حرب الذكاء: الذكاء الاصطناعي مقابل الذكاء البشري

Picture1.png

تأليف: لوران ألكسندر

عرض: مُحمد الحداد

إذا افترضنا أنَّ القارئ سيمضي دقيقة واحدة للاطلاع السريع على هذا المقال، فإنه عند نهاية القراءة سيكون قد حصل ما يلي في العالم: 156 مليون رسالة إلكترونية قد أُرسلت على مختلف مواقع التواصل الافتراضي، و452 ألف تغريدة على "تويتر"، وأكثر من أربعة مليون فيديو على "يوتوب"، و1.8 مليون سناب على "سنابشات"، و3.5 مليون طلب على جوجل!

وانطلاقًا من هذه المعطيات الواردة في كتاب لوران الكسندر، يُمكن للقارئ أن يستعمل حاسوبه لتقدير نسبة المبادلات التي تحصل على الشبكات الاتصالية، ويُقارن ذلك بنشاطه الذهني الشخصي؛ ليدرك حجم الهوة التي تفصل الذكاء البشري عن الذكاء الاصطناعي، ويخفف من قناعته بأن الآلة -وبالأحرى الذكاء الاصطناعي- مسخر لخدمته.. يُمكن أن نختزل أطروحة هذا الكتاب في جُملتين مثيرتين وخطيرتين في الآن ذاته: لأول مرة في التاريخ، تغلب الذكاء الصناعي على الذكاء البشري وأصبح الإنسان خادما للآلة بعد أن كانت في خدمته.

وللعلم، فإن مؤلف الكتاب هو طبيب جراح وخبير في التكنولوجيات الحديثة، وهو مُؤسس موقع "دوكتيسيمو"، أشهر المواقع الطبية الموجهة لعامة الناس باللغة الفرنسية، عدا أنه يُسهم باستمرار بمقالات علمية في الصحيفة الفرنسية المشهورة "لوموند".

ومن وجهة نظر الكاتب، فإن العالم قد شهد في القرنين الأخيرين ثلاث ثورات تكنولوجية واقتصادية، امتدت الأولى من سنة 1770 إلى 1850 وارتبطت بالآلة التجارية والسكك الحديدية، وامتدت الثانية من سنة 1870 إلى 1910 وقد شهدت اختراع الطائرة والسيارة والكهرباء والهاتف. أما الثالثة، التي نعيشها اليوم، فقد بدأت مع مطلع الألفية، وارتبطت بالإعلامية والبيوتكنولوجيا والنانو-تكنولوجيا (النانومتر هو واحد على مليار من المتر). ويرى الكاتب أننا نعيش دون أن ندرك آثار هذه الثورة التكنولوجية الثالثة لكننا سنتفطن قريبا إلى كونها، مثل سابقاتها، ظاهرة ستغير جذريا نمط حياتنا الخاص والعام. ربما نسينا بسرعة أنه في حدود سنة 1990، لم يكن أحد يسمع بالإنترنت، تلك التكنولوجيا ذات الطابع السري التي استخدمت بشكل محدود آنذاك في المجالات العسكرية الأمريكية، بينما نرى اليوم كيف أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وربما نسينا أيضا ما حدث سنة 1997، عندما انتصر الحاسوب لأول مرة في لعبة الشطرنج على بطل العالم غاري كسباروف. وكما يحصل دائما مع التغيرات الكبرى، فإن الآثار تبدو في الوهلة الأولى مثيرة لكنها جانبية، إلى أن تشمل كل مجالات حياتنا وتصبح في حالة خضوع كلي لها.

صحيح أن الذكاء الاصطناعي قد ظهر منذ أربعينيات القرن العشرين، وارتبط بصناعةالحواسيب، لكن علينا أن نعتبر بالسرعة الفائقة التي تطورت بها هذه الصناعة لنفهم لماذا يتوقع العديد من الخبراء أن يتحول دور الحاسوب من آلة مساعدة إلى آلة مهيمنة على الإنسان. فأول حاسوب كان ينجز عملية واحدة في الثانية الواحدة، أما أفضل حاسوب سنة 2017، فهو ينجز في الثانية الواحدة 93 مليون مليار من العمليات! ويتوقع أن تصل هذه السرعة سنة 2020 إلى "مليار مليار" من العمليات، ثم مع ظهور الحواسيب الكوانتية، المتوقع لسنة 2050، سنصل إلى درجات سرعة تكاد تكون غير قابلة للتصور حاليا.

