"العصا الغليظة: حدود القوة الناعمة وضرورة القوة العسكرية"

41M6XdhhJFL._SX330_BO1,204,203,200_.jpg

تأليف: إليوت كوهين

عرض: فينان نبيل

"تحدث بلطف، واحمل عصا غليظة".. عبارة شهيرة للرئيس الأمريكي السابق تيودور روزفلت (1901-1909)، ظلت قيد التطبيق خلال عصر التنافس مع الاتحاد السوفييتي السابق إبان الحرب الباردة، بينما اليوم يشكك الكثير من الأمريكيين في جدوى الانتشار العسكري الأمريكي خارجيا اعتقادا منهم أنه عفى عليه الزمن، وأنه خطير العواقب، خاصة بعدما تكبدت القوات العسكرية الأمريكية خسائر فادحة في حربي أفغانستان (2001)، والعراق (2003)، وفي اتجاه مغاير لرؤية هؤلاء، يدافع إليوت كوهين في مؤلفه "العصا الغليظة" عن القوة العسكرية الأمريكية، وأهميتها لخدمة الأمن والقيم الأمريكية. منطلقا من حجة رئيسة مفادها أن القوة الصلبة لا تزال ضرورية للسياسة الخارجية الأمريكية، مع الاعتراف بأن الولايات المتحدة ينبغي أن تكون حذرة في استخدامها.. ويُقيم كوهين السنوات الخمس عشرة الماضية من الحرب، ويصف التقدم في أفغانستان بالهش، وحرب العراق بالخطأ، لكنه أشار إلى الفوائد التي حصدتها الشعوب في تلك الدول -على حد قوله- وما حققته من إنجازات مثل الإطاحة بنظام طالبان، ونظام صدام حسين.

ويسلط كوهين الضوء على براعة الولايات المتحدة التكتيكية، لكنه يُلاحظ أن التفكير الإستراتيجي حول طبيعة الحرب وكيفية مواءمة الوسائل العسكرية مع الغايات السياسية ينتهي بشكل غير مرغوب فيه، ويرى أن هناك مجموعة من التهديدات العالمية القائمة، التي ربما تدفع الولايات المتحدة إلى استخدام قوتها العسكرية؛ من أبرزها: الصعود الصيني المسلح، والغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، والتهديدات النووية لكوريا الشمالية وإيران، وانتشار الحركات الإسلامية المتطرفة، كتنظيم الدولة الاسلامية (داعش).

يضع كوهين الصين في المرتبة الأولى في قائمة التهديدات العالمية، يُؤكد على وجوب اتخاذ الخطر الصيني على محمل الجد وإجراء تحليل ثاقب ودقيق له، والعمل على فهم كامل للثقافة الإستراتيجية الصينية وسلوك ساحة المعركة. موضحا أن النظام الدولي ربما يعاد تشكيله إذا ما قامت بكين بأي اعتداءات بحرية، أو بدأت الصراع مع أحد حلفاء الولايات المتحدة في آسيا. كما عبر الكاتب عن قلقه من قيام روسيا بأي اعتداء في الوقت الحالي. ويرى كوهين أنه لمواجهة القوة العسكرية الصينية والروسية، وغيرهما من القوى المناوئة للولايات المتحدة، فإن ثمة ضرورة للتطوير المستمر لتقارير الأجهزة العسكرية الأمريكية، والتي يقوم بعضها على افتراضات خاطئة، من وجهة نظره؛ منها: أن روسيا ضعيفة اقتصاديا للغاية بما لا يمكنها من اتخاذ قرار أي هجوم عسكري في الوقت الراهن، وحذر كوهين من إحجام الولايات المتحدة عن استخدام القوة، لأن ذلك ربما ينجم عنه تكلفة أخلاقية وبشرية كبيرة، في ظل عالم تنتشر فيه الأنظمة غير العقلانية، والجماعات الجهادية الإرهابية، والعصابات الإلكترونية، والأعداء المنافسون لقيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي ومثل هذه المعطيات تحتم على الولايات المتحدة اللجوء إلى التهديد الحكيم، وممارسة القوة العسكرية في حالات التهديد الاستراتيجي، أو حالات الطوارئ الإنسانية.

