حرب الأخوة: مقاتلون، جهاديون، خاطفون

806019472o.jpg

تأليف: مارتشينمامون

عرض: يوسف شحادة

يقدم الصحفي اللامع، ومخرج الأفلام الوثائقية المعروف، مارتشين مامون، كتابه القيم "حرب الإخوة: مقاتلون، جهاديون، خاطفون"، ساردا من خلال تجاربه الخاصة في سوريا، في أثناء الحرب المدمرة في عامي 2012 و2015، متناقضات حرب الإخوة، ويقصد بهم المتطرفينالذين يقاتلون باسم الجهاد والإسلام والخلافة المزعومة. تأتي أهمية الكتاب من أن محتواه نابع من تلك التجربة الدراماتيكية التي عاشها المؤلف بعد أن اختطفته جماعات مسلحة تنتمي إلى أحد أجنحة تنظيم "القاعدة" في سوريا. يكشف الكاتب النقاب عن مجتمع غير رسمي يجمع المسلحين المتمترسين على جبهات مختلفة، فيمنظمات مختلفة، ويتكلمون لغات مختلفة. يحلل منطلقاتهم ودوافعهم الخفية، وكيف تحول كثيرون منهم في نهاية المطاف من مقاتلين من أجل الحرية إلى أداة وحشية تخطف الناس، وتعذب الرهائن، وتقتلهم أيضا.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام بالإضافة إلى مقدمة مهّد المؤلف فيها للحديث عن ظروف نشأة ما سيكتب، وينتهي بخاتمة، وملحق ضم ثبتا معجميا اشتمل على المصطلحات وأسماء الأعلام والمنظمات الوارد ذكرها في الكتاب. هذا الثبت مهم جدا،إذ يسهم في تعريف القارئ ببعض المسميات التي يصعب عليه إدراكها تمام الإدراك. يستعرض القسم الأول الموسوم بـ "الثورة. سورية 2012" الوضع المزري الذي وصلت إليه الأمور في سوريا بعد أن دخلت البلاد في متاهة حرب مدمرة،وفوضى عارمة، جعلت منها نهبا لكل متسلل من وراء الحدود. يسرد المؤلف كيف تسلل عابرا الحدود التركية السورية رفقة زميله المصور البولندي، بمساعدة رهط من المهربين المحليين، والجهاديين الذين عرف بعض قادتهم، وخاصة الشيشانيين منهم، وحاورهم في لقاءات صحفية قديمة.

يصف الأوضاع المستجدة في المناطق السورية الشمالية الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر، والمجموعات المسلحة الأخرى؛ ويرصد حركة النازحين المندفعين صوب الحدود التركية طلبا للجوء. كان هدف مارتشين مامون الوصول إلى حمص، التي كانت آنذلك تشهد حربا طاحنة، وحصارا، ودمارا كبيرا، لكنه يقع وزميله في قبضة أتباع القاعدة التي طلبت أن تدفع الحكومة البولندية فدية مالية كبيرة لقاء الإفراج عنهما. من خلال الفترة الطويلة، التي قضاها مارتشين مامون في الأسر وقبله، يروي أشياء كثيرة تبين الممارسات الفظيعة للمنظمات الجهادية المتطرفة، والتناقضات البينة في تصرفاتها. فهي تدعي تطبيق الشريعة الحقة عبر محاكمها الشرعية، التي أقامتها في مناطق استولت عليها في إدلب وريف حماة وحلب، ولكنها في الواقع تستبيح حرمة الشرع في قضاء أقل المعاملات الإنسانية شأنا. من تلك التناقضات،التي يشير إليها الكاتب، الخلاف الذي حدث في قضية اختطافه هو وصاحبه. فالشرع الإسلامي لا يبيح خطف، أو ضررمدني غير مسلم يقع تحتنفوذ القائمين عليه، بل يوجب حمايته، وعدم معاملته كرهينة، لكن تلك الجماعات المتطرفة، ومحاكمها الشرعية، كما يبين مؤلف الكتاب بجلاء، تستغل الدين لصالح أمراء الحرب وأتباعهم.

