تأليف: جاك ليونز وباري ورد
عرض: فينان نبيل كاتبة مصرية
اكتشف علماء النفس مؤخرا أن العديد من أخطاء التفكير، تأتي غالبا من أخطاء تتعلق بالحقائق غير الموثوق بها، وليست ناتجة عن استخدام المنطق التقليدي، خاصة أنّ التقدم التكنولوجي وما نتج عنه من مواقع معلوماتية وإخبارية قدم الكثير من المعلومات المزيفة، والعلوم المسيسة على أنّها حقائق. ففي عصر الانترنت أصبح من اليسير تداول معلومات مزيفة، وقام غير المتخصصين بأدوار الصحافيين والمحللين استنادا إلى آرائهم واتجاهاتهم الشخصية والتي تم بناؤها على خبراتهم الحياتية الخاصة دون تقدير حقيقي لهذه الخبرات.
وفي هذا الكتاب اتبع المؤلفان نهجا جديدا لتجاوز التحديات التقليدية التي تواجه "التفكير النقدي"، مثل مفهوم صلاحية وصدق الأدلة، وإعادة بنائها، وصياغة الحجج، والتفكير التنبؤي، وناقش الكتاب موضوعات هامة كانت مهملة مثل طبيعة العلم ومصداقيته، والخطابة والديالكتيك.
ويكتسب الكتاب أهميّة كبرى إذ أنّه يطبق التفكير النقدي على تقييم مصادر المعلومات، وتقييم الحجج المنطقية مع التركيز على طرق التمييز بين أنواع الفروض والاحتمالات المنطقية، وكيفية تجنب الحكم على الحجج الزائفة بأنها صحيحة، مشيرا إلى أنّ السبب في ذلك يرجع إلى تناول قواعد الاستدلال والحكم على الحجج المنطقية من وجهة نظر سيكولوجية ومعرفية بدلا من استخدام الطرق المنطقية أو الرياضية، وموضحا كيفية التغلب على البقع العمياء في التفكير، وهي تعني الموضوع الذي يكون الإنسان جاهلا به أو متحيزا له أو ضده.
والواقع أنّ التدرب على الانتباه إلى البقعة العمياء لدينا يعد أساسيًا في التأكد من صحة الأحكام التي يصدرها المرء والقرارات التي يتخذها. كما تظهر أهميته كذلك في إدخال التغيرات المنظمة التي يحتاج إليها المجتمع بصورة عامة في الوقت الحاضر، وهي آلية مفيدة في الاستدلال الاحتمالي.
يركز الكتاب بشكل عام على أنواع الحجج وأخطاء الاستدلال ويفترض أنّ تلك الأخطاء قد تنتج عن أمرين، الأول خطأ في تشكيل المعتقدات ينتج عن افتقارنا للمعرفة الجيدة التي تمكننا من التخلص من الحجج المعيبة. والأمر الثاني: ذهب إليه علماء النفس مثل" دانيال كهيمان، وآموس تفريسكي"، وهو أن هناك جذورا سيكولوجية للمعتقدات الخاطئة، رافضين فكرة أن المعتقدات الخاطئة تنشأ عن استدلالات غير حقيقية. لم يغفل الكاتبان أنّ هناك حالات قصوى مثل أمراض الخلل العقلي قد تؤثر على المعتقدات، فهناك بعض الاختلالات في التوازن الكيميائي للمخ يمكن أن يؤثر على أفكار، ويوهم بالضلالات، وهنا يبرز الدور السيكولوجي في تشخيص ما يعرف "بالخلل الدماغي".
