بوتقة الإسلام

Picture1.png

تأليف: غلين وارن بوفرسوك

عرض: محمد الشيخ

من مكان عن الغرب بمبعد، انبثقت دعوة إيمانية وإمبراطورية امتدت من شبه الجزيرة الإيبيرية إلى الهند لكي تشمل اليوم ربع قاطنة العالم. وقد أثارت هذه الظاهرة الفريدة غلين وارن بوفرسوك (1936) ـ وهو أستاذ زائر للتاريخ القديم في عدة جامعات ومعاهد آخرها معهد الدراسات العليا ببرينستون (تقاعد منه عام (2006) ، ومؤلف حوالي 12 كتاباً و400 مقالة حول اليونان والرومان والشرق الأدنى،وعضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، والجمعية الفلسفية الأمريكية، وحاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعات ستراسبورغ وباريس وأثينا ـ إذ سعىفي هذا كتابه "بوتقة الإسلام" (2017) إلى تسليط الضوء على هذه الحقبة الأغمض والأكثر دينامية في تاريخ الإسلام ـ من منتصف القرن السادس الميلادي إلى عهد حكم عبد الملك بن مروان ـ مستكشفاً سر كيف استطاعت أرض يباب كشبه الجزيرة العربية أن تهيئ تربة خصبة لرسالة نبي الإسلام، ولماذا انتشرت تلك الرسالة بمثل هذه السرعة.

والذي عنده أن في زمن النبي، كانت شبه الجزيرة العربية تقف في ملتقى الإمبراطوريات الكبرى، حيث كانت تنتشر بها النصرانية واليهودية والوثنية، وكانت مكة ـ مسقط رأس محمد النبي ـ تابعة إلى ذاك القسم من شبه الجزيرة العربية الذي ما كان قد مضى على احتلاله من لدن أبرهة الحبشي إلا برهة. وكان أن فقدت الحبشة ـ المتحالفة مع نصارى شبه الجزيرة ـ هيمنتها لصالح بلاد فارس ـ المتحالفة مع يهود الجزيرة، في الوقت الذي توفي فيه إمبراطور بيزنطة عام 602م مخلفا جوا من عدم الاستقرار بالمنطقة. في وسط هذا العماء، حيث كان السكان ممزقون بين القوى العظمى وأنساق الإيمان الكبرى المتنافسة، بدأ محمد يكسب ثقة العرب. وفي زمن مضطرب كهذا، تحول أتباعه إلى قوة قاهرة فتحت فلسطين وسورية ومصر، ممهدين الطريق إلى الخلافة الأموية كي تستكمل فتوحات الإسلام.

يتكون الكتاب من تسعة فصول، فضلا عن توطئة وهوامش ولائحة مصادر ومراجع مختارة وكلمة شكر وكشاف أعلام. ويمكن إيجاز مضامين الكتاب على النحو التالي:

  • توطئة الكتاب ـ يبدأ الكتاب باستشكال أمر كيف قاد الإيمان قوات العرب إلى التمدد خارج شبه الجزيرة العربية (إلى فلسطين وشمال إفريقيا وسورية) في عقود من الزمن قليلة، وذلك في منتصف القرن السابع الميلادي الأول. ويشير المؤلف إلى أن المؤرخين واقعين في حيرة من أمرهم بهذا الشأن، وأن أصحاب المعتقد اليهودي والمسيحي منهم لا يسعون إلى حل هذا اللغز عن أهوائهم بمبعد، وذلك مثلما أن المسلمين أنفسهم يعسر عليهم تطبيق الصرامة المنهجية في التفتيش في كلمة الله ـ الوحي ـ كما صعب ذلك تماما على المؤرخين الأقدمين الذين لم يصاحبوا حدث الفتح.

على أنه كان ثمة جيل الباحثين الرواد المتخصصين في الإسلام، شأن نولدكه وفيلهاوزن وغولدزيهر، طبقوا مناهج فقه اللغة على النحو الذي استمدت به بنجاح في دراسة العهدين الجديد والقديم من لدن الحكيم الهولندي إرازموس (1667-1536) وفقيه اللغة والمستشرق الألماني جيسينيوس (1768- 1842). وقد أقروا بأن طريقة وصول هذه النصوص إلينا قابلة لكي تخضع إلى منهج النقد التاريخي، وأنه يمكن ملء ما يعتورها من ثغرات من خلال ما كتب على الصخور وأوراق البردي وما نقش على العملات وما كشفته الحفريات. وهو المنهج الذي طبقه المؤلف بحذافيره في كتابه هذا.

