كتائب العقاب في الحرب الوطنية العظمى

Picture1.png

تأليف: لفلاديمير داينيس

عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا|  أكاديمية ومستعربة روسية

تناول هذا الكتاب مسألة ما دُرج على تسميته بـ"كتائب العقاب"، وهي وحدات عسكرية تشكلت في الاتحاد السوفييتي إبان الحرب العالمية الثانية (ويطلق على هذه الحرب في روسيا: الحرب الوطنية العظمى، وذلك لفداحة ما خلفته من دمار وسقوط ملايين الضحايا من المواطنين الروس). وقد ظلت الكتائب هذه، ولردح زمني طويل، بعيدة عن الدراسة ومحظورة على المناقشة العلنية. ولكن في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الأضواء الكاشفة تتسلل إلى هذه المسألة، وذلك حينما أرخت سياسة البيريسترويكا (ومعناها حرفيا: إعادة البناء) في زمن ميخائيل جورباتشوف، آخر الرؤساء السوفييت، أرخت من قبضتها على العديد من الملفات والقضايا "غير المريحة" للسلطات وسمحت بملامسة "البقع السوداء" في صفحة التاريخ الحديث. ومع ذلك ظلت قضية كتائب العقاب في الجيش الأحمر، وحتى وقت قريب، من القضايا التي لم تشملها دراسة علمية جادة، إما لسبب قلة المؤرخين العسكريين المنخرطين في المؤسسات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية، وهي الجهة الماسكة بملف الكتائب المذكورة، أو للخصوصية التي تكتنف هذه المسألة وعزوف المؤسسة الرسمية آنذاك عن إطلاقها للملأ؛ حيث لا بد من موافقة الجهات الرسمية لتناول المواضيع التي تخص الحرب الوطنية العظمى. بهذا الصدد يقول مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا، فلاديمير داينيس الرئيس السابق لقسم التاريخ الوطني العسكري في معهد التاريخ العسكري لوزارة الدفاع الروسية: "كانت هناك قائمة من البحوث تقوم مؤسسات الدولة والقوات المسلحة بطلب إنجازها؛ وذلك للخلوص إلى الاستنتاجات اللازمة والمفيدة من تجربة الحرب الوطنية العظمى، لا سيما فيما يتعلق بالخبرة الهجومية والدفاعية واجتياز العقبات...إلخ. أما بالنسبة لكتائب العقاب، فلم تكن للمؤسسة حاجة لنبش سيرتها ولا مصلحة لها في ذلك" (ص:3).

وبالرغم من الصعوبة التي ينطوي عليها طرح هذه القضية للرأي العام؛ صعوبة أن تقول لمجتمع مثل المجتمع الروسي الذي اكتوى بنيران الحروب في القرن العشرين، إن جيوشه التي قاتلت لدحر الأعداء ووضعت لحماية الوطن، استخدمت كتائب بشرية وجعلتها ألوية طليعية وألقتها إلى مناطق الخطر والموت، بالرغم من ذلك، فإن المسألة ما برحت توقظ الواعز الأخلاقي وتحفز الحس التاريخي من أجل تقصيها والوقوف على تفاصيلها من مختلف الجوانب.

وفي الآونة الأخيرة، ظهرت مذكرات للجنود المشاركين في الحرب الوطنية العظمى، ومن بينهم من قاتل في كتائب العقاب أو قادها أو شارك في تشكيلها. كما تنشر الصحف بين الحين والآخر مقالات حولها وتنتج الشركات الفنية عنها الأفلام. وبتزايد تلك المواد، المكتوبة منها والمصورة، تزايدت القصص المنسوبة إلى كتائب العقاب، وترددت عنها الخرافات، فتحولت إلى أكثر الصفحات غموضا في التاريخ المأساوي للحرب الوطنية العظمى. ومن القصص التي نُسجت حول هذه الكتائب يسوق المؤلف بعض المشاهد؛ ومنها: "إن الإرسال إلى كتيبة العقاب كان بمثابة سجن عسكري، وإن الجيش السوفييتي كان يستخدم هؤلاء المساجين للاستشعار الميداني؛ حيث يرسلهم إلى المناطق الأكثر خطورة؛ فمُسحت بهم حقول الألغام بدلا عن الأجهزة المتعارف عليها لهذا الغرض، وزج بهم إلى خطوط الدفاع الألمانية الشائكة. وقد كان أفراد هذه الكتائب من المجرمين وأصحاب السوابق، وتمت معاملتهم بقسوة مفرطة، فلا يقدم لهم الطعام الكافي ولا وقود التدفئة ولا الأسلحة. وإن حاولوا التراجع أو الهرب، تلقفتهم بنادق أفراد وزارة الداخلية الذين يتمترسون خلفهم. وفقط بفضل استخدامهم غير الإنساني هذا، تم تحقيق النصر في الحرب".

ويحاول فلاديمير داينيس -في دراسته- استخلاص الحقائق من هذا الكم الكبير من القصص وتنظيمها في سياق منطقي يؤدي لقراءة متزنة لهذه الصفحة الروسية من تاريخ الحرب العالمية الثانية.