وأكَّد كوهين ضرورة تطوير استخدام القوة بوسائل جديدة لمواجهة التطورات العالمية المعاصرة، مشيرا إلى أهمية الدور الذي تلعبه القوات العسكرية الأمريكية لدعم الدور الأمريكي عالميا. ولفت النظر إلى أنه إذا تخلت الولايات المتحدة عن مكانتها كقوة عسكرية حكيمة، وفشلت في القيام بدورها كحارس لاستقرار وأمن النظام الدولي، فإنه سيتعرض لمخاطر واسعة النطاق كالاضطرابات، والعنف، والاستبداد على نطاق لم يشهده منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ويؤكد الكاتب قول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت إن الولايات المتحدة لم تزل "الأمة التي لا غنى عنها". وأن هناك احتمالات متزايدة لإمكانية استخدام القوة العسكرية، وتتفاوت مستويات حدتها، خلال العقود التالية.

دافع الكاتب بقوة عن زيادة الإنفاق العسكري مقارنة بميزانية الدفاع الحالية، فقد حاول ترامب تأمين المزيد من الأموال لصالح البنتاجون، كما يرى العديد من صقور الجمهوريين التقليديين أن زيادة الإنفاق الدفاعي لترامب غير كافية، وقد قال السيناتورماكين: "في عالم يشتعل، يجب علينا بل ويمكننا أن نفعل الأفضل"، ويرى كوهين أن تحديد الإنفاق الدفاعي كنسبة مئوية من الناتج المحلى الإجمالي سيكون تقدما كبيرا. وإن لم يحدده بدقة ولكنه يضع هدفا مستداما بنسبة 4%. وفي ظل توقعات إجمالي الناتج المحلي لمكتب الميزانية في الكونجرس في يناير2017، فإن تلك النسبة ستصل إلى ما يقرب من ثمانمائة مليون مليار في 2018.

ينفق الأمريكيون عشرات المليارات ليدفعوا ثمن استمرار أمريكا في الحروب؛ مما أثارغضب الجمهوريين والديمقراطيين عندما دعا الرئيس دونالد ترامب إلى إجراء تخفيضات كبيرة في كل الدوائر الحكومية تقريبا من أجل تعويض الزيادات الكبيرة المخطط لها في البنتاجون، وقطاع الأمن الداخلي، التي تزيد على 3% من إجمالي الناتج المحلي في أثناء الحرب الباردة. ويري كوهين -خلافا للاعتقاد السائد- أن تراجع قدرة الدولة على الوفاء بالديون، ليس بسبب الإنفاق العسكري، وإنما بسبب الزيادة الثابتة على الإنفاق غير الاختياري على ما يسمي "الاستحقاقات" كالرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي. وافترض أنه في حال تم تخفيض ميزانية الدفاع إلى النصف، فإن الأوضاع المالية للبلاد لن تتحسن كثيرا.

وأوضح الكاتب أن استخدام القوة العسكرية لا يمثل الحل لكل مشكلة، وإنما تلعب القوة الناعمة دورا محوريا أيضا، مشيرا إلى أن أشكال القوة غير العنيفة لها مكانتها في فن حكم أي دولة. وفي هذا السياق، انتقد إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لأنها لم تحسن استخدام الأشكال غير العنيفة للقوة خلال الحرب ضد الإرهاب. إذ إنه من خلال القوة الناعمة، يمكن إقناع الدول غير الصديقة للولايات المتحدة بالتصرف بطرق مرغوب فيها. مع تأكيده على أن القوة الناعمة لها أثر محدود وأنه يجب الاعتماد على القوة الصلبة بشكل أكبر. وأن أمريكا تحتاج إلى جيش أشد قوة من الذي تملكه الآن. ويجب أن تكون على استعداد لاستخدامه، على الرغم من أن الأمريكين قد أصبحوا متعبين منذ عقد ونصف من صراع طال أمده، ولكن كوهين يرى أن الأمة الأمريكية يجب أن تظل على استعداد لشن المزيد من الحروب وليس للردع فقط، ويرفض أي محاولات سابقة للحد من استخدام القوة، ويقول: إن ما نحتاجه هو مجموعة حذرة من التذكيرات لتوجيه القيادات الأميريكية الذين انتهوا إلى أن العنف هو أقل الخيارات سوءا.