طرح الكتاب عددا من الأسئلة حول المعتقدات، ماهيتها وهدفها وأسباب صحتها وإلى أي مدى يمكن أن تخضع لسيطرتنا، وتم تعريفها "بأنّها أشياء نعتقد أنها صحيحة"، وحاول الكاتبان إيجاد علاقة صريحة بين المعتقدات والحقيقة، وذهبا إلى أننا ربما نتبنى معتقدات دينية لنبدو مثاليين أمام مجتمعاتنا وعائلتنا، أو لتجنب دخول النار، وقد نتبنى معتقدات خيرة، ونقدم الخير لكثير من الناس إما لنحصل على ثواب أو ليصفنا المجتمع بالخيرية، وربما ينتج قصور تفكير الإنسان عن المعتقدات، فقد تؤثر معتقدات أخلاقية على أفكارنا، ولكن يجب الانتباه إلى أن ما يبدو أخلاقيا من جهة قد يكون لا أخلاقيا من جهة أخرى، وهنا يكون تطبيق المعتقدات على الواقع أمرا ضروريا لاختبارها، فعلى الرغم أن سلوكنا محكوم بمعتقداتنا، إلا أن معتقداتنا محكومة أيضا برؤية العالم الحقيقي لها، وحكمه عليها باعتبارها صحيحة أم خاطئة.
يعاني الناس مما يعتقدون أنه صواب ويفترضون أنه الشيء الوحيد الصواب في العالم فلماذا يعتقد الناس أن أمرا ما صحيح؟ هناك عدة أسباب منها أن شخصا ما أخبرهم بذلك، أو لأنّ اعتقادهم الأخلاقي يقودهم لذلك، بينما يؤكد المؤلفان الطريقة المثلى التي تجعل المعتقدات أقرب للصواب وهي أن يكون الهدف الرئيس للمعتقدات، متوافقا مع المعرفة، وتعني كلمة "معرفي" "أن تتعلم وفقا للمعرفة" فتدرس "الابستمولوجيا" المعرفة وعلاقتها بالمعتقدات.
يركز الكاتبان على الجانب المعرفي، ويتجنبان الاعتبارات النفعية والبرجماتية والأخلاقية وذلك ليس لعدم أهميتها ولكن لأنها تفرض تساؤلات يصعب الإجابة عنها، فقد تدفعنا المعايير البرجماتية لاتجاهات مغايرة لما هو أخلاقي فما العمل آنذاك؟! فعلى سبيل المثال قد تدفع الاهتمامات العملية والمهنية والبرجماتية لإقناع العملاء بسلعة أو أمر ما ويبدو الأمر ظاهريا أمرا طاهرا بريئا، ومن الناحية المعرفية تشير الدلائل أن الأمر به عيوبا أو ينطوي على ما هو غير أخلاقي.
تحدث الكاتبان عن قائمة من الأمور الهامة تساهم في تشكيل المعتقدات مثل: التربية والتنشئة، والتكرار، والعواطف. وفيما يتعلق بالتنشئة نجد أن الكثير يعتنقون وجهة نظر سياسية لمجرد أن الوالدين يعتقدان بها إن لم تكن لديهما دلائل تجعلهما يعتقدان بأمور أخرى. كذلك تلعب العواطف دورا في ردود أفعالنا تجاه المعتقدات الدينية والسياسية، فإذا كنت تحب شخصا ما ستكون أكثر ميلا لتصديق ما يقوله لك أكثر مما لو كنت لا تحبه، وهو أمر غير مفضل تماما في البناء العضوي للأدلة، كما يستمد بعض الناس إحساسهم بالهوية من عضويتهم في جماعات من ثقافات معينة، أو انتماءات دينية أو تشجيع ناد أو حزب لهذه المجموعات تجعلنا نميل للاعتقاد بما تقدمه لنا هذه التجمعات .يؤكد الكاتبان ضرورة التعامل بحرص تجاه التكرار، فعندما يريد الساسة والمعلنون إقناعك بأمر ما، فإنهم يكررون الرسالة مرات ومرات لأنهم يعلمون أن التكرار يجعل المتلقي يميل إلى الاعتقاد بصحة الأمر، في حين أنّه أبعد ما يكون عن ذلك.
