برميل البارود العربيّ

Picture1.jpg

بحثاً عن الجذور العربيّة للعنف الإسلاميّ ..لِمارك هيرمان

سعيد الجريري |   *كاتب عربي مقيم في هولندا

يشتغل الفيلسوف الثقافي والفيلمولوجي الفلمنكي مارك هيرمانعلى تاريخ العنف وجذوره،وجدل الحرب والسلامفي العالم، ضمن مشروعه الفكري الذي أنجز فيه نحو عشرين كتاباً في الثقافة والحضارة والسياسة والدين. ويأتي كتابه الأخير "برميل البارود العربيّ.. بحثاً عن الجذور العربيّة للعنف الإسلاميّ" - 2017،في السياق نفسه بعد كتبه الأخيرة "العنف الديني لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين" – 2013، و"التراث الأوروبي لنابليون" – 2014، و"الحرب والسلام في 2015" و"1000عام من الرِّق: لعنة إفريقيا السوداء" – 2016.وليس اشتغال هيرمان على التاريخ العربي والإسلامي طارئاً، فقد أصدر عام 2005 كتابه المسوم بـ"أيام شرقية.. ليالي عربية: السياسة والدين في تاريخ الإسلام" مقارباً فيه العلاقة الحميمة بين الدين والسياسة في العالم العربي والإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى العصر الراهن.

يتألف الكتاب من ثمانية فصول تشمل التركة العثمانية، وصحوة العالم العربي، والحلم القومي العربي، والصدمات الإيرانية والأفغانية وعلاقة التجاذب عربياً وإسلامياً، وتفكك الاتحاد السوفييتي والتمدد الأمريكي في المنطقة، وتحولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والمسار الإمريكي للحرب، ثم موجّهات ما عُرف بالربيع العربي وتداعياته.وقد مهّد المؤلف لفصول كتابه بمقدمة عن بنية العالم العربي من حيث هو مركز للإسلام، ثم ختمهبخلاصة أحاطت بتجليات التصدع العربي الراهن باعتباره نتيجة منطقية للمقدمات المبحوثة في الكتاب.

يثيرهيرمان سؤالاً جدلياً عما يسميه العنف الإسلامي، موجهاً فرضية بحثه نحو جذوره العربية، منطلقاً من اللحظة الراهنة في المنطقة، حيث لا مثيل لما تشهده من حروب وصراعات على مستوى العالم، فثمة ما لا يقل عن خمسة حروب مستعرة في العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال، ومازال كلّ من الجزائر ولبنان يعاني من جراح الحرب الأهلية الأخيرة، ولم تزل فلسطين وإسرائيل في حالة حرب منذ 68 عاماً، فيما أدّت حرب الأربعين سنة في السودان إلى انفصال الجنوب.

ويسوّغ المؤلف توجيهه بتسجيل المنطقة العربية أعلى مستوى في العالم من حيثالارتباط بموجة الهجمات الإرهابية التي عادةً ما تنسب إلى (الإسلاميين) على مدى العقود الماضية، فيهذه المنطقة التي تضم أكثر من ربع سكان العالم الإسلامي، ومعظم ضحاياها في العالم العربي نفسه، معللاً ذلكبكون جذور العنف ليست في الإسلام من حيث هو دين، وإنما في العالم العربي الذي يميل إلى اتهام الآخر وفق نظرية المؤامرة، في حالة من حالات الهرَب إلى الأمام، عوضاً عن مواجهة سؤال جذور العنف الذي يقاربه هيرمان في هذا الكتاب المثير، ويكثفه بجملة قصيرة دالة ترى أن "المنظمات الإرهابية هي أطفال حرب". ويعزز وجهة نظره بأن التاريخ يمكن أن يساعد في فهم هذه الظاهرة وتفسيرها، فيعمد إلى تقديم لمحة عامة لكنْ مفصّلة عن القرون العربية الإسلامية الماضية وبخاصة من القرن السابع الميلادي إلى الثاني عشر، كخلفية تاريخية، منوّهاً بالعصر الذهبي، وما انماز به العرب والمسلمون ولاسيما في بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة من تقدم في حقول الثقافة والعلوم بفارق كبير مقارنةً بمعاصريهم عندما كانت أثينا – على سبيل المثال - مجرد قرية. غير أن ذلك التقدم الثقافي والعلمي لم يدُم، فقد توقف بفاعلية الغزو المغولي، ثم تلاشى إلى حد بعيد، حتى كاد أن يختفي، إذ لم تكن الحقبة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر مضيئة على أي حال، ولم تكن الحقبة الاستعمارية الغربية إلا شكلاً من أشكال الغزو، فضلاً عما تلاها من اهتزاز غيّر خرائط المنطقة سياسياً، ووضعها على مفترق طرق مفخخ بالمشاريع السياسية والأنظمة الحاكمة العاجزة عن الإنجاز غالباً.