يكاد دونالد ترامب أن يكون قرأ كتاب كوهين، لقد تعهد "بقصف داعش"، وتفاخر بتخويل "جيش" لإسقاط كم هائل من المتفجرات (المعروف باسم أم القنابل) على أفغانستان، فلا أحد يستطيع أن يشكك في رغبة ترامب في ممارسة التوسع في القوة الغاشمة، رغم أن ذلك أدى لقتل العديد من الأبرياء، ولقد تحدث ترامب بوضوح حول استخدام الأسلحة النووية، وكذلك يرى كوهين أن الأسلحة النووية مفيدة لأكثر من مجرد الردع، وأشار كريس ماتيوز من "إم.إس.إن.بي.سي" إلى أن تطلعات ترامب حول الاستخدام النووي للمرة الأولى قد تهدد سياسة منع الانتشار النووي لعقود، ويمكن أن تشجع حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان على إعادة النظر في قرارهم بالتخلي عن مثل هذه الأسلحة.

وتناول كوهين ما أسماه الدول التي تشكل خطرا (روسيا، إيران، كوريا الشمالية) بشكل موجز لكنه دقيق؛ إذ أوصى بعدة إجراءات للتعامل معها منها، طمأنة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في أوروبا، وبناء قدرات لنزع أسلحة إيران أو كوريا الشمالية بشكل استباقي إذا كان من المرجح أن يستخدموا أسلحتهم النووية في أي وقت.

ويرى كوهين أن إخفاقات أمريكا في الحرب حتى الآن تنبع بشكل رئيس من "تردد واشنطن في تحديد العدو بشكل صحيح للبدء به"، ويرى أن تحقيق النجاح يتطلب من القادة التخلص من المفاهيم الخاطئة، والتصريح حول حقيقة أن هذه الحرب ستستمر لعقود، وهذا ما فعله ترامب بالتحديد، فقد أوضح في نوفمبر2015 بأن "هناك تهديدا أكبر بكثير مما يفهمه شعب بلادنا".

وعلى ما يبدو من توافق بين أفكار كوهين وترامب، إلا أن الواقع يقدم دلائل على أن الكاتب ليس من مؤيدي ترامب؛ حيث يدعم كوهين بقوة مبادرة أطلقها مجموعة من الأكاديمين تعارض سياسة ترامب، فقد رفضوا "دفاعه عن الحروب التجارية ووصفوها بالكارثة الاقتصادية في عالم مترابط، كما انتقدوا خطابه المعادي للمسلمين، ووصفوا تحمسه لبناء حائط حدودي مع المكسيك للسيطرة على الهجرة الشرعية بأنه سوء قراءة، وازدراء للجار الجنوبي، واستنتجوا أنه قد يستخدم سلطة مكتبه بطرق تجعل أمريكا أقل أمنا، ما من شأنه أن يقلل شأنها عالميا، علاوة على رؤيته لكيفية ممارسة السلطة الرئاسية تشكل تهديدا واضحا للحرية المدنية خاصة ضد منتقديه.

تبدو عبارة روزفلت "العصا الغليظة" حاضرة في ذهن ترامب، لكنه أغفل الجانب الآخر "تكلم بهدوء" على الرغم من أن العصا العسكرية الأمريكية بالفعل غليظة وأكثر ترويعا من أي شيء كان يمكن أن يتخيله روزفلت، إنما ليست كبيرة بما يكفي بالنسبة لترامب، فترامب يختلف عن نهج سلفه؛ فهو يركز على السلام من خلال القوة، بينما كان أوباما ينتهج "القوة الناعمة".

فرض الدستور الأمريكي قيودا صارمة على القوة العسكرية للبلاد، وأرغم الرؤساء على الذهاب إلى الكونجرس كلما رغبوا في بدء حرب، وبموجب هذا النظام، يمكن للأمريكيين إجراء نقاش وطني حول نوع القدرات العسكرية المطلوبة للحفاظ على سلامتهم، ويربط كوهين الافتقار إلى تفكير إستراتيجي متميز بعدم فعالية الكليات الحربية في البلاد.