حدد الكتابان نظامين للتعرف على ما هو حقيقي، وما هو مضلل في المعتقدات، الأول: هو "الحدس" وهو ما يشعر به الإنسان استنادا إلى غريزته، وهي عملية تتميز بالسرعة والتلقائية، ولا تقدم لنا طريقة وصولها إلى الحقيقة، فهي تجيب عن الأسئلة دون أن تخبرنا عن كيفية توصلها لتلك الإجابة، دون تبرير وبلا وعي، ولذلك سمي "حدسا" ومن أهم عيوبه عدم القدرة على معالجة مشاكل متطورة أو جديدة، كما أنّه لا يستطيع أن يقدم خطوات واضحة للحصول على نتيجة عكس ما يحدث في الرياضيات التي توضح جميع خطواتها كيفية الوصول للنتائج.
النظام الثاني: "المنطقي" وهو علم الاستدلال ويهتم بدراسة المناهج والمبادئ المستخدمة في تمييز التفكير الاستدلالي الصحيح عن التفكير الاستدلالي غير الصحيح، ويتسم بأنه واعٍ، محكم، بطيء، متعمد، نبذل فيه جهدا، وقادر على حل مشكلات جديدة على نطاق أوسع. ويوضح الكاتبان كيفية عمل هذا النظام، وكيفية استخدامه، وما هي الخطوت التي توصلنا خلالها لحل المشكلة. كما أنّ النظام المنطقي له مصطلحات هامة ذات معنى محدد.
يُشبه الكاتبان النظامين برياضتي "التنس والشطرنج"، فيريان أنّ لاعب التنس يعتمد بصورة كبيرة على "الحدس" في ضرب الكرة بتحريك عضلة مع استرخاء عضلة أخرى، فهو يعمل كالطيار الآلي في الطائرة، فلا وقت للتفكير، والتركيز يكون على المجهود البدني، بينما لاعب "الشطرنج" لا يستطيع اللعب بشكل آلي، ويجب أن يتعقل بكل وعي ممكن كل حركة، والتفكير فيما قد يفعله الخصم استجابة لتلك الحركة، مع تقبل قواعد اللعبة وإخبار الآخرين لماذا قمنا بحركة دون غيرها، فالتنس يشبه "الحدس" بينما يتشابه "الشطرنج" مع المنطق. فالمنطق عموما يوظف قواعد الوعي ويترجمها ويلتزم ببدء العملية وإنهائها.
يرى الكاتبان أن من أهم أسباب استخدام الاستدلال المنطقي محاولة إقناع الآخرين والتأثير على معتقداتهم؛ فقد يكون أمرا جيدا أن تجد أشخاصا يتفقون معك في وجهات النظر والتوجهات، فتلجأ لتقديم الحجج اللائقة والمناسبة لذلك، وهنا يستخدم التفكير النقدي في تقييم تلك الحجج.
المنطق يقدم لنا معتقدات تبدو معتمدة ومضمونة، ويمكن التحقق منها، بينما الحدس غير موثوق به لعدم استطاعة معرفة صحة نتائجه أو خطئها، وأي هذه النتائج قد استند إلى الحكمة أو اعتمد على خبرات سابقة مضللة، ويمكن القول أنّ ما يقدم ضمانا للثقة في المنطق هو تلك القواعد التي يتبعها وهنا يكمن الفرق بين الحدس والمنطق.
يرى الكاتبان أنّ قواعد المنطق يمكن تعلمها ببساطة عن طريق القراءة والفهم والتذكر، وهو ما يجعله قابلا للتدرب عليه، بينما الحدس لا يمكن التدرب عليه. والغرض من هذا الكتاب هو المساعدة على التدريب على قواعد المنطق وتحسين طريقة التفكير؛ ولذلك ركز الكاتبان على النظام الثاني وهو المنطق، وإن كانا لا يستبعدان الحدس تماما ولكنهما يعتبرانه طريقة فردية مفرطة في التبسيط قد يقود استخدامها إلى تضليل في طريقة التفكير.
اختلف الباحثون حول جدوى وجود نظام مزدوج يمزج بين الحدس وطريقته اللاواعية في حل المشكلات، والطريقة المتأنية المؤسسة على قواعد، ويكون مجال هذه النظرية البحث الأمبريقي.
