فوكو وبورديو ومسألة الليبرالية الجديدة

Picture1.png

تأليف: كريستيان لافال

عرض: سعيد بوكرامي

اختار اثنان من أهم المفكرين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين، وهما الفيلسوف ميشيل فوكو وعالم الاجتماع بيير بورديو، أن يحفرا اسميهما عميقا في اللحظة التاريخية، التي مرّا بها وراهنا عليها، بمداد الفكر والتنوير، فكانا شعاعين فكريين قلقين ومقلقين. الأول سطع نجمه في أواخر السبعينيات، والثاني مع بداية التسعينيات. ومن بين المفاهيم التي اهتما بتحليلها مفهوم: "الليبرالية الجديدة". ورغم تباين خلفياتهما النظرية وأساليب بحثهما المتنافرة أحيانا، فقد تركا عملا رصينا ومفتوحا حول هذه القضية الاقتصادية المثيرة، لهذا يعتبر كتاب الباحث السوسيولوجي كريستيان لافال: (فوكو وبورديو ومسألة الليبرالية الجديدة) الصادر في 2018، تحقيقا حقيقيا وأساسيا حول بحوثهما الفلسفية والاجتماعية وطريقتهما المختلفة والمتكاملة لتحديد ماهية الليبرالية الجديدة.تتمثل أهميةالكتاب في تقريب القارئ من أفكار مفكرين، تميزتببعدها السياسي والتعليمي، وفي أصالتها المعرفية وتماسكها المنهجي لكل واحد منهما، دون أن ننسى نقاطهما المبهمة وحدودهما الملزمة.

وبما أن تحليلاتهما ضرورية لفهم النمط الحالي للسلطة الراهنة لليبرالية الجديدة، فقد يساعد هذا الكتاب في إعادة فتح السؤال: ما هي السياسة الجديدة التي يجب اختراعها؟ لخوض معركة القرن الواحد والعشرين المركزية لمواجهة الاقتصاد العالمي المهيمن؟غالبًا ما واجه فوكو وبورديو قضية الليبرالية الجديدة. إذا كان الأول يعرّف الليبرالية الجديدة باعتبارها شكلاً جديدًا من التدخل الحكومي يهدف إلى إرساء سياسات مجتمعية، فإنّ الثاني كان يشير بدلاً من ذلك إلى أنّ الليبرالية الجديدة تتمثل في انسحاب الدولة، وتوسيع منطق السوق والعودة إلى الليبرالية في سياسة عدم التدخل التي أقرتها النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة بشكل خاص إلى أنّ هذين المفكرين لا يستشهدان أبدا بهذا السؤال. هذا الكتاب الجديد الذي كتبه كريستيان لافال، بعد سلسلة من الأعمال حول القضية الليبرالية الجديدة، لا سيما مع بيار داردو، ويزعم أنّه يقدم قراءة لهذين المفكرين ومحاولة التفكير في نقاط تكاملهما.

مشروع الكتاب طموح ويشير إلى نوع من الانفتاح على الأعمال السابقة للكاتب حول الليبرالية الجديدة، مثل "العقل الجديد للعالم"، الذي اعتمد بشكل كبير على مرجعيات فوكوية. ومع ذلك، فإنّ هذا الموضوع لا يدعي إقامة نظرية منهجية لليبرالية الجديدة: يعترف الكاتب منذ الصفحات الأولى بأنّ أعمال فوكو وبورديو تتميز في المقام الأول بعدم اكتمالها، وبالتالي ليس ضروريا بأي شكل من الأشكال. "تضخيم" التحليلات والمبالغة في النتائج (ص 9).