لكن المؤلف يرى أن الإسلام لا زال يتأبى عن القبول بمثل هذه الطرائق، وذلك بحكم سلطان القرآن، بما هو يُعَد عند المسلمين كلام الله الذي أوحى به إلى نبيه، ويقاوم التحدي الذي أعلنه إرازموس. ومما طم الوادي على القرى، الهوة الموجودة بين زمن نزول القرآن وزمن مجيء المفسرين. وفي أثناء هذه الهوة نفذ المعلقون غير المسلمين، مفسرون ومؤرخون، فاشتغلوا بلغات مختلفة ـ يونانية وآرامية وسريانية ـ على أحداث الإسلام وكل يتكئ على غيره، لكن بناء على آفاقهم الفكرية التي لم تكن بالضرورة متعاطفة مع الإسلام، بل حتى متفهمة له.

ثم يعرج المؤلف للحديث عن الكتب الثلاثة الأخيرة ـ "محمد وأتباعه من المؤمنين" (2010) لفريد دونر، و"سبيل الله" (2015) لروبرت هويلند، و"بزوغ الإسلام في العصور القديمة المتأخرة" (2014) ـ التي تناولت المصهر أو البوتقة التي انصهر فيها الإسلام وصهر غيره من الثقافات والشعوب، مقوما إياها بما لها وما عليها، مثنيا بالخصوص على العمل الأخير الأطول نفساً، في رأيه، والأكثر تنقيبا، والأشد توثيقا.وما كانت هذه البوتقة عنده سوى ما حدث من اتصال بين شمال غرب شبه الجزيرة العربية والثقافات المحيطة بها، ثقافات فلسطين وحمير والحبشة، ومساهمة بلاد فارس، على الأرجح، في هذه المزجة الواسعة، وكذلك فعلت العوائد الوثنية الأهلية التي قامت هناك لأمد طويل؛ فضلاً عن التطور الذي شهدت عليه الجماعات اليهودية والنصرانية بالمنطقة..

وبعد تقويم هذه الأعمال، يعلن المؤلف أنه ما كانت نيته في هذا العمل أن يضيف مروية عن بزوغ الإسلام تضاف إلى هذه المرويات أو تبزُّها، وإنما قصده توفير إطلالة على البيئة المضطربة التي مكنت للإسلام؛ ومن ثمة توفير إمكان فهم كيف تشكل هذا الدين وثقافته. وهو يقر، نظير سابقيه، بالفراغ الحاصل ما بين سنوات 560 م و610 م، لكنه يؤكد على إمكان تجاوزه بالحديث عن هَبَّة الفرس الساسانيين التي بدأت مع وفاة الإمبراطور البيزنطي موريس (602 م) وتوجت باحتلال القدس (614 م)، كما استغلت نهاية أبرهة الحبشي والجهود غير المثمرة التي بذلها أخلافه لاسترجاع سلطانه على المنطقة ... وهذه حقبة غامضة من تاريخ المنطقة فيها نشأت الرسالة المحمدية وبدأت تتطور. كما يقر المؤلف بصعوبة ثانية تتمثل في الحقبة من حكم الخلفاء الراشدين التي كانت حقبة قلاقل عبر عنها موت أغلبهم قتلا، لكنها أيضا كانت الحقبة التي صير في ما بعد إلى اعتبارها عصر الإسلام الذهبي، وذلك لأنه على الرغم من عدم الاستقرار فتح المسلمون فلسطين وسورية وشمال إفريقيا ووضعوا حجر التأسيس لأول إمبراطورية إسلامية بدأت مع الأمويين عام 661م.

على أن المؤلف يلاحظ أنه وعلى الرغم من كل مجهودات الإيضاح المتعلقة ببوتقة الإسلام، فإن هذه البوتقة تبقى سفينة بعيدة المنال، يستحيل وصفها في كل تفانينها، ولكن يمكن استخراج معالمها الأساسية. ولفعل ذلك، يطلب منا إعمال الاعتدال المنهجي: لا نصدق بكل مرويات الأقدمين، على علاتها؛ ولا نشكك فيها كل التشكيك، على مزاعمها. كما يرى أنه ينبغي أن نضع حدا للنزاعات التي قسمت كبار المستشرقين الكلاسيكيين حول هذه الحقبة، وذلك بتجاوز منهج "لا شيء غير النص"؛ إذ ما كان هذا المنهج طريقا سالكا بالتمام إلى إلقاء الضوء على عصر مدلهم. فلا يمكن تفسير القرآن بالقرآن وحده دون الاستعانة بالمصادر الخارجية، لا ولا يمكن رفض الاستعانة بالقرآن بتعلات عدة والاكتفاء بالمصادر اليهودية والنصرانية حول أصول الإسلام، لا ولا يمكن الطعن جملة وتفصيلا في كتابات المؤرخين المسلمين المتأخرة.

