التنوير الآن: قضية العقل والعلم والإنسانية والتقدم

220px-Enlightenment_Now.jpg

 

تأليف: ستيفن بينكر

عرض: فينان نبيل| كاتبة وباحثة مصرية
 

التنوير حركة سياسية، اجتماعية، ثقافية وفلسفة واسعة بدأت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وتطورت في فرنسا واتسع مفهومها ليشمل كل فكرة تزيد تنوير العقول من ظلام الجهل والخرافة، من أشهر روادها (فولتيير، روسو، مونتيسكيو، ديدرو، هيوم)، وكانت مهمة التنويرين من المثقفين والفلاسفة تشجيع الناس على إعمال العقل، وتحريره من خلال النقد، التحليل، النقاش، والجدل.
 

هاجم مفكرو عصر التنوير سلطة الكنيسة ومؤسسات الدولة القائمة. شهد القرن الثامن عشر أيضاً صعود الأفكار الفلسفية التجريبية، وتطبيقها على الاقتصاد، والسياسة، كما كانت تطبق في العلوم الطبيعية.
 

يرى " بينكر" أن عصر التنوير مَثّلَ مصدراً لكثير من الأفكار الملهمة له، رغم أن بعض الأفكار كانت ملائمة تماماً للعصر، وبعض الأفكار الأخرى أثبتت عدم صلاحيتها فاختفت، فعلى سبيل المثال كانت السعادة في القرن الثامن عشر تعني ما قاله "جون آدمز" السعادة العامة والاجتماعية " فالسعي وراء السعادة ينبع من تأمين الدولة ضد التهديدات الخارجية " الجيوش الغازية " والتهديدات الداخلية "الديماجوجيين"، ولم يكن الحزن مضاد السعادة بل الطغيان، والفوضى، بينما يرى بينكر أننا اليوم لا نعرف سوى المعنى الخاص للسعادة.
 

 يؤمن بينكر بفكرة التقدم، ويرى أن منكري التقدم لا يملكون سوى التذمر والتشاؤم اللذين يسببان لنا العجز ويهددان بقاءنا ذاته. ويعتبر بينكر "التقدم" أكثر الحجج المثيرة للجدل، فهو عنده بمثابة قانون الطبيعة، ويقدمه بديلا أمثل لتفسير التاريخ .
 

يعترف بينكر بأن هناك تهديدات عالمية كبرى مثل "الزيادة السكانية، ونضوب الموارد، والحروب النووية وتغير المناخ، إلا أنه يرى أن هذه القضايا ليست نهاية العالم، ولكنها مجرد مشكلات يتعين علينا حلها، كما يحثنا على تغيير طريقة تفكيرنا تجاهها، فقد اهتم بطريقة التفكير أكثر من القضية التي نفكر فيها.

افتتح كتابه بدعوة إلى الرجوع لمبادئ عصر التنوير حيث كان المنطق والعلم والإنسانية التي تعد من الفضائل العليا، ويثبت "بينكر" أن مبدأ التنوير ما يزال جوهر الإبداع البشري ومصدرا لقيم الخير.

كتاب "التنوير الآن" هو الأحدث في سلسلة طويلة من محاولات استدعاء "التنوير" للدفاع عن الإنسانية ضد التهديدات التي تلوح في الأفق، ففي ألمانيا (1930) لجأ إليه الفيلسوف " كارسير" حتى يمنع الصعود المشؤوم للفاشية والنازية، وخلال الحرب الباردة استدعى الأمريكيون ما أطلقوا عليه "عصر التنوير الأمريكي" كملاذ آمن يحميهم من الجماعة الملحدة في الاتحاد السوفييتي "، فكل جيل يستدعي التنوير بصياغة جديدة، فكما يقول فولتيير "إن لم يكن التنوير موجودا فسيتعين علينا اختراعه".

