونسون في فيتنام، وتساوى جميعهم لديه في النجاح التكتيكي مع وجود إستراتيجية للهيمنة المستقبلية، لكنهم ضللوا أنفسهم في تقدير ما يملكون من مزايا مادية، ومعنوية؛ مما أدى بانتهاء الأمر إما إلى الموت أو الهزيمة. ويعدِّد أمثلة للإخفاقات الإستراتيجية؛ مثل: غزو زركسيس لليونان، ونابليون لروسيا، وأخطاء هتلر، وتجربة أمريكا في فيتنام، والتي عانت من طموحات غير محددة بدقة، ولم يكن هناك تحليل متماسك للقدرات المطلوبة، ونقص الحس السليم.
ويُؤكد جاديز أن أفضل طريقة لصقل التفكير الإستراتيجي هي فهم التفاعل بين التاريخ والأدب والفلسفة عبر ألفين وخمسمائة عام من الحضارة الغربية؛ فدراسة الإستراتيجية تتطلب الموازنة في فهم التفاصيل، والتواضع، كما تتطلب حكمة تتمثل في وجود خطط بديلة للحالات الطارئة.
إنَّ فهم المفارقة أمر ضروري للقائد؛ فتولستوي يرى أن الأشياء السيئة يمكن أن تأتي من النوايا الحسنة، والعكس، يرى جاديز أن أفضل الجنرالات هم الذين يعيشون ويتفاعلون مع المفارقات، وأشد الأخطار على الإستراتيجية هي الغطرسة، فهي ما جعلت الإثينيين الديمقراطيين يقومون بمهاجمة "سيراكيوز المحايدة والديمقراطية على بعد خمسمائة ميل، والغطرسة العمياء ذاتها جعلت "قيصر" يحاول إجبار الجمهورية الرومانية على الهيمنة العالمية دون إدراك كامل للنكسة التي لا مفر منها نتيجة الانتشار الواسع المساحة لمدة زمنية طويلة، وكيف تبدد الحلم -الإمبراطوري- على يد جيل ميت من مجلس الشيوخ الروماني، وفي القرن العشرين عُرف "ستالين" بسلطويته وقسوته، فأدَّت سياساته الاستبدادية إلى قتل الملايين من مواطنيه، وفي المقابل قام بنقل الاتحاد السوفييتي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي؛ مما مكَّن الاتحاد السوفييتي من الانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية والصعود إلى مرتبة القوى العظمى التي نافست الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، والتي انتهت بفوز الأمريكيين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
ويرى جاديز أن الإستراتيجيين العالميين الأكثر نجاحا برجماتيون، يتمتعون بالمرونة والصبر بما يكفي للاستفادة من الأحداث والفرص التي قد تتكشف بدلا من التوافق والتواؤم مع مخططات جاهزة مسبقا، ويتصيَّدون الفرص لاستغلال سقطات الأعداء والأصدقاء وزلاتهم.
لا يعتبر جاديز المسائل الأخلاقية أكثر من كونها الحكمة الذاتية والوعي الذاتي بتأثير القائد على من حوله، وتقديره للمفارقة، ويذكر رأي "القديس أوغسطين" في الحرب؛ فهو ليس لديه أي مشكلة مع الحرب إذا كانت هي الملاذ الأخير لإنقاذ الحضارة، والتي بدونها لا يمكن أن يكون هناك هدوء أو دين منظم، وأن مغازلة المخاطر المحسوبة أمرٌ ضروري؛ فالخطر ليس دائما خطرا عندما يكون تعبيرا طبيعيا عن المزايا الوطنية ويمزج بين الجرأة بالحذر.
ويُؤكد جاديز أن الأخلاق الحقة لا تشمل أي تدخل من الدين المسيحي، ولا تتطلب البحث عن طوباوية، بل إن الواقع يقول إنها طرق لخداع الملايين ومحكوم عليها بالفشل، وبدلا من ذلك يجب أن تنتهج القيادة الأخلاقية "فن الممكن" لتحقيق "الخير الأكبر"، فلم يقدم أوغسطين مدينة الله على مدينة الإنسان، مؤكدا أنَّ مدينة الله عند أوغسطين نص أدبي فضفاض، تتناوب فيه الدوامات الهوائية والملائكة والشياطين والأساطير والتاريخ مع بعضها البعض دون ترتيب معين.
ويرى جاديز أنَّ المسار الأفضل للولايات المتحدة الأمريكية هو حشد استعدادتها للأزمات التي لا يمكن تجنبها، مع الإيمان الكامل بأنه ليس من الضروري أن نكون مثاليين لكي نكون جيدين.