ويلخص المؤلف مضمون كتابه في كونه محاولة لبسط ووصف البيئة الثقافية والاجتماعية المعقدة التي تمخضت عنها ديانة جديدة (الإسلام)، حيث كانت تعيش منذ قرون خوالٍ اليهودية والنصرانية والوثنية. وهي محاولة لا تدين فقط إلى إعمال منهجية واحدة، وإنما إلى تقليد كلاسيكي دشنه المفكر وعالم اللاهوت والناقد النصي الإنجليزيريتشارد بينتلي (1662-1742) ـ هو تقليد التفكير النقدي في مواجهة ما تم تلقيه، أكان صحيحا أم خاطئا، باعتباره واقعة جرت بالفعل.

  • الفصل الأول –مملكة أبرهة في شبه الجزيرة العربية

يحكي هذا الفصل عن وضع المنطقة عشية قيام الدعوة المحمدية، وعن سياسة التحالفات التي كانت تحكمها، وعن حكم آل أبرهة ومصيره. ويذكر كيف أنه خلال حولين من الزمن تقريبا نشأت دولة، يهودية أولا ثم نصرانية أعقبتها، في حمير (اليمن الحديث)، وكان حكامها في خلال 140 سنة قبل حلول القرن السادس الميلادي عربا تحولوا إلى اليهودية، وكيف أنه لأسباب غير معلومة إلى اليوم حمل الحبشيون (وهم نصارى) على شبه الجزيرة العربية الوثنية من مدينة "أكسوم" أواخر سنوات التسعينات من القرن الخامس الميلادي، لكن سرعان ما أعيد حكم العرب اليهود بعد تذبيح نصارى نجران؛ مما تسبب في عودة الحبشيين من جديد عام 525م، وإقامة مملكة نصرانية تحت إمرة أبرهة الحبشي لحوالي أربعين سنة. لكن بعد وفاته، أعاد الفرس مجددا سيطرتهم على شبه الجزيرة العربية بدعوة من العرب أنفسهم.

يبدأ الفصل بالحديث عن السمات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمنطقة، لكنه يقف عند السمة السياسية ـ وهي الأبرز . ذلك أنالمنطقة ملتقى قوى عظمى نافذة: البيزنطيون كانوا في فلسطين وسورية فإلى الشمال، والفرس الساسانيون كانوا هيمنوا على بلاد ما بين الرافدين إلى إيران اليوم في الشرق الجنوبي... دون أن ننسى التجارة العالمية النابعة من البحر الأحمر إلى الغرب والمنتهية إليه، وكان التجار يبحرون من المحيط الهندي فبين الخليج الفارسي فإلى الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية وموانئ مصر والحبشة. وهذا يعني أن القوتين العظمتين ما كانتا لتجهلا الدور الاقتصادي لشبه الجزيرة العربية منذ أمد.

ولقد كانت المنطقة برمتها حافلة بعبق التاريخ وبذاكرة من التقاليد: مملكة النبط، مدائن صالح، يثرب، مكة ... وحتى قبل دخول البيزنطيين والفرس كانت للرومان عين على ما يجري في المنطقة وطرقها التجارية، ثم حدث الغزو الحبشي بدءا من حمير ... وتحول الحبشيون من وثنين إلى نصارى. وكانت السياسة الغالبة على المنطقة سياسة التحالفات: سعى البيزنطيون إلى كسب حلفاء عرب لصالحهم (الغساسنة)، وكذلك فعل الفرس(اللخميون) ... ولما شرع ملوك حمير اليهود باضطهاد النصارى، أثار ذلك حفيظة نصارى الحبشة فعادوا إلى غزو المنطقة بعد أن هجروها زمنا. وكانت غزوة الجنرال أبرهة الذي توج نفسه ملكا على ذي ريدان وسبأ وحضرموت ويمنت ... وعلى قبائل عربية شأن تهامة ... معلنا نهاية اليهودية باعتبارها ديانة دولة من دون أن يفرض نصرانية الحبشة على المنطقة بل بقيت نصرانيتها تابعة لبيزنطة، مستعملا اللغة السريانية لا الحبشية، بانيا "البيت" [الكنيسة: كنيسة صنعاء "القليس" التي صار يحج إليها]؛ مما شكل منها منافسة لمكة. ويكون عام الفيل، وتبقى طير أبابيل سراً من الأسرار، في عرف المؤرخ. لكن بعد وفات أبرهة وفشل ابنه في الحفاظ على ملكه ترك فراغًا مهولا استغله الفرس وعادوا إلى البلاد متحالفين مع أهل الحيرة، لكنهم ما فرضوا زرادشتيتهم على قبائل العرب. على أن الحدث المؤلم كان مذبحة نصارى الجزيرة حلفاء البيزنطيين حوالي سنة 560 م ...غير أنه لا إمبراطور بيزنطة ولا شاه بني ساسان كانا يتخيلان أدنى تخيل إمكان بروز نبي في مكة غير مجرى تاريخ العالم.