يبين القسم الأول الواقع السوري في بدايات الثورة السورية، ويصف المؤلف فيه أحوال المدن السورية، مثل حماة وحمص وحلب وأريافها، مركزا على نشاطات الجيش الحر وتحركاته من جهة، ومناوشاته ومعاركه مع الجيش الحكومي – كما يسميه الكاتب– من جهة أخرى. يقدم مامون رؤيته حول ما يجري في سورية مستندا إلى أحاديث عدد كبير من المواطنين السوريين، وكذلك بعض الوافدين من دول أخرى، مدنيين ومسلحين، ممن أصبحت أماكن سكناهم،أو نشاطهم، خارج نفوذ الحكومة السورية.ويكون سرده واقعيا مبتعدا عن المبالغات، بل يولي التفاصيل الصغيرة أكبر اهتمام، فيرجع بشرحه وتحليله إلى بدايات الحراك الشعبي في المدن السورية، بدءا من الشرارة الأولى في درعا، مرورا باندلاع المظاهرات العارمة الموجهة ضد النظام الرسمي، وليس انتهاء باستشراس الحرب في شوارع المدن والأرياف، ودخول مجموعات مسلحة عديدة، محلية ووافدة، أتون الحرب، ووقوع البلاد بين فكي الدمار والفوضى. يخصص الكاتب مبحثا في هذا القسم لما يسميه "الجهاد عند بوابات سوريا"،يؤكد فيه توافد المتطرفين إلى سوريا من دول شتى للانخراط في صفوف ما سمي بـ"الدولة الإسلامية"، وأجنحة القاعدة، لإقامة دولة الخلافة المزعومة. من المثير ما يرويه الكاتب عن سهولة الاتصال بأتباع المنظمات الجهادية عن طريق صفحات التواصل الاجتماعي، فالإنترنت يعد الخطوة الأولى للدخول في عالمهم الخفي. والسؤال الذي يستدعي نفسه هنا: كيف تغفل أجهزة الأمن العالمية عن متابعة هؤلاء المتطرفين، مع أنّ الوصول إليهم ليس بالأمر العسير؟!يبين مارتشين مامون في كتابه سهولة الوصول إلى أتباع تلك المنظمات الخطيرة وأمرائهم، فها هو يروي كيف تعرف إلى مصطفى – مساعد أحد أمراء الجهاديين، المعروف بعمر الشيشاني، لإجراء لقاء صحفي مع هذا الأخير. من خلال حواراته مع هؤلاء يتعرف القارئ إلى كثير من أفكارهم، ومنها انزعاجهم من سماع كلمة "الحرية"، حين يشير إليها الصحفي كونها غايةجل السوريين، فيجيب مصطفى: "أقاتل من أجل الشريعة،لكينقيم الشريعة، لا من أجل الحرية" (ص 292).  

في صفحات القسم الثاني، الموسوم بـ "الجهاد"، يجد القارئ نفسه أمام كثير من الحقائق التي توثق نشاط "إخوة الجهاد" وأساليب عملهم. أمّا "الإخوة"، الذين يقصدهم الكاتب،فهم الجهاديون الذين التقاهم في كل مكان زاره: في القوقاز،وخاصة الشيشان، وأوكرانيا،وتركيا، وسوريا، وأفغانستان.قد يبدو في الوهلة الأولى أن المؤلف ضخّم أمرهؤلاء "الإخوة"، فهو يراهم شبكة متكاملة لهم أتباع في كل البلاد جاهزون للتحرك عندما يأتيهم الأمر، فيضربون في أوروربا، وغيرها من قارات الأرض. لكن قراءة الحقائق، وتتبّع حركة "إخوة الجهاد، وسبر أفكارهم وتطلعاتهم، تثبت أن مارتشين مامون لا يبالغ في أطاريحه الواردة في متن الكتاب. وتأتي طريقة كتابته مقنعة تماما،إذ يسرد ما شاهد،ووقع له، بحيادية واضحة من خلال وصف ما جرى من غير انفعال، أو مبالغات ساذجة. وتراه يروي كيف أنشأ علاقاته مع الجهاديين، وغيرهم، من خلال إقناعهم أنهصحفي يريد نقل وجهة نظرتهم إلى العالم،فيتعاملون معه على هذا الأساس، واثقين من أنّ قضاياهم المزعومة عادلة، فلا خشية من الإفصاح عنها. من هؤلاء إبراهيم–قائد إحدى الجماعات الموهومة بالخلافة، الذي درس في أوكرانيا، ويجيد الروسية بطلاقة. يؤكد إبراهيم للمؤلف أنّ"الإخوة" موجودون في كل مكان، وبإمكانه ترتيب اتصال أو لقاء بينه وبين أفراد منهم، وهذا ما يكون حيث يلتقيهممارتشين بعد ذلك في مدينة خاركوف الأوكرانية.وتمثل خاركوف مرتعا للإخوة الجهاديين، وجلهم من الوافدين إليها من مسلمي القوقاز وآسيا الوسطى، ومن المقيمين فيها من بقايا الطلاب العرب الذين بقوا فيها بعد تخرجهم في معاهدها، وكليات جامعتها الكبيرة. ويذكر أنّ هذه الجامعة كانت تضم في صفوفها أعدادًا كبيرة من الطلبة الأجانب أيام العهد السوفييتي.