حسب كريستيان لافال فإنّ الاختلافات بين المقاربتين لم يكن مردها إلى عدم توافق نظري بل نتيجة لسياق تاريخي مختلف. ففي الوقت الذي عالج فوكو الليبرالية الجديدة منذ السبعينيات، أي مع بداية الليبرالية الجديدة، فإنبورديو جعلها موضوع بحثه في التسعينيات، عندما بلغ هذا النمط من الحكامة مرحلة النضج. وهكذا يذكر لافال أن المفكرين وصفا الطبيعة المزدوجة لليبرالية الجديدة، سواء كحكامة أو طريقة هيمنة. يصف فوكو هذه الحكامة بأنها طريقة "توجيه السلوكات" وإنتاجا لذاتية تتكيف مع بيئتها التنافسية، في حين يصفها بورديو بأنّها طريقة هيمنة تمارسها الطبقات العليا. الهدف من الكتاب هو "معرفة كيفية التفكير على نطاق مزدوج، دقيق وكلي، وتفسير لتقنيات الحوكمة وطريقة "توجيهها للسلوكات الفردية" مما ينتج عنه نظام للهيمنة. أصبح اليوم مسيطرا الآن وعلى المستوى العالمي" (ص 20). ومن ثم، فإنّ هذا التعبير هو ما يجعل من الممكن الربط بين المفكرين لإنتاج أكثر من تراكيب للتحليلات والانتقادات التي صاغها فوكو وبورديو حول المسألة الليبرالية الجديدة. وبالتالي، فإنّ أطروحة الكتاب مبنية بوضوح، ليس فقط من أجل وضع نظريات الليبرالية الجديدة الموجودة عند كلاالمفكرين، ولكن بشكل خاص لإظهار توافقها، لإثراء فهمنا الحالي لهذه الظاهرة العالمية.

يقدم الجزء الأول من الكتاب تركيبا، يتميز بالوضوح والدقة،عن موقف فوكو من الليبرالية الجديدة. ويحيل المؤلف على كتابه "العقل الجديد للعالم" مشيرا إلى أنّ العديد من الأفكار السابقة حاول تطويرها في هذا الكتاب الجديد، خاصة حول تعريف الليبرالية الجديدة كطريقة للتدخل الحرّ، أي التدخّل القانوني والاجتماعي الذي يهدف إلى بناء السوق وإنتاج الأفراد التي ستتكيف معه. قدم فوكو في كوليج دو فرانس عام 1979 محاضرة عن ميلاد الحياة السياسية. وعلى الرغم من العنوان المضلل، إلا أن البحث خصص لليبرالية الاقتصادية والليبرالية الجديدة. وتعد المحاضرة ذات أهمية كبرى لأنّهاتصب في إطار المناظرات المعاصرة التي تواكب التحولات الاقتصادية. فقد جاءت في اللحظة التي بدأ فيها الحديث (أو إعادة الكلام) عن الليبرالية الجديدة، في سياق الأزمة الاقتصادية وظهور قادة سياسيين ناشئين مثل مارغريت تاتشر أو رونالد ريغان. نُشرت المحاضرة في عام 2004، في عصر منظمة التجارة العالمية وظهور العولمة، وفي اللحظة التي أصبحت الليبرالية الجديدة موضوعا شائعًا لتسمية النظام العالمي.ويعتقد لافال أن فوكو قدم وسيلة لفهم الليبرالية الجديدة وليس طريقة لمقاومتها. هذا هو الموقف يبرز في تصوره للمجتمع الليبرالي الجديد، حيث يؤكد على أنّ الليبرالية الجديدة لا تعني انسحاب الدولة، بل "تحويلها الفعال إلى نوع من" الشركة الكبيرة "المبنية أساسا على مبدأ المنافسة". من ناحية أخرى، فإنّه يؤكد أيضا أنّالليبراليةالجديدة، ليست بالمعنى الدقيق للكلمة إيديولوجية أو سياسة اقتصادية، بل هي عقلانية - أي نوع من الدليل العملي للحكم في الزمن المعاصر- تتحكم على حد سواء في "عمل الحكام" و "سلوك المحكومين أنفسهم".

