في أصول العرب.. رحلة في آثار العربية السعودية

Picture1.png

تأليف: رومولو لوريتو

عرض: عزالدين عناية | أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا

يولي العديد من علماء الآثار والمؤرخين الإيطاليين، مثل ماريو ليفِراني، وباولو ماتييه، وباولو بروساسكو،وأليساندرو دو ميغري، البلادَالعربية اهتماما خاصا في أبحاثهم. وقد أُزيح الستار بفضل هؤلاءوغيرهم عن سلسلة من الكشوفات، كما أُنجزت في الغرض جملة من الأبحاث، غطّت، بشكل خاص، العصور القديمة للمنطقة. البارز أن نزراقليلا من تلك الأعمال قد وصل صداها إلى الثقافة العربية عبر لغات وسيطة، وفي غالب الأحيان بقيت حبيسة اللغة الإيطالية، لندرة التراجمة من تلك اللغة في أوساط العرب. وهي من المفارقات التي تحدّمن التواصل بين الثقافتين الإيطالية والعربية، رغم الجوار الجغرافي والتداخل التاريخي الذي يجمع الحضارتين.

الباحث الإيطالي رومولو لوريتو هو أحد تلامذة تلك المدرسة التاريخية التي يطبعها انشغال بالمنطقة العربية.وقد سبق له أن نشر ضمن منشورات جامعة "الأورينتالي" في نابولي مؤلَّفا بعنوان: "الهندسة السكنية والقصور الملكية في جنوب شبه الجزيرة العربية خلال حقبة ما قبل الإسلام (القرن السابع ق. م- القرن السادس م)" (336 صفحة). كما أنه بصدد إصدار مؤلف جديد بعنوان "الهندسة المعمارية الدينية في جنوب شبه الجزيرة العربية"، ضمن منشورات الجامعة المذكورة. فضلا عن مشاركات له في ملتقيات علمية، وصياغة جملة من التقارير الأثرية عن شبه الجزيرة. وهو في الوقت الحالي المكلَّف بالبعثة الأثرية الإيطالية في العربية السعودية.

كتابه "في أصول العرب"الذي نتولى عرضه هو من صنف الأعمال التاريخيةالأثرية،التي تتمحور حول منطقة الجزيرة مع إيلاءاهتمام للعربية السعودية، وذلك إبّان العصور القديمة. فقد بقيت المنطقة حسب تقدير الباحث بمنأى عن علماء الآثار لعدة أسباب، والكتاب هو محاولة للإحاطة بتاريخ المنطقة القديم.حيث يصوغ الباحث حوصلة لذلك من خلال ما باحت به الكشوفات الأثرية بُعيد الانفتاح على البعثات الأثرية الأجنبية. لذلك يأتي الكتاب، كما يوردصاحبه، بمثابة التتمّة لما شرع فيه عالم الآثار الإيطالي أليساندرو دو ميغري الذي تركّزتأبحاثه في اليمن، خصوصا في كتابه: "العربية السعيدة.. رحلة في آثار اليمن" المنشور سنة 1996.

وجراء تأخر الاشتغال المعمَّقبمنطقة الجزيرة، ساد حكمٌ خاطئٌ في السالف بين علماء الآثار أنّ المنطقة هامشية، بما يعني انتفاء المدينة والإنجاز الحضاري في العصور القديمة، غير أنّ ذلك الرأي سرعان ما تبدّد مع انطلاق الأبحاث الأولى وتعدد البعثات الأثرية، التي بيّنت أنّ تاريخ المنطقة حافلٌ بالتطورات. حتى وإن لاح أنّ سياق "التحضّر" ونشأة "المدينة" (1200 ق.م)، كلاهما قد جاءا في زمن متأخّر، مقارنة بما حصل في أوروك (الوركاء العراقية)، أي بعد مرور ألفيْ سنة من نشأة "المدينة/الدولة" في أوروك.