ثمة متغير آخر مهم أيضا هو تطور البحوث التكنولوجية التي تسعى إلى الربط بين الذكاء الاصطناعي (الحواسيب مثلا) والذكاء الطبيعي المرتبط بالجهاز العصبي للإنسان. يمكن أن نضرب على ذلك مثلا المحاولات القائمة حاليا للتغلب على المرض الذي ظل دائما يصنف على أنه الأكثر استعصاءً، وهو فقدان البصر، إذ يتوقع المتفائلون من الخبراء أن ينجح الطب في القريب في زرع آلات إلكترونية تمكن العميان من الإبصار حسب تقنيات معقدة تربط بين الآلة والجهاز العصبي للعين. وتصنف في هذا المجال أيضا القلوب الاصطناعية التي زرعت بنجاح في السنوات الأخيرة، وإن لم يتمكن المستفيدون منها إلى حد الآن من العيش بها إلا بضعة سنوات إضافية. إذا توصلت التكنولوجيا مستقبلا إلى توفير عيون أو قلوب اصطناعية تستبدل بها الأعضاء المصابة، فإن ذلك لن يثور الطب فحسب لكنه سيثور تصورنا للطبيعة البشرية، عندما تصبح أعضاؤنا الأكثر تعقيدا قابلة للاستبدال مثل القطع الميكانيكية لسياراتنا أو أجهزتنا المنزلية. وعلينا أن نتذكر أن ما كان يبدو بعيد المنال ومن صنف "الخيال العلمي" قبل عشرين سنة أصبح اليوم بديهيا في حياتنا.

وفي مجال الطب، يتوقع صاحب الكتاب أن تتغير الوظائف مستقبلا، فالطبيب الحقيقي سيصبح آلة، أما الطبيب البشري فسيكون مستقبلا في وضع الممرض حاليا، لأن وظيفته ستقتصر على مساعدة الآلة من جهة، والاهتمام بالوضع النفسي للمريض من جهة أخرى. إن أكثر الأطباء خبرة لم يعد، منذ اليوم، قادرا على منافسة الحاسوب في تحليل نتائج التحاليل المخبرية أو صور الأشعة. فالآلة هي وحدها التي ستكون قادرة مستقبلا على القيام بالتحليل الجيني والتفطن المبكر لأمراض معقدة مثل السرطان وباركنسون والزهايمر. وأمل البشرية في التخلص من هذه الأمراض لم يعد مرتبطا اليوم بالمخططات التي تضعها منظمة الصحة العالمية أو وزارات الصحة والمستشفيات الكبرى في أكثر الدول تقدما، وإنما بالبرنامج الذي أعلن عنه مارك زوكربارغ، مؤسس فايسبوك، للقضاء على هذه الأمراض بوسائل تكنولوجية مستحدثة تماما تستفيد من المعلومات التي تحصل عليها فايسبوك حول العادات والأوضاع الصحية لمستخدميه في كل أنحاء العالم (حسابات معقدة للعلاقة بين الإصابة بهذه الأمراض والمحيط العام مثل البيئة ونوعية النشاط والحالات النفسية للمصابين...إلخ).

ومن النتائج المتوقعة لهذا التعايش بين الذكاء الاصطناعي والبشري تنامي التفاوت بشكل غير مسبوق. فمن جهة، ستكون التكلفة ضخمة في مجالات حيوية مثل الصحة أو التعليم، بما يستحيل معه توفير فرص المساواة بين المواطنين في الدولة الواحدة، فضلا عن المساواة بين جميع البشر. ومن المعروف أن أية تقنية لا تتراجع تكلفتها إلا عندما تنتشر انتشارا واسعا، وهذا أمر لابد أن يستغرق وقتا طويلا، وفي الأثناء سيوجد مثلا أشخاص قادرون ماليا على القيام بتحاليل معقدة لتراثهم الجيني وربما التدخل لتعديل جينات أطفالهمقبل الولادة لاتقاء الأمراض الكبرى، بينما سيكتفي آخرون بالوصفات الطبية التقليدية المعروفة اليوم. وسيكون بمقدور أشخاص ومؤسسات أن توظف الحواسيب المستقبلية لإدارة أعمالها بطريقة مغايرة تماما عما هو معروف اليوم، كما ستختفي العشرات من المهن المعروفة اليوم لأنها ستعوض بالآلات الذكية. ومن جهة أخرى، سيبرز التفاوت بين البشر في قدرتهم على التعامل مع الذكاء الاصطناعي. وربما كان هذا الجانب هو الأكثر إثارة في الكتاب. فحسب الكاتب، لن يتمكن الناس من التعامل بندية مع الذكاء الاصطناعي إلا إذا نجحوا في الرفع من معدل الذكاء لديهم! يعرف الجميع مقياس الذكاء "QI" ويتعاملون معه اليوم كمجرد اختبار طوعي. مستوى الذكاء لدى أغلب البشر اليوم يقع في حدود المائة نقطة من نتائج هذا الاختبار، وهذا قدر غير كاف للمستقبل، إذ ينبغي حسب الكاتب أن ترتفع نسبة الذكاء العامة لدى البشر إلى أكثر من 130 نقطة (على سبيل المقارنة، نسبة الذكاء لدى كاسباروف الذي هزمته الآلة في لعبة الشطرنج يتجاوز 190 نقطة). لذلك؛ خصص الكاتب جزءا مهما من كتابه لموضوع المدرسة. فهي التي ستتكفل بالقيام بهذه النقلة النوعية في مستوى الذكاء البشري، وسيتطلب ذلك أن تتغير جذريا كي تنجح في مواجهة هذا التحدي غير المسبوق. بل إن الكاتب يذهب لحد افتراض أن الأولياء عليهم مستقبلا القبول بزرع بعض المعدات الإلكترونية في أدمغة أبنائهم لإعانتهم على الرفع من قدراتهم الذهنية، متوقعا أن النجاح في الدراسة ثم في العمل سيرتبط أيضا بالقبول بهذا التعايش بين الذكاء البشري والاصطناعي داخل الجسد ذاته! ولقد أججت هذه الأفكار الواردة في الكتاب العديد من المجادلات الصاخبة منذ صدوره؛ إذ اتهمه البعض بالتحريض على سياسات انتقاء النسل (eugénisme)، وقد صدرت العديد من المقالات النقدية التي تذكر الكاتب أن الذكاء متنوع وأن مقياس الذكاء الفردي لا يحدد في ذاته نجاح الإنسان أو فشله، وقد استبق الكاتب هذا الاعتراض بالتأكيد على أن محور تفكيره علاقة الإنسان بعالم تتحكم فيه الآلة والذكاء الصناعي.

