تأليف: توماس داندوا وفرانسوا تريغان
عرض: وليد العبري
اللافت في هذا الكتاب كثيرٌ، بدْءاً بعنوانه الذي جمع بين كلمتين "داعش وأقوالهم". فلطالما كان الداعشيون ما يتكتمون على الكشف عن هويتهم، فما بالك بالكشف عن العديد من الأقوال والبراهين والأدلة! وكانت هذه الشهادات استثنائية، وهذا ما حاول الكاتبان توماس داندوا وفرانسوا غزافييه تريغان أن يبيِّناه للعالم عن تصرفات جماعة داعش الإرهابية؛ وذلك من خلال مقابلة العشرات من الفارين سرا من تنظيم الدولة الإسلامية كما يطلقون على أنفسهم، وتمَّ من خلالها إرفاق العديد من رسائل هؤلاء الفارين في الكتاب، لتوضيحها للعلن، وتكشف المستور عن خبايا هذا التنظيم الجائر، وكذلك تحدث الكتاب عن طبيعة الدين الإسلامي المعتدلة، وأن هذه الفئة الضالة لا تمت للإسلام بصلة.
"لديَّ رسالة لنقلها إلى أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالدولة الإسلامية، لأولئك الذين يريدون الانضمام إليهم: استيقظ! إنها ليست دولة إسلامية، هي دولة لا إسلامية، هذه الدولة لا تحكم وفق مبادئ الله؛ لا تنخدع! نحن السوريون الذين انضموا إلى داعش، شاهدوا ما لا يمكن تصوره، أصبحنا مطاردين في كل مكان، لا نعرف كيف سيكون يوم غد، لم نعد نستطيع عيش حياة طبيعية كما يفعل الآخرون، أقول لأولئك الذين بقوا هناك في سوريا أو العراق مع داعش، أنصحك أن ترحل فورا، هناك الكثير من الناس يمكنهم مساعدتك على الخروج من هناك، في أحلامي، أرى الدم، حتى في أحلامي، أرى نفسي أني اذبح إنسانت، آمل أن أنسى، آمل أن يكون مستقبلنا أفضل".بهذه الرسالة نبدأ مقالنا؛ إذ كتبها أحد الفارين من تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وهي شهادة قوية ومُقلقة من كاتبها أبو أسامة، ذي الثانية والثلاثين، من الرقة السورية. ونلحظ من خلالها الحسرة والحزن والأسى على ما قام به هناك مع هذا التنظيم الإرهابي الذي لا يُمثل الدين، ولا يحكم وفق ما أمر الله؛ إذ يسعى في الأرض الفساد والدمار، وترهيب الكبار قبل الصغار.
هذا الكتاب مُقسَّم إلى قسمين؛ في الجزء الأول يتحدث فيه الكاتبان عن اجتماعتهما مع محمود وأبو شجاع، اللذين يديران خلية بهدف استخلاص الناس من تنظيم داعش، بعد أن كانوا هم أنفسهم المسؤولين عن تقسيم الثوار في مدينة الرقة السورية، العاصمة السياسية والعسكرية للمجموعة الإرهابية، وهي إحدى كتائب الجيش السوري الحر، المنشق عن الجيش السوري الوطني. أما الجزء الثاني، فتحدثعن مصادر تنظيم داعش، ومعرفة طبيعة الحياة اليومية لديهم، وما هي أساليبهم وطرق عيشهم.