ولئن كان التاريخ العربي الإسلامي المشترك من الروابط المرشحة لإحداث حالة تجانس حقيقية، فإن الوقائع أظهرت أن هذه الرابط كان هشاً، إذ غالباً ما تعلو عليها القومية/القُطرية المروّعة التي قد تفوقها العشائرية والقبلية أهمية إذ تتخذان شكل الدولة قناعاً معاصراً. وإلى جانب الرابط التاريخي كان الرابط الديني (الإسلامي) حاضراً دائماً، لكنه لم يكن مهيمناً على وجه التأكيد، فثمة اتجاهات ونزعات مختلفة: عرقية، وقومية، ومذهبية لا يمكن التوفيق بينها، إلا أنها قد تتفق بدرجة ما في الرؤية المشتركة إلى طبيعة العدو الخارجي كما تبدّى في شكل الاستعمار الفرنسي والبريطاني ثم الرأسمالي الأمريكي. ولم يكن البيت العربي المشترك المتمثل في الجامعة العربية هو الآخر جامعاً حقيقياً للعرب، فقد أثبتت الأحداث والتحولات في المنطقة أن الجامعة العربية ظلت عاجزة إزاء التحديات، ولم يتعدّ دورها الإطار البروتوكولي الرسمي، ولم ترقَ إلى مستوى يغيّر موازين القوى ومآلات الأحداث في البلدان العربية التي تعرضت لهزّات داخلية أو خارجية على حد سواء، وفي السياق نفسه لم يكن "الكومنولث" الإسلامي معبراً عن تعاون حقيقي بين الدول الإسلامية المنضوية فيه.

إنّما شهدته المائة السنة الماضية من أحداث وتطورات لم تؤدّ إلى تحول باتجاه الديمقراطية – يؤكد هيرمان - بل على العكس تماماً فقد تآكلت الديمقراطية – بقدر ما هي موجودة – في معظم البلدان، وتحولت إلى ديكتاتوريات عنيفة أو أقل عنفاً. هذه الأنظمة الديكتاتورية واجهت الداخل، وفي كثير من الأحيان كانت تلقى دعماً أو تدخلاً خارجياً على خلفيات أيديولوجية ضد تفكير الناس وقناعاتهم واختياراتهم السياسية والفكرية والثقافية، ما أدى إلى تعنيف بعض الفئات أو الجماعاتواضطهادها سواء رافق ذلك التعنيف والاضطهاد تطهير عرقي أو ما هو أسوأ منه أم لا. إلا أن ذلك كله كان يؤدي في نهاية المطاف إلى مناوأة أنظمة الحكم في تلك البلدان، وما يترتب على تلك المناوأة من عواقب اجتماعيةوتبعات اقتصادية وسياسية سلبية على السكان المحليين، إذ كلما فقدت مجموعات معينة من السكان أراضيها وسبل معيشتها أو سلامتها، سارعت إلى البحث عن الأمن والاستقرار في المنطقة العربية أولاً، ثم في الغرب لاحقاً. فهذه النزوحات المتوالية لمجموعات كل مرحلة، تكونبما لا يدعو للدهشة أو الاستغرابعرضة لتأثير الأفكار الراديكالية المثقلة بخطاب الكراهية بدافع الانتقام. إذ أن هذا الكوكب المتفجر من التوترات الداخلية يُذكي،بشكل رئيس، عوامل زعزعة الاستقرارعبرالتجاذب بين الحكام وذوي النفوذ الاجتماعي (القبلي/العشائري/المذهبي) وعادةً ما يكون الإسلام  - بحسب تعبيره - صلصةمشهّية يتم سكبها فوق الطبق لإخفاء الواقع أو الحقيقة، مع عدم إغفال العامل الخارجي المتمثل في التأثير الخبيث للقوى العظمى سواء من الغرب أو روسيا، ودعمهما الديكتاتورياتِالعربيةَلتبقى المنطقة بؤرة صراع تُولّد راديكاليين جدد بمسميات مختلفة، على نحو غير مفاجئ، مادامت تلك الديكتاتوريات تضمن مصالح تلك القوى، وتعملكأدوات لتنفيذ الأجندات بحسب متطلبات كل مرحلة.