تظهر الجدة الحقيقية لهذا الجزء المخصص لفوكو فيما بعد في اعتماد لافال على المؤلفات الحديثة المكرسة لهذا المفكر الفذ. ويتعلق الأمر بمفهوم الوسط أو البيئة، المستمد من كانغيلهيم، الذي يشكل الفكر الجديد، الذي يسمح بتفسير الحكامة الليبرالية الجديدة الشبيهة ب "حكومة من أجل البيئة/الوسط" (صفحة 66)، والتي تمارس من خلال هيكلة بيئة الآخرين. وبما أن البيئة الليبرالية الجديدة معدة أساسا كي تكون سوقًا، فإنها تدعو الأفراد للتكيف مع هذه البيئة التنافسية. يرتكز المنطق الليبرالي الجديد على تأطير العالم الاجتماعي لجعله يتوافق مع السوق. ومن الحكومة وعبر الوسط، ننتقل إلى الحكومة من خلال السوق. وبالتالي فإن صناعة وإنتاج الرجال الاقتصاديين هو ما يجعل مفهوم البيئة ممكن التوضيح. ومن هنا يُفهم منهج فوكو بشكل أفضل ومن خلاله عمل الليبرالية الجديدة، التي تسعى إلى تكوين المعايير التي تنتج موادها المعروضة على المستهلكين المتزايدين وفق هيمنة السوق وقدراته على الاستقطاب.

ما وراء إعادة البناء الرفيع جدا، لفكر بورديو وفيض المنشورات الحديثة، التي تهتم بنظام التحليل لديه، ومروراً بالمفاهيم المركزية المختلفة مثل الحقل، والرمز، أو العادات أو رأس المال، أو المصلحة الرئيسية للحزب، التي كرست لبورديو وكتابه الأساسي "روح الليبرالية الجديدة" والذي زاد سوء فهمه تعقيدا لفهم موقف هذا المفكر، والذي غالبا ما ينظر إليه على أنه نموذج للنقاد المناهضين للعولمة والليبرالية الجديدة.يبرز كريستيان لافال كيف أن مقاربة عالم الاجتماع تفكر في عملية إنتاج إيديولوجية مهيمنة من خلال تحليل التحولات الاجتماعية في علم اجتماع النخب. من هنا، يمكننا أن نرى أن موقف بورديو لا يمكن اختزاله إلى خطاب نمطي حول الليبرالية الجديدة، والذي يتميز بفهم يصفه لافال بأنه مبسط، وتحديث لموقف وأفكار آدم سميث، وامتدادا لمنطق السوق في المجالات الاجتماعية جميعها والبارز في انسحاب الدولة من الشؤون الاقتصادية. يبين لافال أن بورديويفكر في الدور الذي يقوم العمل العمومي في بناء الأسواق. ويتضح على سبيل المثال في "البنيات الاجتماعية للاقتصاد" ومن خلال سوق الأسرة الواحدة - وليس مجرد انسحاب الدولة لصالح منطق السوق. الدولة إذن هي التي تضفي الشرعية على الخطاب الاقتصادي رفقة الخبراء، والهيئات، والمسؤولين رفيعي المستوى أنفسهم الذين استمالتهم الإيديولوجية السائدة. ويتمثل المكسب المحوري لهذا التحليل في إظهار أن بورديو كانت لديه فكرة البناء العمومي لأجل السوق، وامتداداته إلى المجالات التي أفلتت منه، مثل الصحة والتعليم. حول هذه النقطة، يلتقي بورديو بفوكو.ويقصد هنا الدولة الأوروبية التي تعد مرحلة من مراحل التحول نحو الدولة العالمية القادرة على المراقبة وفرض الهيمنة المحققة للأرباح في الأسواق المالية داعيا إلى التصدي للفعل المدمر، الذي تمارسه هذه الأخيرة على سوق العمل المنظم بمساعدة النقابات لأجل بناء المصلحة العامة، ثم الدفاع عنها. فسواء شئنا أم أبينا فالاعتقاد العالمي يهدد القيم الاجتماعية للإنسان الذي بات يعيش تحت رحمة القيم الاقتصادية الجديدة المهددة.وهكذا فإن الليبرالية الجديدة تتميز بتفوق "اليد اليمنى" للدولة، أي كبار المسؤولين، بما في ذلك مدبري الحسابات المالية الكبرى، الذين ينظرون إلى ترشيد الخدمة العامة، على نحو فيه خسارة "ليدهم اليسرى"، أي الموظفين الحكوميين الصغار، ولاسيما في قطاعات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. يبين لافال أن مقاربة بورديو لا يمكن اختزالها في الفكرة النمطية الخاصة حول مفهوم انسحاب الدولة لصالح الهجمة الاقتصادية لليبرالية الجديدة.يعتبر بورديو الخطاب الليبرالي الجديد خطابا قويا جدا ومن الصعب مواجهته، لأنه يمتلك علاقات القوى كلها التي تهيمن على العالم، والتي تساهم خاصة في توجيه الاختيارات الاقتصادية لأولئك الذين يهيمنون على هذه العلاقات الاقتصادية، وبالإضافة لهذه القوة الخاصة بهذه العلاقات (أي علاقات الاقتصادية) هناك أيضا القوة الرمزية للخطاب الليبرالي الجديد، الذي يسعى لهدم ممنهج للأنظمة الجماعية.