ومنذ الصفحات الأولى للكتاب، يدحض داينيس الرأي القائل: إن روسيا هي منشأ كتائب العقاب، وأنها اختراع روسي محظ، ظهرت في القرن العشرين نتيجة النظام الشمولي الستاليني الذي يثير ذكره الرعب في أفئدة الحقوقيين اليوم. وبهذا الصدد يقدم داينيس منظوره التاريخي، لافتا إلى ظهور مثل هذه الكتائب في روما القديمة؛ حيث طبقت عقوبات شنيعة على الجنود، من بينها التخلص من الضعفاء الذين لا يقدرون على العدو كغيرهم. وفي وصف معركة تيرموبيل (480 قبل الميلاد) نتعرف على فصائل الجنود الذين تطعنهم الرماح من الخلف لدفعهم إلى ميدان القتال.

وفيما يتعلق بروسيا فقد أدخلت كتائب العقاب لأول مرة بشكل نظامي في الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية (1917-1921)؛ وذلك عقب الثورة البلشفية التي أسفرت عن إحلال السلطة السوفييتية على الأراضي الروسية قاطبة. ويكرس المؤلف فصلا مستقلا من كتابه للظروف التي ظهرت فيها الكتائب في فترة مرعبة من التاريخ الروسي الحديث.

وفي تتبعه التاريخي لهذه الظاهرة، ينسب المؤلف تشكيل أول كتيبة للعقاب إلى الخصم الأيديولوجي الكبير والعنيف لستالين، ليون تروتسكي الملقب بـ"بونابرت الأحمر"؛ وذلك حينما كان يشغل منصب رئيس الدوائر العسكرية السوفييتية. أما عن سبب لجوء تروتسكي إلى هذه التشكيلة من المحاربين، فمرده القلق الذي ساوره إزاء تباطؤ تقدم الجيش الأحمر، وأيضا حينما نمى إلى علمه هروب بعض المنضوين إلى الجيش. وكان هو الذي صاغ الفكرة التي تتلخص في أن الخوف من أحكام المحكمة العسكرية يجب أن يكون أشد وقعا من الخوف من الموت في المعركة. وبناءً على ذلك، كان يُزج بالفارين من الخدمة العسكرية إلى كتائب العقاب التي كان عليها أن تبرهن ولائها للسلطة السوفييتية بإلقاء نفسها في مهاوي الردى. ولتبرير ضرروة القسوة باعتبارها شرطا لتفوق الجيش الأحمر، يقتبس المؤلف كلمات كتبها تروتسكي وتشرح رؤيته لعقيدة الحرب: "لا يمكنك بناء جيش دون قمع. ولا يمكن دفع الناس إلى ساحة المعركة، والموت، من دون مواجهتهم بعقوبة الإعدام إن رفضوا ذلك (...) إن بناء الجيوش وخوض المعارك يتم فقط بوضع الجنود بين احتمال الموت في ساحة القتال أو الموت في المؤخرة" (ص:18).

ومن أجل التأكيد على أن ظاهرة كتائب العقاب ليست ممارسة روسية محضة، يكرس المؤلف فصلا آخر من كتابه لتجربة عدو الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، أي ألمانيا الفاشية، فيكتب:"كان للجيش الأحمر أساتذة في هذا المجال، وبالذات من أعدائه في الجيش الألماني (...) فإن كان الجيش الأحمر قد رفض هذه التشكيلات رفضا قاطعا عام 1934، فإن القوات المسلحة الألمانية قد أقدمت على تشكيل فصائل مماثلة بعد ذلك بسنتين. كان يطلق عليها تسمية مختلفة ولكن ذلك لم يغير من حقيقتها (...)  وكان مصير الشخص الذي يرفض الخدمة العسكرية لأسباب سياسية، بما في ذلك انتماؤه إلى الحزب الشيوعي الألماني، الخضوع لتلك العقوبة الخاصة. وبالفعل دخلت القوات الألمانية أراضي الاتحاد السوفييتي بعدد من تلك الكتائب. وفي العام 1942 كان لديهم مئة كتيبة من هذا النوع تحمل رمز "999" تم تشكيلها من المجرمين ومخلي النظام (...) وفي نهاية الحرب حينما انتقلت ساحة المعركة إلى الأراضي الألمانية، استخدمتهم قيادة القوات الألمانية على أوسع نطاق (...) وكان الجنود السوفييت يصادفون باستمرار الجنود الألمان المقيدين بالسلاسل إلى المدافع الرشاشة أو إلى الكرسي في قمرة الدبابات" (ص:40-44).