لاحظ جاديز أنَّ هناك دروسًا يُمكن أن نستفيدها من التاريخ؛ منها: أن التمدد المفرط وتوسع النفوذ واستخدام وسائل مربكة لتحقيقها، يسمح للأعداء ببسط نفوذهم، ويقدم أمثلة للتوسع مثل التوسع الفارسي في أثينا، والإسباني في القناة الإنجليزية والبريطاني في أمريكا، هذه الأمثلة على الطموح الإستراتيجي الخاطئ والتدخل العسكري غير المحسوب هي أكثر النقاط التي يلقي عليها المؤلف الضوء. ويربط بين التاريخ القديم والحديث لتقديم إرشادات عملية إلى الخبير الإستراتيجي المعاصر، فكما لاحظ ثوسيديديس -الذي يعتبر السلف الأصلي لمدرسة الواقعية السياسية- أن "الأقوياء يفعلون ما بوسعهم، والضعفاء يعانون مما يفرض عليهم"، يعلمنا التاريخ أن القوة لا تتحلى بالحكمة بالضرورة..
إن جاديز مفتون بالمخاطر التي خاضها رجال الدولة عبر التاريخ؛ فيتحدث عن فترة حكم "ويلسون" أول حاكم ديمقراطي يفوز بولايتين متتاليتين بعد "أندرو جاكسون"، ودخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في مايو 1917، عندما استأنفت ألمانيا حربها المفتوحة بالغواصات؛ فطلب "ويلسون" من الكونجرس إعلان الحرب من أجل "جعل العالم مكانا آمنا للديمقراطية". وأجرت الولايات المتحدة عدة عمليات عسكرية إلى جانب الحلفاء، رغم أنها لم تتحالف معهم بشكل رسمي. وخلال الحرب، ركز ويلسون على النواحي الدبلوماسية والمالية، وترك أمور الإستراتيجية العسكرية للجنرالات، وبالأخص الجنرال "جون بيرشنج".
أقرضت الولايات المتحدة المليارات من الدولارات لبريطانيا وفرنسا وغيرهما من الحلفاء لتمويل الجهود الحربية. وقام ويلسون بإقرار قانون الخدمة الانتقائي، فتم تجنيد عشرة آلاف فرد يوميا وترحيلهم إلى فرنسا بحلول صيف العام 1918، وفي الوقت ذاته لم يمنح اللجوء السياسي لـ"نيقولا الثاني" إمبراطور روسيا وعائلته عندما أطيح به في العام 1917. وعلى الجبهة الداخلية، قام ويلسون برفع الضرائب على الدخل، واقترض مليارات الدولارات من الشعب بشرائهم سندات الحرية، ورغم ذلك لم ينجح في إقامة سلام ما بعد الحرب -على حد تعبير المؤلف- وفي المقابل، يجسد إبراهام لنكولن نموذجَ البصيرة الإستراتيجية العميقة المصحوبة، بالعزم والتصميم، والجانب الأخلاقي، فقد قرأ بنهم، وطبَّق بشكل عملي مبدع دروس التاريخ، وأدرك أن الحرب الأهلية دامية وفظيعة التأثير، كما شدد على قيام الدولة الأمريكية بإنقاذ روحها الملطخة بالعبودية.
ويذكُر جاديز أن "فرانكلين روزفلت" كان يعتقد "أنه أنقذ الديمقراطية والرأسمالية"، وأدرك مبكرا أن الإمكانات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة يمكن أن تنقذ أوروبا وآسيا إذا تم إعداد الأمريكيين المترددين ماديا ونفسيا لحرب حتمية قادمة، كما تحدث جاديز عن الفخ الكارثي الذي وقعت فيه أمريكا خلال حرب فيتنام.. قائلا: "لقد أهلكنا علاج تلك الصدمة"، ويقدم تحليلات جورج بوندي مستشار الأمن القومي في حرب فيتنام كدليل على صحة رؤيته؛ فقد سجل بوندي تأملاته الخاصة في محاولة لفهم جوهر الالتزام بحرب لا يمكن الفوز بها، وكتب بوندي "أن المبدأ الأساسي للتدخل في فيتنام" هو "ألا تكون نمرا من ورق"؛ فبالنسبة لبوندي يتفوق مفهوم المصداقية على شرط النصر، وأنَّه مهما كان الفشل والخسائر ستكون أفضل من عدم التدخل على الإطلاق.
ويرى جاديز في نجاح الملكة إليزابيث خلال القرن السادس عشر في توطيد حكمها مخططا إستراتيجيا رشيقا ومحكما، يتميز بتناغم الأضداد، والثبات على الوطنية، وإصرار الملكة على الحفاظ على تحقيق الغايات المرجوة في حدود الوسائل المتاحة، ويؤكد أن إليزابيث كانت قاسية ونفعية عهدت للسير فرانسيز فاليسنجهام وزارة الخارجية عام 1573، وأمرته بفعل كل ما هو ضروري لحراسة الملكة والوطن، وبينما كانت الملكة اليزابيث منضبطة وماهرة، كان نابليون عبقريا، لكنَّه أصيب ببجنون العظمة، وتعتبر حرب فرنسا ضد روسيا جزءا من الحروب النابليونية، فقد سعى للانقضاض على القيصر الكسندر، واجتاح القائد الفرنسي موسكو في يونيو عام 1812 محاولا العثور أي شيء ذي قيمة إستراتيجية.