أما عن الجزء الأول، فقال توماس داندوا وفرانسوا تريغان إن العملية كانت طويلة ومحفوفة بالمخاطر، فبمجرد انطلاق العملية، سيكون الوقت قد فات لتغيير رأيك، والعودة مجددا إلى نقطة البداية. وقال المؤلفان إنهماالتقيا بمحمود وأبو شجاع في العديد من المناسبات، مع أتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر لكي لا يتم كشفهما في كل موعد، وكذلك لا يتم كشف محمود وأبو شجاع عند تنظيم الدولة الإسلامية، وما يرغبان في القيام به، استغرق الأمر عدة أشهر حتى يتم تصفية المرشح المعلن، الذي سيمكن عند التخلص منه استخراج الناس من التنظيم الإرهابي، كما هي الحال في كل حرب، وأن هناك العديد من الطرق الخداعية، التي تم رسمها سابقا، وقال أبو شجاع: "نفهم أن هناك طرقا مختلفة لشن الحرب، يمكن أن يؤدي القتال غير المسلح بدون رصاص إلى أضرار أكبر بكثير لخصم مثل داعش"؛ مما يعني في ذلك الفشل الذريع وسهولة اختراق صفوفه بأقل الأساليب الممكنة، ولكن الوقت لا يدعو للمجازفة، لأنه في حالة تم كشف المخطط، ستذهب أرواح كثيرة من البشر؛ إذ إنَّ تنظيم داعش لا يأبى أو يتردد في قتل الناس مهما كانت أفعالهم، وكأن الرحمة والإنسانية قد نُزعت من قلوبهم، لا نريد أن نقول إنها فعلا أحدالشروط الرئيسية للانضمام إلى تنظيم داعش.
وقد نجحت هذه الشبكة السرية في العديد من المحاولات لتهريب المقاتلين الذين يريدون الفرار من تنظيم الدولة الإسلامية، والتي تقع على بعد 60 كم من جنوب شرق تركيا، ولكن اكتشفت الجماعة الإرهابية هذه الشبكة وحاولت النيل منهم، واستطاعت القبض على بعض الهاربين وتصفيتهم، ولكن لا يزال العديد من المقاتلين الذين يسعون للهرب من تنظيم داعش، لهم أسبابهم؛ منها الخوف من قبضة الجيش الوطني، الذي بدأ يحكم سيطرته على المناطق المحتلة، وكذلك تأنيب الضمير الذي لحق بهم، بعدما عاثوا في الأرض فسادا ودمارا.
وهذا ما صرَّح به محمود وأبو شجاع، أنه من أسباب انضماهما إلى تنظيم الدولة سابقا هو سهولة إعدام الناس بدم بارد، سواء كان مذنبا أو لا، سواء كانت أمراة أو رجلا، شيخا كبيرا أو طفلا، اقتل ولن تُسأل أبدا عما فعلت، ولماذا قتلت، وهو ما دَعَا محمود إلى إعطائه بعض القيادات لترؤس بعض المهام، بعد كثرة الإعدامات التي قام بها، وهو ما جعله نادما على فعلته، والسعي لتصحيح فعلته، من حيث تخليص وتهريب المقاتلين الذين يُريدون الفرار من هذا التنظيم. ويعترف أبو علي -صاحب 38 عاما- الذي كان حارسَ سجن الخلافة السابق، والذي أصبح هاربا في الوقت الحالي قائلا: "إنها رحلة بلا عودة" لما شاهده من ويل التعذيب، المتجرد من الإنسانية، تعذيب الناس بلا سبب، وباستخدام أقسى وأشد أدوات التعذيب، والتي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء الذين لا ذنب لهم في ذلك أبدا.
البعض يسأل: إذن، لماذا انضمَّ هؤلاء الناس إلى التنظيم في بادئ الأمر؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمُن في شقين؛ الأول: رآه بعض ضعفاء القلوب أنه يتانسب مع نفوسهم القاسية، إذا يعلمون أنهم سيحصلون على السلاح والمال والسبايا، وهذا ما يطمحون له. أما الشق الثاني من الجواب، فيكمن في اعتقادهم أن هذا التنظيم "معتقد ديني قوي جدا"، وأنه أسس لرسالة سماوية، تهدف لتكوين دولة إسلامية لا تشوبها شائبة، دولة تحمل أسمى المضامين الإسلامية الحنيفة. ولكن سرعان ما خاب ظنهم، واكتشفوا وراءه الوعود الكاذبة، والرسائل المزيفة، اكتشفوا أنها من دولة تريد تطبيق الإسلام إلى دولة تريد أن تصنع التوحش، وهذا ما قاله حذيفة -صاحب 28 عاما- وأحد الهاربين من تنظيم الدولة الإسلامية، وكان أميرا لإحدى نقاط التفتيش، يقول: "إن الدولة الإسلامية دمرت آمالنا، أردنا دولة إسلامية، لكنها صنعت دولة غير إسلامية، أضاعت سمعة الإسلام والمسلمين، هناك كلهم فاسدون، لن يكونوا قادرين على تغيير عقولهم، أتمنى أن يذهبوا إلى الموت".