يرسم الكتاب صورة مفصلة عن اللحظات الحاسمة في الحرب العالمية الثانية عندما فشلت جميع المحاولات السوفييتية الهجومية لصد الألمان الذين فازوا بمدينة دونباس الإستراتيجية، وبدأوا التقدم إلى نهر الفولغا. يومها فقط استقر قرار ستالين على تشكيل كتائب العقاب. ويستشهد المؤلف بالعديد من الوثائق المتعلقة بالمسألة والتي تحدد مهام هذه الكتائب، ويشير الكاتب إلى أن تشكيل هذه الكتائب يأتي ضمن سياق القرار الأسطوري المعروف برقم "227" الذي حمل أخطر الشعارات في تلك المرحلة الحاسمة من الحرب، ألا وهو شعار "لا خطوة إلى الوراء"، ومن المعروف أن القرار الستاليني هذا كان له الفضل في تحويل مجرى الحرب تماما وجعله لصالح السوفييت. ومن بين الإجراءات التي اتخذها ستالين في تلك اللحظة المصيرية، عدم التسامح مع القادة الذين تضطرب وحداتهم ويفر جنودهم من مواقعهم، تاركين الأرض للعدو. كما أعطى الأوامر بالتصفية الفورية لمروجي الذعر بين صفوف الأجناد. وقد اتسعت مفاعيل هذا القرار لتشمل المتمردين على أوامر القيادة والمخلّين بنظام الخدمات اللوجستية، ومن يدّعي المرض من الجنود للتهرب من الخدمة، والطيارين الذين يلهون بطائراتهم في الهواء، والجنود المقصرين بالتعامل مع الأسلحة والمتسببين بمقتل زملائهم.

لم يكتف الكاتب بالوثائق الرسمية لوضع كتابه، فاستعان بالشهادات الخاصة وأخذ من دفاتر المذكرات للمحاربين القدامى، مما أضفى نفسا سرديا على محتوى الكتاب وعزز من مقروئيته. فها هو أحد الشهود الذين شاركوا في الحرب الوطنية العظمى يكتب عن وقع القرار الذي رفع شعار "لا خطوة إلى الوراء" في نفوس الجنود والجنرالات على حد سواء، وردود الأفعال الإيجابية التي سرت بين صفوف الجيش وتعاطيهم للقرارات الصارمة بروح قتالية عالية. يقول الشاهد: "كان الوضع صعبا. ماذا يمكنني أن أقول؟ نصف البلاد في قبضة العدو. كنا نتحمل ما لا يطاق ونبذل قصارى جهدنا لكسب النقاط في المعارك. وقد دق القرار ناقوس الخطر في نفوسنا ونبهنا إلى أنه لا مكان للتراجع ولا لخطوة واحدة، وإلا فنحن هالكون والوطن مدمر. وهذا أمر رئيسي في مفعول القرار الذي تقبله القلب والعقل معا" (ص:55).

يفند المؤرخ العسكري فلاديمير داينيس في كتابه الخرافات والشائعات التي أحاطت بكتائب العقاب، بدءا من عرض الوثائق التي تؤكد تموين كتائب العقاب بكل ما يلزم من غذاء ودواء وذخيرة، ومنتهيا بإثبات عدم القدوم على عمليات تعرض حياة الأفراد فيها للخطر. كما أنكر القول الشائع بأن الناس في الاتحاد السوفييتي قد سيقت إلى جبهات القتال تحت تهديد السلاح. علاوة على ذلك، يوضح الكاتب أن المحكومين في كتائب العقاب، وما إن ينهوا فترتهم المحددة، أو في حالة إصابتهم، لا يتم إعفاؤهم من القتال وحسب، وإنما أيضا يتم تكريمهم وتقليدهم الأوسمة البطولية إذا أبلوا ما يستحق التكريم. كما يورد المؤلف حالات بطولية كان فيها الجنود المصابون يستمرون في القتال برغم انتهاء فترتهم في هذه الكتائب.

ويدعو المؤلف في كتابه هذا إلى عدم قياس القوانين في فترة الحرب بمعايير السلم. فالأوضاع أثناء الحرب مختلفة وهي أكثر تعقيدا ويزداد فيها قدر المسؤولية؛ وبالتالي تصبح العقوبة أكثر صرامة، وما يمكن التغاضي عنه في فترة السلم، كالإهمال وعدم المبالاة، إنما هو جريمة فعلية في زمن الحرب. وينهي المؤلف مقارناته بين قوانين الحرب والسلم بأن قوانين الحرب قاسية ووحشية أحيانا، لكنها مناسبة لحالة الحرب.

وختاما.. فما سعى مؤلف الكتاب إلى تأكيده حول مسألة كتائب العقاب، هذه المسألة التي ما برحت توسع من رقعة تأثيرها ويزداد اللغط حولها، هو أن أفراد الكتائب، مثلهم مثل جميع الذين انخرطوا في الحرب، دافعوا عن أنفسهم وعن وطنهم، وقدموا مساهماتهم الجليلة في دحر العدو وتحقيق النصر، وليست الأفلام الحديثة التي تروِّج لصورة مزيفة عنهم، وتظهرهم مُجرمين أشقياء لا قيمة للحياة عندهم، ليست سوى أفلام سطحية، الربح همها الوحيد، وإن كان طريقه من خلال الكذب وتزييف الحقائق.

------------------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "كتائب العقاب في الحرب الوطنية العظمى".

- المؤلف: فلاديمير داينيس.

- الناشر: ويتشي، موسكو، 2017م.

- عدد الصفحات: 448 صفحة.

 

أخبار ذات صلة