  • الفصل الثاني – الوثنية العربية في العصور القديمة المتأخرة

يفتتح هذا الفصل على خضوع المنطقة إلى سلطة الفرس من بني ساسان، حيث انتهى عهد مملكة التوحيد (اليهودية والنصرانية). وقد ترك اليهود والنصارى بلا رعاية دولية، لكنهم استمروا على عباداتهم كما في صنعاء وظفار (النصارى) وفي ظفار ويثرب (اليهود). بيد أن الأصل في سكان شبه الجزيرة العربية كان الوثنية، وكان حرمهم بمكة، فضلاً عن دومة الجندل والطائف. وعلى خلاف ما يعتقد، لم يقض التوحيد، في البداية، على الوثنية القضاء المبرم؛ لأن في إطار وثنية العرب كان ثمة إله بينهم اسمه "الله"؛ بما يوحي بضرب من "الوحدانية الوثنية" أو "الوثنية الموحدة" ... ويلح المؤلف على أنه ما كانت ثمة قطيعة مطلقة بين الوثنية والتوحيد، كما يُتصور عادة، وأن ثمة تشابهاً بين آلهة العرب وآلهة اليونان، وأن فكرة الملائكة مقتبسة من "الألوكة" التي تعني "الرسالة" بمعناها الإغريقي.

ثم يستعرض المؤلف آلهة العرب ووظائفها (اللات والعزة ومناة ...) ويقارنها بآلهة الإغريق ووظائفها(أفروديت وزوس ...). وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن منافسي النبي محمد من دعاة النبوة، ويشير إلى مسيلمة الذي ما كان أول نبي موحد بشبه الجزيرة العربية.

ويخلص إلى أنه ما كان من السهل اقتلاع جذور الوثنية من المنطقة بعد أن هيمنت عليها الفرس ... وأنه كان على محمد التعامل مع الوثنيين. لقد كانت للعرب آلهة، كل منها له دور، ولا أحد جعل الآخرين من الآفلين.

  • الفصل الثالث ـ مكة في العصور القديمة المتأخرة

هذا فصل خصص لوصف مكة: منطقة آمنة عزلاء مُحاطة بالجبال، ومنطقة مقدسة، وملتقى التجارة تمامًا كالبطحاء.. لا أحد يعلم متى بنيت الكعبة حتى وإن نُسب بناؤها إلى إبراهيم. ولا أحد يمكن أن يقول ما إذا كان "هبل" أول إله عُبد بها. لكن على عهد محمد كان "الله" إله المدينة الأساسي. هل تشوركت عبوديته مع عبودية هبل؟هذا أمر مُحير ملغز. لم تستقر قريش بمكة إلا أجيالا قليلة. ولِم استقرت؟ أمر محير. كانت مكة مجمع الآلهة: الله، هبل، اللات، مناة...