إذا كانت القراءات التي اقترحها لافال حول المفكرين فوكو وبورديو تبدو لنا غنية ومحفزة، فإنّ خطةالكتاب، التي منحت جزءًا إلى فوكو وآخر لبوردو،دون أن تجعلهم يتحاوران ويتجادلان، لم تنجح تمامًا في تقديم حصيلة عن منهجيهما في تحليل الليبرالية الجديدة ولا خلاصة نتائجهما عن معضلتها الاقتصادية وآثارها الاجتماعية الممتدة. هناك نقطتان،تتوافقان نسبياً، تظهران في النهاية وتتمثلان في اتفاق بين بوردو وفوكو على حقيقة وجود إنتاج تاريخي للإنسان الاقتصادي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، حقيقة أن كلاهما يرى أنّ الليبرالية الجديدة تعد "شكلا سياسيا يتحدى اليسار ويفرض إعادة تفكير شامل لنقد النظام القائم" (252). ومع ذلك، فإنّ هاتين النقطتين غير كافيتين لاقتراح قراءة مشتركة، أو على الأقل متوافقة لليبرالية الجديدة.

يمكن للمرء أن يتوقع تحليلات إضافية من المؤلف، انطلاقا من هذين الخطابين، ليأخذ بعين الاعتبار نقط التقاطع بين النظريتين المقدمتين، والتي تقدم للقارئ على أنهما كتلتان منفصلتان بيد أنهما مكملتان لبعضهما، رغم ميل فوكو في سنواته الأخيرة إلى الفكر الليبرالي، ومن ثم فمن اللافت للنظر أن لافال، الذي اقترح اعتمادا على فوكو وبوردو إنتاج تحليل شامل لليبرالية الجديدة، التي تربط المستوى الكلي لتلك التقنيات الحكومية ونظامها الاقتصادي من أجل الهيمنة. قام بتحليل مواز على المستوى الجزئي لموضوعات الليبرالية الجديدة، لكنه لم يطور التفكير في هذين الموقفين بعد تقديمهما بتفصيل في كلا القسمين المخصصين لفوكو أولا، ثم بورديو تاليا. فقد كان من الأفضل لو وضعها المؤلف في صنافات متقابلة أو متعارضة مما سيتيح للقارئ فرصة قراءة كتاب معرفي ومنهجي لفهم الليبرالية الجديدة وتحدياتها الراهنة.

----------------------------------------------------------------------------

التفاصيل : 

الكتاب: فوكو وبورديو ومسألة الليبرالية الجديدة

المؤلف: كريستيان لافال

الناشر: لاديكوفيرت فرنسا.

سنة النشر: 2018

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 264 ص

أخبار ذات صلة