اهتم المؤلف بربط "التنوير" بقضايا القرن الحادي والعشرين التي لم تكن معروفة في القرن الثامن عشر، إنه يريد أن يرسم خطا تصاعديا لازدهار الإنسان منذ مائتي عام حتى الآن. فيؤكد بينكر أن الأفكار السلبية هي من أهم الأسباب التي تجعل الناس يقللون دائمًا من قيمة التقدم الذي تحرزه الإنسانية

فشعوب العالم اليوم تعيش حياة طويلة وسعيدة ويتمتعون بصحة أفضل من الماضي، فلماذا يعتقد الكثيرون أن الأمور تزداد سوءًا؟.. إنه يقدم رؤية متفائلة عن ارتفاع متوسط الأعمار، وارتفاع ناتج الدخل القومي وانخفاض معدل الوفيات بين الرضع والأمهات، وتراجع معدلات الفقر والمجاعات، وازدياد الإنفاق الاجتماعي، ويستبد به التساؤل الذي ينطلق من اعتقاده بأنَّ الحياة أصبحت أكثر إثارة فلماذا لايشعر الناس بالسعادة بما يتوافق مع هذا القدر الهائل من التقدم.

 ويشير إلى أهمية استخدام الأرقام كي نتمكن من تميز الحالة الحقيقية للعالم، وهذا مافعله (بينكر) في كتابه "التنوير الآن".

توصل"بينكر" بالبيانات والأرقام لعدة حقائق منها:  أن العالم أصبح أغنى بمائة مرة مما كان عليه قبل مائتي عام، وعلى عكس الاعتقاد السائد فإنَّ ثروة العالم موزعة بشكل أكثر تساويًا، موضحا أنَّ الفقراء الأمريكيين يتمتعون بكماليات لم تكن متوفرة منذ مائتين وخمسين عاماً (مثل الكهرباء، وتكييف الهواء، والتليفزيونات الملونة)، كما أنَّ الباعة الجائلين في جنوب السودان يحملون هواتف نقالة أفضل وأحدث من الهاتف الضخم الذي تباهى به  "جوردون جيكو" ذلك الرجل القوي الخيالي في "وول ستريت"عام 1987.

ومنحت الأجهزة الناس مزيداً من أوقات الفراغ، وباتت المواقع الترفيهية تقدم مجموعة رائعة من وسائل الترفيه  لملء أوقات الفراغ، فظهور "آلة الغسيل" وإن كان لا يبدو بلا قيمة في مخطط التقدم العملاق، إلا أنه قد حَسّن نوعية الحياة من خلال توفير الوقت خاصة للنساء بما يقارب نصف يوم كل أسبوع، يمكنهن قضاؤه في عمل جديد أو تثقيف ذواتهن،  فالوقت المستغرق في الغسيل عام 1920 كان يستغرق أحد عشر ساعة ونصف الساعة في الأسبوع وتقلص إلى ساعة ونصف عام 2014.

إن التقدم الذي أحرزه العالم في مطلع الألفية الجديدة لم يكن وليد الصدفة، إنه استمرار لعملية تم إطلاقها وفق نسق من تنوير بدأ في أواخر القرن الثامن عشر، وحقق تحسناً في كل مقاييس ازدهار الإنسان، ليتواصل في القرن التالي، فأدى تقدم الطب إلى عيش البشر حياة أطول وبصحة أفضل، وارتفع  متوسط ​​الأعمار إلى (واحد وسبعين عامًا) في مختلف أنحاء العالم، وإلى (واحد وثمانين عاما ) في العالم المتقدم بعد أن كان  من المتوقع أن يصل إلى الثلاثين في مطلع عصر التنوير. وعندما بدأ التنوير، كان ثلث الأطفال المولودين في أغنى أجزاء العالم يتوفون قبل بلوغهم سن الخامسة، بينما اليوم لا يموت سوى 6% من الأطفال في أفقر الأجزاء على امتداد العالم. كما تراجع عدد ضحايا الحروب لأقل من ربع ماكان عليه في الثمانينيات، وأقل من نصف عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية .

ارتفع معدل الذكاء في أغلب أنحاء العالم بمقدار ثلاثين نقطة مما يعني أن الشخص العادي اليوم يسجل نسبة ذكاء أفضل بنسبة 98% قبل قرن من الزمان، ويعزو بينكر ذلك إلى تحسن نوعية الغذاء، وتقديم فرص التعليم للجنسين، والاعتماد على التفكير التحليلي داخل وخارج قاعات الدرس من خلال ثقافة تعتمد على شاشات العرض الرقمية والأدوات التحليلية (مثل جداول البيانات والتقارير)، والرموز البصرية، والمفاهيم الأكاديمية، وهذا يجعلنا أكثر ذكاءً بثلاثين ضعفا من أسلافنا. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن بينكر تجاهل العوامل الوراثية في الذكاء على الرغم من أنه باحث في علم النفس.