لم يمر صدور هذا الكتاب في فرنسا دون نقاشات صاخبة، وفسحت الكثير من القنوات الفضائية والصحف المجال لاستجواب الكاتب أو جمعه بنقاده للمناظرة. وثمة أمر اتفق فيه الجميع، مساندين وخصوما، هو جدية الكاتب في جمع المعلومات ودقته في عرضها، بصرف النظر عن النتائج التي استخلصها منها.

الكاتب ما فتئ يؤكد في كتابه -وفي المناسبات الكثيرة التي ظهر فيها للإعلام- أنه أراد أن يرسل رسالة إنذار للأوروبيين بأنهم سيتحولون قريبا إلى بلدان مستعمرة، بحكم تخلفهم في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يسيطر عليه اليوم الأمريكان والصينيون. يذكر في هذا الصدد أن الرئيس الفرنسي الشاب أمانويل ماكرون كان قد عين في حكومته كاتب دولة للذكاء الاصطناعي (من أصل مغربي!) وأنه كلف عالم الرياضيات سيدريك فيلاني بتقديم تقرير شامل في الموضوع، وقد تم تقديم هذا التقرير في شهر مارس الماضي ويشير مثلا إلى أن البُلدان الأكثر تقدما اليوم في هذا المجال هي الولايات المتحدة والصين وإنجلترا وكندا وإسرائيل. ولتدارك تأخر بلده في هذا المجال، أعلن ماكرون مؤخرا برنامجا ضخما بتمويلات تفوق 1.5 مليار يورو يتضمن العديد من المبادرات والمشاريع. ينبغي أن يطلع القارئ على هذا الكتاب كي يدرك الرهانات الضخمة التي تطرحها قضية الذكاء الاصطناعي، ويفهم لماذا تسارع العديد من البلدان الأوروبية لتدارك تخلفها في هذا المجال. أما المجتمعات التي لا تتابع أصلا هذا الموضوع، فإنها ستواجه مخاطر حقيقية في المستقبل، وستصبح في وضع تبعية عميقة للبلدان المتقدمة في هذا المجال.

تبقى الإشارة إلى أن كل ما يكتب ويصدر عن الذكاء الاصطناعي يظل مُرتبطا بالزاوية التي يحددها اصحاب المؤلفات أو التقارير؛ بما يحتم على المجتمعات العربية أن تأخذ الموضوع مأخذ الجد، وتسعى بدورها إلى معالجته من زاوية مصالحها وتطوراتها، كي لا تفاجأ في القريب بنتائجه، وخاصة السلبية منها. كما يتحتم تطوير العلوم التي يرتكز عليها الذكاء الاصطناعي، وهي محدودة الحضور في المؤسسات التعليمية البحثية. ويمكن أن تكون البداية بترجمة الكتاب الاساسية في هذا المجال.

إن كل الذكاء الاصطناعي مرتبط بتطوير الخوارزميات التي تمكن الآلات من التفاعل مع كل الحالات بأسرع من تفاعل الذكاء الإنساني، وينبغي أن لا تبقى كلمة خوارزميات (نسبة إلى العالم العربي المشهور) المساهمة العربية الوحيدة في هذا المجال، ويوجد العديد من الباحثين في الغرب من أصول عربية، على غرار الوزير الذي أشرنا إليه في الحكومة الفرنسية الحالية، بما يؤكد أن المشكل حاليا هو قلة توفر المؤسسات والمخابر العلمية التي يمكن أن تدفع البحث والابتكار في المجتمعات العربية.

----------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "حرب الذكاء: الذكاء الاصطناعي مقابل الذكاء البشري".

- المؤلف: الدكتور (الطبيب) لوران ألكسندر.

- الناشر: باريس، دار لاتيس للنشر، بالفرنسية، سبتمبر 2017.

- عدد الصفحات: 339 صفحة.

أخبار ذات صلة