في مستهلّكتابه يحاول الباحث تحديد مفهوم العربي ودلالته من منظور الآشوريين، وكيف تولّدت التسمية تاريخيا كدلالة على تجمعات بشرية قاطنة في الجزيرة، مسلّطا الضوء على أقدم نقيشة في الشأن أوردت مفردة العرب، تعود إلى الملك الآشوري شلمنصر الثالث (854-824 ق.م) تُعرف بـ"المسلّة السوداء" تتحدّثُ عن نصرٍ تحققَ في العام 835 قبل الميلاد. كما يحاول الباحث استنطاق المقولات التوراتية أيضا بشأن التسمية، وكذلك المصادر المتأتية من حضارات جنوب الجزيرة، ثم يتمعّن في ما أورده الإغريق والرومان بشأن قاطني المنطقة، لينتقل إلى خبايا المذكور القرآني مع النبي سليمان (عليه السلام). لكن لا نلحظ قرارا لدى لوريتو على رأي معين أو ترجيحا بشأن مسمّى العرب، بل تنقلا بين مختلف الأقاويل.

في القسم الأول من الكتاب المعنون بـ"حقيقة ينبغي إزاحة الستار عنها"، وهو ما يتضمن عدة محاور. يتتبّع الباحث التشكّل المرفولوجي لشبه الجزيرة العربية، ويتناول التفسيرات المادية والمناخية بشأن المنطقة. وهو عبارة عن مدخل تمهيدي يتعلق بمنشأ المنطقة جغرافيا وماديا. وتحت عنوان "من التناسي إلى الاكتشاف مجددا" للمنطقة، يذهب الباحث إلى أنّذلك الحضور المستجدّ حصل مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأما على مستوى علمي فمع الاكتشافات الحديثة وأُولى البعثات العلمية.

في القسم الثاني من الكتاب والمعنون بـ"ما قبل التاريخ"، يتناول الباحث مظاهر الحياة الأولى في المنطقة إبان العصر الحجري، وهو ما يخصص له محورا على حدة. وفي محور آخر يتناول العصر البرونزي والتحولات المناخية وبداية مسار التصحر الذي لحق المنطقة.

في القسم الثالث المعنون بـ"من الواحات إلى المدن". يتناول الباحث أطوار التحضر التي شهدتها المنطقة، منذ مملكة مدين ومرورا بمدن محطات القوافل جنوب الجزيرة. ليخصص الفصل الثالث إلى البناء الاجتماعي وتشكلاته. يلي ذلك فصلٌ خُصّص إلى الجَمل وتدجينه، المؤثر في تاريخ المنطقة، ثم يُتبع ذلك بحديث مقتضب عن لغات المنطقة.

وفي القسم الرابع المعنون بـ"ممالك الجزيرة في الألفية الأولى قبل الميلاد" تناول الباحث علاقات المنطقة بالآشوريين والبابليين، ثم تطرّق في محور لاحق إلى مملكة لحيان وانتقل إلى اللخميين ثم الأنباط. لتلي ذلك حوصلة لما توصلت إليه الحفريات الإيطالية الفرنسية في منطقة دومة الجندل.

وفي القسم الخامس المعنون بـ"من محافظة رومانية إلى حدث الإسلام". يرصد فيه حضور روما في شمال الجزيرة، ليخلص الباحث إلى أنّ الروْمنة ما كانت عميقة، وما كانت بالغة التأثير في جزيرة العرب عموما، حيث كان حضور الثقافة الرومانية هامشيا سواء في شمال الجزيرة أو في جنوبها.

في القسم السادس والأخير من الكتاب المعنون بـ"تجارة القوافل.. نظام اقتصادي عالمي"، يتناول فيه النشاط التجاري في المنطقة. ثم ينتقل إلى محور آخر خاص بالإنسان والآلهة والتوحيد، فضلا عن تناول المظاهر الفنية قبل الإسلام.