ازدادت الأنظمة الديموقراطية، فقبل قرنين كان واحد بالمائة فقط من الناس يعيشون في أنظمة ديموقراطية، وكان الرجال والنساء من الطبقة العاملة محرومين من التصويت آنذاك. أما الآن فيعيش ثلثا الشعوب في أنظمة ديموقراطية، ففي عام 1988 كان عدد الدول الديمقراطية خمسة وأربعين دولة فقط، بينما اليوم أصبحت مائة وثلاث دولة تنتهج الديمقراطية، وحتى الدول الاستبدادية، مثل الصين، هي أكثر حرية مما كانت عليه في السابق.

ارتفعت نسبة الاعتقاد في قيم المساواة بين الأقليات، فمنذ وقت ليس ببعيد، كان لدى نصف بلدان العالم قوانين تميز ضد الأقليات العرقية، فإنّ المزيد من البلدان لديها اليوم سياسات ترفض ذلك التمييز، وفي مطلع القرن العشرين، كان بإمكان المرأة أن تصوّت في بلد واحد فقط، واليوم يمكنها التصويت في كل بلد يمكن للرجال التصويت فيه، وأصبحت المواقف تجاه الأقليات والنساء أكثر تسامحاً على نحو مطرد، ولا سيما بين الشباب،  الذين يعدون نواة لمستقبل العالم.

كانت الحرب في الماضي هي الحالة الطبيعية، والسلام مجرد فترة  "هدنة" بين الحروب؛ بينما الحرب اليوم بين البلدان أصبحت أقل من الماضي، والحروب الداخلية تغيب عن خمسة أسداس العالم،  ويمكن القول إن نسبة الأشخاص الذين يقتلون سنوياً في الحروب تبلغ حوالي ربع ما كانت عليه في منتصف الثمانينيات، وهي سدس ما كانت عليه في أوائل السبعينيات، وأقل ستة عشر مرة مما كانت عليه في أوائل الخمسينيات. وبحسب المعطيات التي يقدمها بينكر، شهد العالم ثلاثة وعشرين حرباً في عام 1988، أسفرت عن معدل قتل (3.4 قتيلا) لكل مائة ألف، بينما اليوم نشهد(اثنتا عشر )حرباً تسجل معدل قتل هو (1.2قتيلا) لكل مائة ألف، وقبل تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، لم يكن لدى أي مؤسسة تلك السلطة التي تؤهلها لمنع البلدان من اندلاع حرب فيما بينها، وعلى الرغم من وجود استثناءات، إلا إن التهديد بالعقوبات والتدخلات الدولية يعد رادعاً فعالاً لمنع اندلاع الحروب بين الدول .كما انخفض عدد الأسلحة النووية من 60 ألفاً إلى 10 آلاف وشهد العالم في تلك الفترة 46 (ستة وأربعين)  تسرباً نفطياً كبيراً، بينما شهد العام 2016 خمسة حوادث فقط.

يرى بينكر أن التنوير ما يزال قادراً على الفعل والتأثير، فعوضاً عن العقيدة والتقاليد والسلطة عند أجدادنا، ثمة العقل والمناقشة ومؤسسات البحث عن الحقيقة التي حلّت محل الخرافات، والعلم محل السحر، لقد تحوّلت القيم اليوم من تمجيد القبيلة أو الأمة أو العرق أو الطبقة أو الإيمان، نحو البحث العملي عن كيفية تحقيق ازدهار الإنسان في أنحاء العالم.

استخدم "بينكر"في كتابه الجديد"التنوير الآن" طريقة تتبع ظواهر بعينها، وقدم صورة تاريخية لكيفية وأسباب تحسن العالم، وقدم لنا كما هائلاً من المعلومات بطريقة واضحة وسهلة الفهم.

توصل بينكر إلى عدة نتائج من بينها، أنه كلما أصبحت المجتمعات أكثر ثراءً وأفضل تعليماً، فإنها توجه نظرها إلى العالم بأسره، فمنذ بزوغ حركة الدفاع عن البيئة في السبعينيات، قل انبعاث الملوثات في العالم، تم الحد من إزالة الغابات، تقلص تسرب النفط في البحر، وزادت المحميات الطبيعية، وتم إنقاذ طبقة الأوزون.