يسخر جاديز قائلا "إن أعظم عبقرية عسكرية بعد يوليوس قيصر، في حربه على روسيا، كان كالكلب الذي طارد سيارة فانفجرت فيه"، فقد كان مصير الجنود الفرنسيين البالغ عددهم ستمائة وخمسين ألفا، والذين اقتحموا العاصمة الروسية هو الفشل، وبحلول شهر ديسمبر تلاشى جيش نابليون، ولم يتبق منه سوى سبعة وعشرين ألف جندي؛ بسبب عدة عوامل؛ منها: اتباع ألكسندر الأول سياسة الأراضي المحروقة؛ مما أدى لنفاد مؤن الجيش الفرنسي، والشتاء الروسي القارس؛ فبدأ الجنود الفرنسيون يتساقطون بسبب الجوع والبرد، وكمعظم الحروب التي خاضها نابليون، بدلًا من أن تدعم تلك الحرب سلطة نابليون، زادته سوءًا بعد هزيمته وخسارته لمعظم جنوده، فقد كان في اعتقاد نابليون أنه حين يحتل روسيا سيضغط على إنجلترا من أجل المفاوضات، عن طريق إجبار إمبراطور روسيا ألكسندر الأول على وقف طريق التجارة بين روسيا وبريطانيا. أما الهدف الذي أعلنه نابليون، فهو تحرير بولندا من الروس.
يُقدم كتاب "الإستراتيجية الكبرى"، قاعدة في التخطيط الإستراتيجي هي "أنك إذا كنت تبحث عن أهداف تتعدى إمكاناتك، فعاجلا أم آجلا سيتعين عليك تقليص تلك الأهداف لتناسب إمكاناتك".
ويعيب جاديز على المؤرخين الأكاديميين في أن أبحاثهم ضيقة، ويهملون العلاقات بين العام والخاص، والمعرفة العالمية والمحلية التي تغذي التفكير الإستراتيجي، كما لو كانوا يتعمدون التعتيم على هذا القصور.
ويوضع مجلد "الإستراتيجية الكبرى" جنبًا إلى جنب مع دراسة بول كيندي تحت عنوان "إستراتيجيات كبرى في الحرب والسلام"، والتي تناول خلالها إستراتيجيات في الأدب والنظام السياسي، والنظام العالمي. ويهدف كتاب جاديز إلى التنبؤ بمستقبل أمريكا المشرق في ضوء ما كانت عليه عند تطبيق إستراتيجية كبرى ناجحة، وأصبحت من خلالها قوة عالمية بارزة في القرن العشرين، وتفوَّقت في صراعين عالميين، إضافة إلى الحرب الباردة، وعلى النقيض من ذلك أدى إهمال المتغطرسين من القادة للفكر الإستراتيجي إلى الغوص في مستنقعات ما بعد الحرب، ومعاناتها من الركود والعواقب المتضاربة التي غالبا ما استنزفت الموارد الأمريكية، ووضعتها أمام أهداف مستحيلة، وكادت أن تؤدي إلى تمزق البلاد على مدى السبعين عاما الماضية.
يقدم جاديز مجموعة دقيقة منتقاة من المفكرين والكتاب والملوك والغزاة، بمن فيهم ميكافيللي وكارل فون كلوزويتس، ومارك أنطوني ويوليوس قيصر، وتولوستوي وشكسبير، والمفكر السياسي إيزايا برلين، والعسكري الصيني الإستراتيجي صن تزو، الذي يسخر المؤلف من تعميماته غير الدقيقة، وف. سكوت فيزجرالد، كما يقيم لويس جاديز الإستراتيجية بين الممارسة والنظرية عند هيرودوت، وأوكتافيان، والقديس أوغسطين، وميكافيللي، وإليزابيث الأولى، وتولستوي، ولينكولن...وغيرهم.
يُمكن القول إن كتاب "الإستراتيجية الكبرى" هو كتاب مُميَّز للمهتمين بفن القيادة؛ إذ إنه يعالج تحديات إستراتيجية طويلة الأجل في مجال السياسة والتغيير الاجتماعي، ويعتمد على دراسة التاريخ والكلاسيكيات والفكر السياسى كأدوات أساسية لفهم العالم المعاصر، ويستكشف كتاب "الإستراتيجية الكبرى" كيفية الوصول لغايات وأهداف بعيدة؛ من خلال وسائل محدودة، سواء في الصراع العسكري، أو السياسة الخارجية أو الداخلية، أو الحركات الاجتماعية، ويطرح مجموعة كبيرة من وجهات النظر في القضايا الأمنية؛ سواء الأمن القومي أو الأمن العالمي أو الضمان الاجتماعي. ويهدف إلى تطوير قدرات المهتمين ليس فقط بتحليل الماضي والحاضر، بل أيضا بتعزيز قدراتهم ليكونوا مواطنين مسؤولين في المستقبل.
------------------------
التفاصيل :
- الكتاب: "عن الإستراتيجية الكبرى".
- المؤلف: جون لويس جاديز.
- الناشر: آسبن، الولايات المتحدة الامريكية، 2018م.
- عدد الصفحات: 368 صفحة.