إن فرضيةأنْ ليس الإسلام هو السبب الحقيقي لموجات الإرهاب الأخيرة ليس في الغرب فقط، وإنما بشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، هي ما يميل إليها هيرمان، لكنه يضعها  للمساءلة من حيث أهمية تحديد هوية الفاعل الحقيقي، فيرجح العامل "العربي" على العامل "الإسلامي" جذراً للمشكلة، لكن ليس من زاوية عرقية وإنما بمقاربة ثقافية تاريخية تتجاوز فرضية كون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مصدر المشاكل كلها في المنطقة.

ويعرض المؤلف لملامح علاقة العالم العربي والإسلامي المزدوجة مع الغرب كراهيةً وغيرةً في آنٍ معاً، مقترحاً إجابة عن سؤالهالإشكالي، تفسر ظاهرة الاستياء العربي الإسلامي،فالمنطقة العربية ساحة كبرى للعمليات الإرهابية، لكن الباعث عليها، كما هو معلن، ضرب المصالح الغربية أو من يديرونها بالوكالة عنه. فالمعنِيُّ بالإرهاب هو الغرب وإن تكن الضحية، غالباً، عربية أو مسلمة (سنية/ شيعية/ايزيدية/ كردية/ مسيحيةعربية)، حيث لا يُعجز التسويغ الديني تلك التنظيمات والجماعات، في حين يعلل العرب والمسلمون وجود تلك التنظيمات والجماعات من حيث هي باعتبارها صنيعة غربية لخدمة أجندات المخابرات العالمية وأذرعها في المنطقة. لكن هيرمان لا يغفل مفاعيل ومن ثم تداعيات التدخل الغربي المستمرفي شؤون المنطقة ورسم سياساتها المستقبلية، تحت ذرائع مختلفة أنواعها، بقصد تعزيز الهيمنة الاقتصادية والنفوذ السياسي.

    ومما يُعنى به هيرمان إعادة قراءة التاريخ واستكناه العلاقات الداخلية لسيرورة الأحداث والوقائع سواء في ما له صلة بعلاقة الأنا  بالآخر (الخارجي) أم الأنا في علاقاته الضدية مع آخره (الداخلي)، فيقارب في هذا السياق ثنائية السنة – الشيعة بما هي محرّك ديني للصراع الذي توظفه القوى العظمى لتمرير سياسات معينة، واستنزاف المنطقة بشرياً واقتصادياً، وإدخالها في دوامة سوق السلاح العالمي، فيقف عند لحظة استبدال الغرب شرطي الحراسة في الخليج، عندماشهدت نهاية السبعينيات من القرن الماضي إسقاط شاه إيران وتصعيد الإمام الخميني وثورته الإسلامية المتجاوزة حدودها القُطرية، وامتداداً لذلك نشوب الحرب الإيرانية - العراقية  ثم احتلال الكويت وصولاً إلى كذبة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذها جورج بوش وتوني بلير ذريعة لإسقاط نظام صدام حسين، واحتلال العراق وما نتج عنه دمار شامل وتهجير وتشتيت، كالذي يحدث حالياً في الحالة السورية من دمار وتهجير وتشتيتلأكثر من نصف السكان في ظل دعم بوتين نظام بشار الأسد عسكرياً وسياسياً. وهو ما استدعى قراءة المواقف الغربية من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وتفاعلاتها في إذكاء حالة الصراع الوجودي، لإبقاء المنطقة ساخنة بأزمات مركّبة لا أفقَ سياسياً لنهايتها.

وعلى النسق نفسه يقرأ هيرمان الحرب الفرنسية الجزائرية وما يبقى تحت رماد الحروب من جمرات لا تنطفئ، وسرعان ما تشعلها أي ريح، في لحظة ما. وبموازاة ذلك يعيد قراءة ما تعرض له الأرمن من أحداث قتل وتهجير من قبل السلطات العثمانية عامي 1916-1915التي تُوصَف بالجريمة الكبرى أو الكارثة، ويراها هيرمان وفقاً للوقائع شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية مازال يمثل موقفاً جدلياً حتى الآن بين تركيا والغرب.