بينكر متفائل فيما يخص الذكاء الاصطناعي ويرفض تماماً فكرة أن تطيح الروبوتات بالبشر الذين صنعوها، وقد يكمن الخوف فيمن يتحكم في الروبوتات فإن كان الأمر في هذه المرحلة ليس مخيفًا إلا أنه في مرحلة ما فإن من لديهم الذكاء الاصطناعي ويتحكمون به سيشكلون قضية هامة تشغل المؤسسات الدولية.

يقف أستاذ علم النفس الاجتماعي "ستيفن بينكر" في مواجهة كل الذرائع التي يسوقها الغرب، باحثون ومثقفون وناشطون وسياسيون يساريون ويمنينون، يتفقون على شيء واحد هو "أن العالم يزداد سوءا"، فالتشاؤم عند بينكر له مكان محدود يتمثل في تركيز الغريزة البشرية على المشكلات حتى يتم حلها غالباً. ويواجه الباحث  الصورة التي تقدم العالم على أنه سلسلة من الأزمات والإخفاقات العميقة، بصورة أخرى متفائلة ويقدم مؤشرات تؤكد تراجع مظاهر السوء في عالمنا مثل الجريمة والانحلال الأخلاقي ومؤشرات الإرهاب.

يقول بينكر في نهاية كتاب "التنوير الآن": " إننا لن نحظى بعالم مثالي أبدا وسيكون الأمر خطرا لو بحثنا عنه، لكن إذا استمر تطبيق المعرفة فلن يكون هناك حد للإصلاحات التي يمكن أن نحققها لتعزيز ازدهار الإنسان. والمعرفة في نظره هي إحدى المنح التي قدمها لنا عصر التنوير، وهي القيم التي لخصها إيمانويل كانط بعبارة "تجرأ على المعرفة"، فهو يرى أن تطبيق المنطق على المشكلات يمكننا من حلها والانتقال لمشكلات أخرى.

إنه قد يصعب علينا كقراء هضم هذا الكم من التفاؤل المبتهج، فقد نكون الآن أكثر ثراءً من الناحية المادية لكننا يمكن أن نكون أقل سعادة عندما نعرف أن هناك آخرين يملكون أكثر، وقد يكون لدينا حواسيب خارقة بين أيدينا، ولكنها تسببت في وباء الوحدة لدى الشباب، وعزلتهم عن مجتمعهم الحقيقي والانصراف إلى عالم افتراضي لانستطيع أن نعرف أبعاده أو مدى تأثيره، والأسلحة النووية وإن قل عددها لا يوجد ضمان حقيقي لعدم استخدامها. كما أن الديموقراطية في العالم يشوبها الكثير من الشوائب، فنهوض الشعبوية في الولايات المتحدة يطعن بفرضية بينكر حول زيادة الديموقراطية، فمؤيدو ترامب ومختلف الأحزاب الاستبدادية في أوروبا يميلون إلى أن الماضي كان ذهبيا، وأن الخبراء لا يمكن الوثوق بهم، وأن المؤسسات الديموقراطية الليبرالية مؤامرة لإثراء النخبة، بل ويريد بعضهم هدم هذه المؤسسات والبدء من جديد، وهذا من شأنه أن يقطع التقدم التدريجي الذي يؤيده بينكر . كما أن وجود الأمم المتحدة لم يمنع من انتهاك قراراتها أحيانا بل وتجاهل وجودها ذاته أحيانا أخرى في فلسطين والعراق وسوريا،  كما أن التجارة والتكنولوجيا تنشر أفكارا جديدة مما يتيح للبلدان الغنية أن تصير أكثر ثراءً، والدول الفقيرة بالكاد تحاول أن تلحق بركابها، ونحن بذلك لا ندعو للتشاؤم، بقدر ما نحرص على التفاؤل الحذر الذي يضع في الاعتبار أن التقدم العلمي والتكنولوجي له آثار أخلاقية واجتماعية يجب أن توضع في الاعتبار، وأن نكون على وعي كبير بأن التقدم الذي اعتمده بينكر لتفسير التاريخ أخذ قدر ما أعطى، وقد يجيب هذا على تساؤله لماذا لايشعر الناس بالسعادة بما يتوافق مع هذا القدر الهائل من التقدم.

----------------------------------

التفاصيل :

 

عنوان الكتاب: التنوير الآن: قضية العقل والعلم والإنسانية والتقدم

المؤلف: ستيفن آرثر بينكر

الناشر: - نيويورك- فايكنج.2018

عدد الصفحات:556

 

 

 

أخبار ذات صلة