وعند الحديث عن الشق الثاني من الكتاب، يتحدث الكاتبان عن الأموال التي حصل عليها تنظيم داعش؛ إذ قُدرت بأكثر من 500 مليون يورو، كانت مُوْدَعة في البنوك، كما استولى التنظيم على آبار النفط، واحتياطي الغاز الطبيعي، والفوسفات، والقمح والشعير...وغيرها من المواد الأخرى، وقاموا بفتح خطوط بيع مع دول أخرى بسعر أقل من السعر العالمي، ويمكن القول إنَّ تنظيم الدولة الإسلامية أصبح مُنظمة غنيَّة برأس المال الكبير الذي تحتويه، وأصبحت توفر قاعدة إدارية شبه حكومية.
وعن نجاح داعش في تجنيد مقاتلين أجانب، يشير توماس داندوا وفرانسوا تريغان بقولهم: لعل من فضائل داعش أيضا معرفتها بما يسمى "المهاجرين"، مُستواهم الثقافي والسياسي ضعيف جدا، ويكاد مُستواهم لا يتجاوز الصفر، ومحدودية وعيهم الديني، والمشكلات الذاتية، والموضوعية التي حولتهم لمشاريع انتحار.لهذا يتعامل تنظيم داعش معهم كالقطيع،إذ يقوم بغسيل عقولهم، واتبع سياسة لاستقطابهم تقوم على قواعد بسيطة:المال والسلطان وزينة الحياة الدنيا، اضرب الرأس تلحق بك العناصر، الأحسن يُصاهِرنها، والباقي يلتحق بالحور العين. ولا شك أن للضباط السابقين في الجيش لدول أخرى دورا مهمًّا في فرز الأفراد والجماعات، وتوظيف واستيراد الغرباء لمشروع "الخلافة"، وعن بداية نشوء التنظيم، يُمكن القولإنَّه لم يكن يوجد لدى أبو مصعب الزرقاويمُؤسس تنظيم داعش في جعبته السياسية والأيديولوجية ما يسمح له بدور مهم في تطوير البلد، أو تقديم تصوُّرات خلاقة لواقع ومستقبل الناس الذين بايعوه، وقد غطى ضحالته الفكرية بشراسته العسكرية، ويمكن القول إنَّه التعبير الأفضل لما يُسمِّيه بالمتخلف، هذه الحالة التي تتجسد في ادعاء علماء النفس حالة النقص إلى الأحيائية، الحق المطلق وامتلاك القدرة على فرضه من حوله، وإسقاط كل شبهات ضعف الذات بيقين شيطنة الآخر.
كذلك تحدَّث الكاتبان عن الفارق بين الدين الإسلامي السمح، وبين تنظيم الدولة الإسلامية، إذ إنَّ الدين الإسلامي بعيد كل البعد عن كل ما يقوم به تنظيم داعش، ولا يمثل العقيدة الإسلامية أبدا، إذ استغل بعض المعادين للإسلام تنظيم الدولة الإسلامية وتصرفاته وأسقطها على المبادئ الإسلامية والعقيدة السمحاء؛ بحيث يؤثر على المجتمعات الغربية هناك، ويُسقط هيبة الإسلام والمسلمين، وأن ما يقوم به تنظيم داعش هو ما تحدث عنه الإسلام، ولكن الكتاب يحارب ذلك، ويدعو الناس إلى التفريق بينهما، إذ إنَّ كل الدول الإسلامية تحارب هذا التنظيم، وتعتبره تنظيما معاديا للإسلام، ويسعى لنشر الخراب والفساد في الأرض.