يتناول القسم الثالث، الموسوم بـ"الخارجون عن القانون"، عدة محاورَ متشعبة تبدأ ببحث مصير الجهاديين في الشيشان، والخيانة التي أدت إلى انفراط عقد "إمارة القوقاز الإسلامية". يكشف المؤلف عما يسميه بـ "الممر الأخضر للجواسيس" مبينا تهاوي أسس الدولة الإسلامية المزعومة في القوقاز. ويتناول بانتباه شديد العلاقة الشائكة بين روسيا وإحدى جمهورياتها المشاكسة – الشيشان. فنجده يسلط الضوء على الحرب الضروس التي تشنها الاستخبارات الروسية، وأتباع رئيس الشيشان، التابع لسلطة الكرملين، رمضان قديروف، على المعارضين الشيشانيين – وجلهم من الإسلاميين – الهاربين إلى بلدان عديدة، منها تركيا التي غدت ساحة لتصفيتهم. يتحدث مامون عن تشكيلات الشيشانيين العسكرية، ومنها جماعة "أجناد القوقاز" التي لها امتدادات في الشمال السوري، ويقدم معلومات مهمة عن أميرهم عبد الحكيم، ونائبه حمزة الشيشاني اللذين يؤكدان للكاتب أن هدفهما تحرير الشيشان من الروس. والأمر المهم هنا أن هذين الرجلين يدركان أن الاستخبارات الروسية تسهل خروج المقاتلين الشيشان إلى سوريا ليتخلص منهم الروس بعيدا عن بلادهم. لا شك أنّ حوارات الصحفي البولندي وأحاديثه مع الجهاديين القوقازيين تقدم عرضاغير ناقص لقصة ظهور المتطرفين، وازدياد حدة الإرهاب الملازم لهم،وتزيل كثيرا من الغموض الذي أحاط بصورتهم. بيد أن الأمر الذي يسترعي الانتباه الشديد قدرة الكاتب في تقصي مصير فلول الذين تورطوا في الانضمام إلى المجموعات الجهادية، وتبوأوا مناصب قيادية في صفوفها. وهذا ما نجده في حديثه في الفصل الموسوم بـ"المنشقون عن الدولة الإسلامية". فالكاتب يسرد كيف اتصل بهؤلاء المنشقين والتقاهم بعد أن اكتشفوا كذب وخداع أمراء تلك المجموعات المتطرفة. يروي ما قاله له أحد المنشقين عن "داعش"، حيث يؤكد أن ما قتل منهم يعد بالآلاف، وهذا العدد أكثر بعشر مرات من عدد قتلى مقاتلي جبهة النصرة التابعة للقاعدة– كما يزعم. ويردّسبب كثرة القتلى إلى أن أمراء داعش الذين لا يهتمون بجنودهم: "ليموتوا.. فالشيء الأهم ما يخططون له (يقصد مخططات الأمراء).. إنهم لا يقدرون المقاتلين لديهم، فهم لا يحاربون. إنهم يجلسون على مؤخراتهم، يصدرون الأوامر وهذا كل شيء" (246). وثمّ منشق آخر (يسمى عبد الله) يذكر للمؤلف إنه اكتشف الوجه الحقيقي للخلافة المصطنعة بعد أن انكشف القناع الذي أخفت عوراتها وراءه، وأن "مئات من المقاتلين انشقوا عنها، مثله، وعادوا إلى هذا العالم راغبين في العيش فيه، ويريدون أن يسمع الناس صوت الحقيقة، وأن يصحوا. إنهم لا يرغبون في أن يصبح المسلمون ممن يحبون دينهم، ويبتغون إقامة الشريعة، دمى في أيدي هؤلاء" (ص 249). ويروي عبد الله أن الأجهزة السرية في "الدولة الإسلامية" تتعاون مع منظمة الاستخبارات الوطنية التركية، وأنّ الاستخبارات الروسية أيضا لها عملاء داخل داعش، ولا يخفى – كما يؤكد الكاتب – أنّ الدولتين التركية والروسية تخشيان تورط المزيد من مواطنيهما في نشاطات المنظمات الجهادية. من خلال شرحه لنشوء منظمة داعش، واستيلائها السريع على الموصل، وتمددها في العراق، يؤكد المؤلف، بناء على معلومات استقاها ممن التقاهم من الهاربين من صفوف التنظيم الإرهابي، أن معظم قادة التنظيم من بقايا البعثيين، وضباط الجيش العراقي المنحل، واستخباراته التي اختفت إثر الغزو الأمريكي للعراق. ومن المثير، والمفيد أيضا، أن يمضي مامون في تحليله بعيدا، فيعرّج على الفترة التي سبقت ما سمي بـ "ربيع العرب" ليستقرئ الواقع العربي المرشح للانفجار. فها هو يذكر كيف التقى نائب صدام حسين المطارد،عزة الدوري، في دمشق عام 2008 الذي بدا بصحة جيدة – حسب وصف الكاتب الذي يشكك فيما يشاع عن مرضه الدائم –ومع أن الدوري رفض إجراء حديث صحفي مع المؤلف، نجد معلوماتمثيرة يؤكد مامون صحتها.هذه المعلومات تتلخص في أن صدام حسين قد نقل أموالا هائلة من العراق إلى سوريا، أفاد منها البعثيون في تشكيل أجنحة عسكرية تضرب الأمريكيين في بلاد الرافدين. وقد كان الجيش النقشبندي الذي أسسه الدوري السبّاق إلى التعاون والتحالف مع داعش في العراق، إلى أن حدث الشقاق بينهما في عام 2015.