لو تمعنّا في مستندات البحث، يمكن أن نلمحالعناصر التالية: أنّ البحث أثري،وبالتالي جاءت الأولوية فيه للمصادر المادية الموجودة على عين المكان تلتها المؤلفات. وفي الصنف الأول كان الباحث مدققا وحريصا، وفي ما تعلّق بالثاني فقد اعتمد المؤلف على مؤلفات باللغات الأوروبية التالية: الإنجليزية والإيطالية والفرنسية في الموضوع وأهمل الألمانية. وما أورده من مراجع لباحثين عرب، خصوصا من الجزيرة العربية، فهي مدونة أساسا بالإنجليزية. كما لم يعد الباحث في مؤلفه سوى إلى عنوان وحيد بالعربية "نقوش لحيانية من منطقة العلا"، من تأليف حسين بن حسين دخيل الله أبو الحسن، من منشورات وزارة المعارف السعودية 2002، أقدّر أن ذلك حصل بواسطة مترجم. من هذه الناحية ثمة نقصٌ في مصادر الكتاب ومراجعه، القديم منها والحديث. فاستقراء اللغات القديمة، وتبين خباياها الفيلولوجية، لا يقلّ شأنا عن تفحّص الآثار المادية، غير أنّ هذا الجانب نراه مطموسا معه ومع كثير من الآثاريين الغربيين المعاصرين عند تناول محاضن اللغات القديمة. فإلمام الباحث لوريتو بالعربية محدود جدا، أي في حدود المستويات الدنيا، ولا يتعدى معرفة بعض المفردات أو تهجي بعض الكلمات، لذلك أتساءل، مع احترامي للجهد المبذول في الكتاب، كيف لباحث في آثار الجزيرة العربية مع محدودية إلمامه بالعربية وبلغات المنطقة ولهجاتها، القديم منها والحديث، أن يغامر ويشرع في كتابة خلاصة تاريخية. فقد جعل نقصُ الإلمام بالعربية المؤلفَ في قطيعة مع ما دُوِّن بالعربية عن تاريخ المنطقة القديم. وفي العراق وسوريا وفي غيرهما من المناطق المجاورة مؤلفات مهمة في الشأن، دُوِّنت بالعربية ولم تُتَرجم إلى اللغات الأجنبية، فكيف يتيسر الإلمام الصائب بتراث المنطقة؟ إنّ الإلمام العلمي بتاريخ المنطقة لا غنى فيه عن العربية؛ ولكن ذلك أمرٌ مسكوت عنه في الدراسات الغربية التي تناولت الشرق عامة، مما أوقع العديد في أخطاء فادحة.

يبقى الكتاب مدخلا عاما وإطلالة مختصرة، يحاول صاحبه إعطاء بسطة عن تاريخ شبه الجزيرة، وليس بحثا مفصلا أو قراءة متأنية وشاملة لتاريخ المنطقة في العصور القديمة. ونقدّر أنّ الأمر متأتٍ من أنّ المنطقة لم تشهد بعدُ أبحاثا معمّقة بما فيه الكفاية أو مسحا شاملا، على غرار المناطق المجاورة في وادي الرافدين أو الهلال الخصيب، على مستوى البحث الأثري، بما يسمح بإعداد رؤية شاملة.

مع ذلك، الكتاب محاولةٌ للغوصفي العصور القديمة للمنطقة بشكل واسع وشامل، أي أنه لم يقتصر على عصر دون آخر، أو على حقل أثري دون غيره. ولعل نقطة فرادة الكتاب تلك هي نقطة ضعفه أيضا، لأن المساحة شاسعة والعصور متعددة، وهو ما لا يمكن أن يحيط به باحث بمفرده في بحث موجز، إن نظرنا إلى حجم الكتاب وكيفية التطرق إلى المواضيع بشكل مقتضب. وصحيح أنّ العديد من الدراسات أُنجِزت في الفترةالتي انفتحت فيها المنطقة على البعثات الأثرية الأجنبية، ولكنها لم تنته إلى مسحٍ شامل، فجلّ الدراسات اقتصرت على حقول محددة. وتبعا لِما أراده المؤلف من كتابه "في أصول العرب"، فهو بمثابة تقرير عام عن آخر تطور الأبحاث الأثرية في المنطقة، خصوصا وأن المؤلِّف هو المكلّف في الوقت الحالي بالبعثة الأثرية الإيطالية في العربية السعودية، بعد أن خلف أستاذه الراحل أليساندرو دو ميغري في المجال. صحيح ثمة دراسات متنوعة صادرة عن البعثات الأجنبية التي فُسح لها مجال التنقيب الأثري منذ مطلع الألفية الثالثة، لكن جلّ نتائجها كانت دراسات مرتبطة بحقول محددة أو واحات معينة أو مسائل محصورة.