ويراجع المؤلف الصورة التي لطالما رسمت حول مكة: مدينة تجارية بالأولى، ويستعرض آراء المستشرقين المؤيدين والمعارضين: لامنس، وات، سيرجنت، كرون ...ثم يعرج على الحديث عن النبي محمد وعمن وجدوا في نفس وضعه ممن تنبؤوا. ويشير إلى الغموض الذي يكتنف حياة هؤلاء، لكن يرى أنه على أية حال من المؤكد أنَّ الوحي الذي نزل عليه هو الذي انتصر في النهاية. فلا مُسيلمة الذي ما كان مجرد كاهن، بل أكثر يدعي أنه يتلقى الوحي بدوره من جبريل، ويدعي أن له قرآنا مستقلا (بقي منه 33 آية تشبه القرآن ولا تشبهه)، ولا الأسود العنسي الذي صنع بدوره قرآنه الخاص، كلاهما جوبها من لدن أول خليفة في الإسلام أيام ما سُمي "حروب الردة"، وما كانا، في رأي المؤلف، بالمرتدين، بل بالمُنافسين كانا أشبه. وما أنكر مسيلمة نبوة محمد وإنما طلب الشركة فيها (المدينة/اليمامة)، وهذا ما أشارت إليه مراسلة مسيلمة ومحمد ـ التي تشي بتنافس الأنبياء ـ حتى وإن حامت الشكوك حول صدقيتها.

  • 4 الحبشة وشبه الجزيرة العربية

يفتتح الكلام هنا بالحديث عن الصراع الديني اليهودي النصراني بشبه الجزيرة العربية، والذي بلغ ذروته في نجران وتسبب في عودة نصارى الحبشة إلى المنطقة في تحالف مع البيزنطيين. ولما ولد محمد كان الفرس قد حكموا لعقد من الزمان أو أكثر البلاد التي كان قد حكمها أبرهة من قبل باعتبارها مملكة نصارى. وهذه الحقبة تبقى، حسب المؤلف، الحقبة الأشد غموضا والأكثر فقرا من حيث الوثائق. والمؤكد عنده أنه كانت قبائل وعشائر وآلهة شبه الجزيرة العربية تعمل آنذاك لصالح القوى الخارجية. وهذا التعدد والتشتت هو الذي شكل خطرا على محمد عندما بدأ يتلقى الوحي، ولم يحل إلا عندما تقوى الإسلام. كانت مملكة الحبشة تقع في الجانب الآخر من البحر الأحمر، وكانت لها قدرة على الإضرار بالمنطقة. ومع نهاية مملكة الحبشة ما كان بإمكان أي كان التنبؤ بما سيفعله من حلوا محلهم: الفرس. وكانت أولى أشكال الوحي حوالي 610م زلزلة لاستقرار حياة محمد في صلته بقبيلته قريش بعامة وببني هاشم بخاصة. وكانت آتية من المشركين. وكان أن أعادت الحبشة إلى الواجهة: هجرة المؤمنين الأوائل المضادة من مكة إلى أكسوم (حوالي 615 هـ)، وكان أن تم إحسان وفادتهم من طرف النجاشي. ثم يتحدث المؤلف عن حياة هؤلاء المهاجرين المسلمين ويركز على عبيد الله بن جحش، لربما بسبب غرابة مصيره: التنصر.

وبالجملة، كانت الحبشة تشكل خلفية معقدة لأشكال الإيمان المتنافسة بشبه الجزيرة العربية.

  • 5 –الفرس في القدس

يبدأ الفصل بعام 614 م ومحاصرة الملك الفارسي خسروه للقدس بأشد حصار وغزو وهدم لم تشهد له المدينة من قبل مثيلا. ثم يعرض المؤلف طويلا إلى تاريخ التنافس البيزنطي الفارسي على القدس، وإلى مؤامرات ودسائس الممالك والقصور، وإلى مشاكل تركات الحكم والاستخلاف، وإلى أوجه المواجهة بين القوتين، وإلى تشجيع الفرس لليهود وحماية البيزنطيين للنصارى ... ويورد المنحوتات والمنقوشات المكتشفة المعايشة للمرحلة. ثم يحكي عن مغامرات الفرس في المنطقة واحتلالهم أرض الكنانة. وينهي بالحديث عن فتح المسلمين للقدس، في ما بعد، وعثورهم على أنقاض مدينة لا مدينة حقيقية، وعلى نصارى مفترقين إلى نحل قاوموا الغزو الفارسي ... وفي الجملة، لقد وافقت هجرة النبي من مكة إلى المدينة وجود قوتين عظمتين في الشرق الأدنى: فارس الساسانية، وإمبراطورية بيزنطة. وكان على الواحدة منهما أن تدمر الأخرى، ولا واحدة منهما كانت تنظر إلى ما سيحدث، ولا حتى خطر ذلك ببال محمد النبي وأتباعه.