ذكر الكاتب أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والولايات المتحدة تلعب دور الضامن الرئيسي للنظام الدولي؛ حيث صاغت أسس وقواعد العلاقات التجارية والمالية لمرحلة ما بعد الحرب لتحفيز حرية حركة السلع، والخدمات، ورأس المال، والعمالة. كما أنها أسست أيضا النظام السياسي لتعزيز المؤسسات الليبرالية والديمقراطية. ويضيف أنه بذلك تمتع العالم -لأكثر من سبعين عاما- بعصر من الازدهار والحرية لم يسبق له مثيل. فخلال تلك الفترة، لم تحدث صراعات عالمية كبري، بفضل وجود قوة كبرى مهيمنة تحافظ على النظام بقوة السلاح.

وينتقد كوهين فكرة "عالم ما بعد أمريكا"، مؤكدا أن الولايات المتحدة لا تزال قوية للغاية في العديد من أبعاد القوة. فمثلا في البُعد الديموغرافي، لا تزال أفضل من أي بلد متقدم آخر، كما يتسم البعد الاقتصادي للقوة الأمريكية بالديناميكية. أما البُعد السياسي، فيتسم بالصمود، على حد قول المؤلف.

ويضيف: إن هناك فروقا واضحة بين الولايات المتحدة ومنافسيها في مصادر القوة لمصلحتها، مما جعلها تحافظ على مكانتها كقوة مهيمنة على النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة. وانطلاقا مما سبق، تظل ثمة أهمية للدور الأمريكي في ضمان استقرار النظام العالمي، نظرا لإحجام أو عدم قدرة القوى الدولية الأخرى على القيام بذلك.

لهذا، يدعو كوهين الإدارة الأمريكية الجديدة إلى استخدام القوة العسكرية لمواجهة التحديات الأمنية التي تهدد النظام الدولي، وفي مقدمتها محاربة التنظيمات الإرهابية، والتي تتطلب إستراتيجية فعالة تركز على شن حملات برية وجوية متواصلة. وفي سياق متصل، يرى أن الأوضاع في ليبيا ربما تكون أكثر استقرارا، إذا أبقت الولايات المتحدة وحلفاؤها على بعض القوات، بعد الإطاحة بمعمر القذافي. ويدعو المؤلف إلى نشر قوات أمريكية في بولندا ودول البلطيق لدرء الأعمال العدائية الروسية. ويرغب أيضا في تعزيز الوجود البحري الأمريكي في منطقة الخليج العربي لإحباط الطموحات الإقليمية الإيرانية.

ويري كوهين أن جميع مرشحي الانتخابات الرئاسية، الذين يعلنون، أثناء حملاتهم الانتخابية، أنهم سيقللون من الاعتماد على القوة العسكرية، يغيرون مواقفهم، بعد فوزهم، وتوليهم منصب الرئاسة رسميا؛ لأنهم يُجبرون على مواجهة العالم كما هو، وليس كما يرجون أن يكون. ولا يبدو أن الرئيس ترامب سيقف مكتوف الأيدي أمام تقارير المخابرات التي تصف العالم كما هو.

"العصا الغليظة".. كتاب متميز يعبر عن عنوانه، يفند خلاله إليوت كوهين -عميد الفكر الإستراتيجي الأمريكي ومستشار وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس- القوة العسكرية الأمريكية، ويحلل التهديدات التي تواجهها السلطة، ويذكرنا دوما بأنه "لكي نذهب بعيدا في هذا العالم يجب علينا أن نتحدث بهدوء ونحمل عصا غليظة". ويختتم كوهين كتابه بتوصيات حول متى وكيف تستخدم القوة، ويخلص إلى أن الخطط مهمة ولكن القدرة على التكيف أكثر أهمية؛ فالرئيس الأمريكي يستطيع أن يشن حربا ولكن عليه الفوز فيها، وعليه أن يحافظ على دعم الكونجرس والتأييد الشعبي، والتفكير بشكل أكثر مرونة، والتحلي بالصبر حول نتائج الحرب. ويُمكن القول إنَّ الكتاب له أهمية كبرى ومفيد للمتخصصين وغيرهم على حد سواء، لكنه يظل محط انتقاد لكل من يدعو لعدم استخدام القوة العسكرية.

------------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "العصا الغليظة.. حدود القوة الناعمة وضرورة القوة العسكرية".

- المؤلف: أليوت كوهين.

- الناشر: Basic Books، نيويورك، 2017م.

- عدد الصفحات: 299 صفحة.

 

أخبار ذات صلة