الأسلوب اللغوي الذي صاغ به الباحث رومولو لوريتو كتابه واضح وبسيط، ولا يثقل على القارئ غير المختص بالآثار والتاريخ القديم. فكتابه يستسيغه القارئ العادي أيضا. إذ الغالب أن يجد القارئ غير المهتم بالمؤلفات الأثرية ثقلا، في هذا الكتاب ثمة تسلسل وثمة انتقال سلس من موضوع إلى آخر ومن محور إلى ما يليه. هذا وقد راعى الباحث شروط الكتابة العلمية، فقد حازت فهارس الكتاب حيزا معتبرا (39 صفحة). توزعت بين فهرس عام للمراجع والمصادر، وفهرس لمجموعات النقائش، وفهرس بأسماء الآلهة، وفهرس بأسماء الأعلام والشعوب والقبائل، وفهرس بأسماء الأماكن والجهات، ومراجع كذلك للصور الفوتوغرافية والخرائط.وبالإضافة إلى المعنونات الداخلية أردف الكاتب مؤلفه بملخصات موجزة على حاشية الكتاب لتيسير الاطلاع على فحوى الفقرات والصفحات. كما تعددت الصور التوضيحية في الكتاب (148 صورة) وقد غطت تقريبا كافة محاور الكتاب ومختلف الموضوعات.

وبشكل عام، لا نقف على رؤية عميقة بشأن تاريخ المنطقة المدروسةفي كتاب رومولو، ونقصد بذلك الانطلاق من المعطيات المكتشَفة إلى الانتهاء لصياغة تفسيرات بشأن الجزيرة. ونعيد ذلك إلى سببين: أنّالباحث هو في مستهل مشواره العلمي، والثاني أنّ المعلومات المتوفرة عن الجزيرة العربية في التاريخ الراهن، لا تزال ضئيلة مقارنة بمنطقة الهلال الخصيب أو وادي الرافدين، بما لا يسمح بعرض قراءات معمّقة عن تاريخ المنطقة. ولعل الإضافة التي يمثّلها عمل الباحث رومولو، في الوقت الحالي، في توفير خلاصة عامة عن ماضي الجزيرة بحسب ما خلصت إليه الأبحاث الأثرية الغربية حد التاريخ الراهن.

بالإضافة إلى ذلك، ثمة إيجازٌ مخلٌّ أحيانا في الكتاب.فالبحث "في أصول العرب" يقتضي عودة إلى مفاهيم الاجتماع المحورية، ونقصد مفهوم القرية والمدينة والقبيلة والواحة والسوق والأطوار الحضارية، وأي شكل آخر من أشكال التطور الحضري، الذي عرفته المنطقة، وهو ما كان غائبا. في الواقع كنت أنتظر خلاصةً تاريخيةً تفي الموضوع حقه، وتعبّر عن المخزون الاجتماعي، والتطور العقدي، والبناء المؤسساتي في أشكاله المبكرة، غير أني وجدت نفسي أمام عناصر متناثرة من التاريخ القديم تفتقر أحيانا إلى الصياغة الجامعة والخلاصة العميقة.

وبوجه عام، المؤلف باحثٌ أثريٌّ كلاسيكي في اعتماده المراجع في كل ما أورد من قول وكشف وخبر. اعتمد في تأليف كتابه، على مستوى كرونولوجي، منهجا تحقيبيا، وحاول من خلاله الإلمام بمختلف أطوار تاريخ المنطقة القديم، دون إيغال في العديد من المسائل. والكتاب كما أراده صاحبه هو بحثٌ في الأصول الأولى والقديمة للعرب. صحيح تتطلّب المسألة حذرا ودقّة ولكنها لا تقتضي إيجازا مفرطا كما فعل الباحث رومولو أحيانا. ما كنّا نتمناه أن يولي المؤلف عناية أوفر إلى لغات المنطقة القديمة، وهو ما لم نظفر به. وكما أشرنا آنفا ذلك ناتج عن ضعف التكوين اللغوي في تراث المنطقة، فلا نتصور باحثا أثريا مقتدرا ودرايته محدودة بلغات المنطقة المعمرة منها والبائدة.

يبقى الكتاب مدخلا ميسّراومفيدا لدراسة تاريخ المنطقة القديم. وعلى ما فيه من هنات، يمثّلالبحث إنجازا مقدَّرا لما يفيده من إخبار عمّا توصلت إليه الأبحاث، خصوصا وأن صاحبه غدا مكلَّفاً بالبعثة الأثرية الإيطالية في العربية السعودية.

--------------------------------------------------

التفاصيل :

الكتاب:في أصول العرب.. رحلة في آثار العربية السعودية.

تأليف: رومولو لوريتو.

الناشر: موندادوري، (ميلانو) باللغة الإيطالية.

سنة النشر: 2017.

عدد الصفحات: 298 ص.

 

أخبار ذات صلة