وينوه المؤلف بتحولات إدخال المطبعة إلى مصر والعالم العربي كأثر إيجابي لحملة نابليون، ومن ثم إرهاصات الحلم القومي العربي الذي بشّر به جمال عبدالناصر، وعلى الضفة الأخرى تحوُّل تركيا أتاتورك التاريخي إلى الدولة العلمانية "الحديثة"، الذي وضع أسس نموذج مختلف في المنطقة. لكن دول ما بعد الاستعمار العربية والإسلامية في المنطقة لم تقدم النتائج المأمولة لا على المستوى الاقتصادي ولا السياسي ولا الثقافي ولا الديني، الأمر الذي هزّ الثقة في إقامة مشروع الدولة "العلمانية" العربية، وأدى إلى ارتفاع أصوات جماعات "الإسلام هو الحل" بخلفيته السياسية (ومن ثَم الجهادية). وليس غريباً، في ما يرى، أن يحدثذلك في إيران الإسلامية 1979بالتزامن مع ما اتخذته جماعة الإخوان المسلمين في مصرمن نهج ومسار، ثم ما تلاه من انتشار النار في الهشيم في أنحاء عربية وإسلامية مختلفة.

الحروب والصراعات في المنطقة أنتجت وما زالت تنتج أجيالاً ومراحل غير مستقرة تميل إلى العنف، ما يعلل حالة التقبل الواسعة للجماعات العنفية والتنظيمات الإرهابية،كتنظيم القاعدة في جزيرة العرب ثم تنظيم دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذي وُوجِهَ بتحالف دولي بقيادة أمريكا منستين دولة، قد يبدو غريباً أن يكون بينها عشر دول عربية وإسلامية، في الوقت الذي يبدو التحالف الحقيقي بين الدول الإسلامية ضئيلاً جداً، في مواجهة التحديات التي تواجهها على مختلف الأصعدة،ومنها عدم قدرتها على إعادة قراءة النص القرآني قراءة معاصرة والاتفاق على ما هو من أصل الدين وما هو غير أصيل فيه، بحيث لا يجد المتطرفونمداخل نظرية تسوغ عملياتهم الإرهابية باسم الدين نفسه.

ويقف هيرمان إزاء ما حظي به الاتجاه الوهابي من دعم من قبل المملكة العربية السعودية في جميع أنحاء العالم الإسلامي والشتات العربي في أوروبا وأمريكا وغيرهما، وما نجم عنه من استفحال خطاب الكراهية وتمكين الجماعات المتطرفة من السيطرة على الوعي الديني ومؤسسات تشكيله وتوجيهه وجهة وهابيةمتشددة خلخلت السلام الاجتماعي في العالم العربي والإسلامي وشيطنت الغرب وكل ما هو غربي باعتباره العدو الرئيس، في إطار ثنائية الكفر – الإيمان، وما يتماس معها من ثنائيات كالولاء والبراء. غير أن المؤلف يرى أنّ استمرار ذلك الدعم لا يعني أن ستكون هناك حرب إسلامية مركزية، في ظل ما يبشر به الغرب من سلام مسيحي – كما يقول – ما دامت ساحات القتال في العالم كله والعربي والإسلامي على وجه الخصوص ما زال يسيطر عليها منتجو السلاح الغربي ويوجهون اتجاهات الصراع وفق أجندات غير دينية بالأساس، وإن تكن أقنعتها ذات ملامح دينية طائفية.

   كتاب"برميل البارود العربي .. بحثاً عن الجذور العربية للعنف الإسلامي" هو ما طوَى به مارك هيرمان آخر صفحات مشروعه الفكري، بوفاته في السابع من مارس الماضي 2018، بعد تجربة فكرية مميزة، كان فيها ممن لا يناصبون الإسلام العداء، ولا تمسهم شواظ الإسلاموفوبيا التي انتشرت في الغرب كردة فعل، فقد كان مفنداً لكثير من الطروحات المتهافتة حول الإسلام والمسلمين، ولا يحجم عن المقارنة بين الغزو الاستعماري الغربي و"الخطر الإسلامي" فيرى أن أنه "لعب أطفال" إذا ما قورنبآثار الغزو الاستعماري قديماً وحديثاً.

-----------------------------------------------------------------------------

التفاصيل :

عنوان الكتاب: برميل البارود العربي .. بحثاً عن الجذور العربية للعنف الإسلامي

المؤلف: مارك هيرمان

الناشر: هوتكيت ـ أمستردام،  سبتمبر 2017

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات: 253

أخبار ذات صلة