فيالقسم الرابع، الموسوم بـ "في الأسر. سوريا 2015"،يتناول الكاتب بالشرح والتفصيل عملية اختطافه، والأيام التي قضاها في الأسر قلقا مشتتا بين الاستجواب والتحقيق وانتظار ما سيفعل به وبزميله أتباع القاعدة. لا شك أنّ التفاصيل الواردة في متن الكتاب تمثل قيمة كبيرة في معرفة طرق تفكير الجهاديين وأساليبهم في معاملة من يقع تحت سلطتهم من مدنيين وعسكرين، أجانب أو من بني جلدتهم، على حد سواء. ولكن الجانب الذي يمثل قيمة كبرى في هذا القسم هو توثيق الكاتب، بذكاء وفطنة، آراء عديد من الأشخاص الذي خبروا التعامل مع المجموعات المسلحة المختلفة؛ وهذه الآراء تثبت عدم ثقة المواطنين بتلك الجماعات، وعدم قدرتهم على التمييز من يقاتل من، ومن يسير في الطريق القويم لصالح البلاد. وثم قضية مهمة أخرى، تخص مسألة الصراع في سوريا يشير إليها مارتشين مامون، هي قضية تنامي قوة المجموعات الإسلامية وازدياد عدتها وعديدها على حساب الجيش السوري الحر، نتيجة الدعم الذي تتلقاه من جهات خارجية، بينما امتنعت أوروبا والولايات المتحدة عن تقديم الدعم للجيش الحر الذي يعد مؤسسة ديمقراطية، حسب زعم المؤلف.ويمكن للقارئ أن يستشف استنتاجا مهما،يستقى من أطاريحمامونمفاده أن انتقال عدد كبير من عناصر الجيش الحر إلى المنظمات المتطرفة يمكن تفسيره بأمرين. أولهما: ردة فعل هؤلاء الأفراد على ترك الدول الديمقراطية ذلك الجيش دون أي دعم لينقضي أمره وتطوى صفحته؛ وثانيهما:تأثير الجهاديين في الشباب المجيشين عن طريق اللعب على الوتر الديني من خلال عملية التكفير التي يوجهها غلاة شيوخهم صوب ضباط الجيش الحر.

بعد إلقاء نظرة فاحصة شاملة على كتاب"حربالإخوة – مقاتلون،جهاديون،خاطفون" يمكن القول إنّالمؤلف يقدم صورة كاملة عن حروب الجهاديين، والأساليب والخطط التي يتبعونها في تحقيق مآربهم لحشد ما يسهل السيطرة عليهم فكريا من جموع المسلمين، الذين عادة ما يكون بعض منهم قد تعرض لظلم، أو اضطهاد، أو مشكلات اجتماعية وسياسية مختلفة. من خلال تجربته الطويلة الحافلة بالتفاصيل المتشعبة ومعايشته ظروفا قاسية عسيرة وبأسلوبه الهادئ الرصين، الساعي إلى تقديم الحقائق كما هي، دونما مبالغات، أو مواقف مسبقة، ينجح مارتشين مامون في قراءة الواقع الصعب المعقد الذي تتصف به حياة الجهاديين وحروبهم في ساحات تناهبتها الفوضى والرعب والدمار. كل ذلك يأتي موثقافيأطاريح، واستنتاجات، قيمة تسهم في إزالة الغمامة والغموض عما جرى، ويجري، من أحداث جسام في منطقتنا العربية الملتهبة.

------------------------------------------

التفاصيل :

عنوان الكتاب: حربالإخوة – مقاتلون،جهاديون،خاطفون

المؤلف: مارتشينمامون

الناشر:الدار الأدبيةWydawnictwoLiterackie

مكان النشر: وارسو – بولندا 

سنة النشر:2017

لغة الكتاب: البولندية

عدد الصفحات: 496 صفحة

 

 

أخبار ذات صلة