يُمكن القول إنَّ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بدأ يموت، إذ فقد الكثير من أراضيه، خسر الكثير من أمواله، فقد المصادر الطبيعية التي كان يعتمد عليها سابقا كآبار النفط والغاز والفوسفات، تم قتل والقبض على الكثير من المسؤولين الكبار في التنظيم، وذلك بمشاركة العديد من الدول، عملت الدول على التصحيح ونشر المعلومات الحقيقية عن طبيعة التنظيم الإرهابي لمواطنيها، لتجنبهم الالتحاق به، وهذا ساعد على تقليل التوافد على هذا التنظيم، تمت السيطرة على معبر رئيسي على الحدود التركية-السورية، كان نقطة عبور الملتحقين الجدد بتنظيم الدولة الإسلامية، وقامت شركات متخصصة في التواصل الاجتماعي بوقف الحسابات التابعة لهم، لتجنُّب غسل عقول الناس بها.
ومن القصص الجميلة التي تحدَّث عنها الكاتبان، وأثارت انتباهي، أنه في أحد الأعوام السابقة تمَّ القبض على أحد كبار المدبرين في تنظيم الدولة الإسلامية، سعى الكاتبان إلى إجراء مقابلة معه؛ وذلك بالتحدث مع المسؤولين والجمعيات المدنية الرسمية، وإيضاح الفكرة العامة من هدف المقابلة، ولكن تم رفض الطلب، بعد العديد من المحاولات، وهذا ما أثار غضبالكاتبين؛ إذ قالا: يجب على المسؤولين التصرف بجزء من العقلانية، والتفكير في الأبرياء، ربما هذه المقابلة ستكشف الكثير من الخبايا، التي ستساعد الناس على الابتعاد عن هذا التنظيم الإرهابي، وعلَّقوا أيضا بأنهؤلاء المسؤولين سوف يتحملون جزءا كبيرا عندما يُقتل الأبرياء من قبل تنظيم داعش.
وأنا شخصيًّا أرى هذا الكتاب من أفضل الكتب التي قرأتها هذا العام، لما يتمتَّع به من قوة في السرد والإيضاح، وكذلك المخاطرة الكبيرة التي قام بها الكاتبان لمحاولة الحصول على المعلومات من قلب المصدر، دون الاعتماد فقط على المصادر الأخرى، وكذلك الصبر الطويل في التعامل مع العناصر الفارة من التنظيم، وكل ذلك بهدف إيصال رسالة للناس عن خبايا هذا التنظيم الجائر، وعدم الانجرار وراء رسائله الزائفة، التي تسعى لكسب ضعاف العقول، وممَّا أوضحه الكاتبان وسعدت به جدا هو طبيعة الإسلام والمسلمين على الوجه الحق، والدفاع عنهم، ونأي هذا التنظيم اللا إسلامي عن المسلمين، وأنه لا يمثل الإسلام مطلقًا.
أكتب هذا المقال وأنا أسمع وأشاهد من المكتب الذي أجلس عليه، لاجئين سوريين يصطفون عن مدخل الصليب الأحمر للحصول على المساعدات في مدينة إنسبرونك النمساوية، وهذه هي أحد نتائج تنظيم داعش الإرهابي، التي نفَّرت المواطنين وهجَّرتهم من بلدانهم.
--------------------------
التفاصيل :
- الكتاب: "داعش: أقوال الهاربين".
- المؤلف: توماس داندوا، وفرانسوا تريغان.
- الناشر: دار غاليمار، فرنسا، 2018م.
- عدد الصفحات: 192 صفحة.