المنطق هو فعل عقلي واع يتم داخل العقل، يُعبر عنه لفظيا في صورة حجج قيمة، ووحدة بنائه الحجة، وهي تتألف من واحدة أو أكثر من المقدمات المنطقية، والنتائج، وتقدم لنا المقدمات أدلة لصحة النتائج. وبما أن المنطق بناء من الحجج، فإن قوة الحجة أمر حاسم لتشكيل المنطق.
اهتم الكتاب بالعلاقة بين الحجج المنطقية والحياة الواقعية وكيف يحاول الناس إقناع بعضهم البعض، وتحدث عن البلاغة والقدرة على الإقناع، وقدم الكتابان مقدمة عن المنطق وأنواع الاستدلال " الاستنباطي، الاستقرائي" مؤكدين أن هدفهما هو الوصول إلى يقين مستند لأدلة ناجزة ونهائية.
أفرد الكتاب جزءًا لتقييم الحجج وصلاحيتها وكيف تدعم المقدمات النتائج مصحوبا بالعديد من الأمثلة على الحجج الصحيحة والفاسدة، مؤكدا أن الحجة الاستنباطية تضمن صحتها المقدمات، فما دمنا سلمنا بصحة المقدمات، تأتي النتيجة صحيحة يقينا، أما الحجة الاستقرائية لا تضمن مقدماتها صحة نتائجها بشكل يقيني مطلق، فهناك أسباب أخرى لصحتها تتعلق بمطابقتها للواقع.
ومن أهم شروط صحة الاستدلال أن تلزم النتيجة التي توصلنا إليها عن المقدمات المستخدمة، وأن تشكل أسبابا وجيهة لقبول النتيجة، ويحتاج ذلك لتنمية المقدرة على التمييز بين أساسيات النتيجة وهو أمر يحتاج لصقل وتدريب. يرى الكاتبان أن هناك أدوات تساعد على اختبار الصدق من الناحية المنطقية، وذلك بالرجوع للخلفية المعرفية، فكيف لنا أن نحكم على صحة المقدمات والنتائج دون خلفية معرفية، فهناك حجج لابد أن تستدعي الخلفية المعرفية.
يحتوي الكتاب على أفكار أبستمولوجية تغيب عن الكتابات الأخرى للتفكير النقدي ولا غنى عنها لتقييم الجدل في العالم الواقعي، ويتحدث عن دور الهوية المعرفية في تقييم الحجج.
يعتبر هذا الكتاب من أوائل الكتب التي تعترف بالفجوة بين النظرية المنطقية في تقييم الصحة الاستنتاجية "للاستنباط والاستقراء المنطقيين" و"الممارسة الواقعية في الحياة اليومية"، حيث نفشل في تقييم الحجج الواقعية على أسس الاستدلال المنطقي، ومحاولة تطوير استراتيجية فعالة للتغلب عليها.
إنّ " كتاب التفكير النقدي " مثالي للمتخصصين كونه عمليا ومستندا لنهج علم النفس، وكذلك يجعل أولئك الذين لا ينتمون لنهج فلسفي يفكرون بصورة عقلانية أفضل مما لو كانوا التحقوا بفصول لدراسة المنطق. يتميز الكتاب بالوضوح والبساطة مما يميزه عن كتب المنطق التقليدية، فهو يفسر ببساطة معايير التفكير الجيد، والطرق المشتركة التي تُنتهك بها تلك المعايير، ويشرح الآليات التي تجعلنا لا ننخدع بهذه المعايير، مما يساعد على إخماد صوت ساكن الكهوف البدائي الذي يعيش في رؤوسنا".
----------------------------------------------------------
التفاصيل :
عنوان الكتاب: التفكير النقدي الجديد: مقدمة معرفية تجريبية
المؤلف: جاك ليونز وباري ورد
الناشر: تايلور، فرانس نيويورك، 2018.
عدد الصفحات:362
اللغة: الإنجليزية