  • الفصل السادس ـ محمد والمدينة

في مفتتح الفصل وقفة على العنت الذي لقيه محمد النبي من لدن قبيلته. وبعد الإشارة إلى هجرة أصحابه إلى الحبشة، يذكر المؤلف مجددا العقائد المنافسة: اليهودية والنصرانية والوثنية، ويسرد تاريخ الصلة بين اليهود وعرب الجزيرة منذ تدمير المعبد (70 م)، وكيف أن وجودهم، لاسيما باليمن، تقدم حتى على انتشار النصرانية، وكيف تبنى عرب حمير ـ لسبب لا يزال غير معروف ـ اليهودية، وحدود الصراع بين اليهودية والنصرانية، وإعمال اليهود المذبحة فيهم، وهزيمة يهود اليمن بعد التدخل الحبشي ... وعلى الرغم من استحالة استئصال الديانتين من الجزيرة، فإن المؤلف يرى أنهما كانتا مكونين غير قارين من مكونات مجتمع ما قبل محمد. ثم يشير إلى يهود يثرب وتاريخهم ووضعهم وسط وثنيي الخزرج والأوس ومعركة يوم بعاث (617)، وكيف حدث أن وجه الخزرج دعوة هجرة إلى مُحمد، وكيف هاجر ... وكيف حدث انصهار بين اليهود ووثنيي الخزرج والأوس ومؤمني مكة بلا مقاومة في أمة واحدة. وهو ما شهدت عليه وثيقة دستور المدينة التي عينت حقوق الشركاء. وهي الوثيقة التي يجمع الباحثون على صحتها، بل تعتبر أوثق وثيقة عن ذاك العهد.

وسرعان ما يطرح الباحث المسألة الشائكة: لماذا تضافرت جهود الأطراف على دعوة محمد؟ ويرجع المسألة إلى لعبة الأمم: لقد وظف إمبراطور بيزنطة الغساسنة لتحقيق السلم في المدينة وتحييد اليهود، وذلك مخافة أن يستقطبهم الفرس.

ثم يستأنف المؤلف الكلام عن صلة محمد بقريش مكة وهو مقيم بالمدينة، ويلمح إلى نزاعاته مع يهود المدينة، وإلى حصار المدينة، وإلى انتصار محمد ودخوله مكة وتطهيرها من الوثنية ... لقد كانت سنة 630م حاسمة في حياة محمد النبي وفي مصير الإسلام: مقاومة الطائف واستسلامها له بعد حصار. لكن بعد سنتين فقط سوف يتوفى النبي. وكالعديد من الزعماء الكبار من ذوي الرؤية البعيدة، لم يفعل الشيء الكثير للإعداد لغيابه. مما أشعل أوار المنافسات بعد وفاته. وقد تطلب الأمر تقريباً ثلاثة عقود حتى تتمكن مملكة الأمويين من إقامة الإمبراطورية الإسلامية بدمشق عام 661م. ولقد كانت هذه العقود الثلاثة هي المرحلة الختم في صوغ الإسلام كما نعرفه، كما شكلت زمن ريبة حول مستقبل رسالة النبي.

  • 7 –خلافة الخلفاء الانتقالية

قادت وفاة النبي عام 632م إلى قلاقل خطيرة في بنية الحكم الإسلامي بعد آخر غزوات الرسول. يروي المؤلف هنا المداولات على الحكم التي أعقبت الوفاة، وما صاحب ذلك من قصر فترة حكم أبي بكر، وما رافقها من حروب الردة، ومن غزواته نحو نهر الأردن والنجف وجنوب العراق ... ويشير إلى المصادر الأجنبية التي تناولت هذه الغزوات والتي أشارت إلى النبي وكأنه كان لا يزال على قيد الحياة عامين بعد وفاته. ويذكر أن حياة أولئك الذين تم فتح بلادهم لم تتغير اللهم إلا بأداء الجزية والخراج، وقد تركت لهم حرية عبادتهم. كلا، ما كانت الفتوحات الإسلامية بالاجتياح، وإنما احترمت ثقافة وإيمان العديد من البلدان التي صارت تحت إمرتها، على الرغم من مبالغات بعض المؤرخين النصارى. وكذلك حدث في فتح القدس أيام عمر، والذي خصص له المؤلف صفحات طوال. ثم يشير إلى فتح مصر، راجعًا إلى المصادر الأجنبية باحثًا منقبًا مقلباً. وينتقل إلى الحديث عن عثمان وجمعه القرآن حتى وإن لم يفلح أبدا في إتلاف كل النسخ السابقة ... ثم كانت الفتنة والانشقاق والمقتل (656 م) .. وتلتها فتنة علي ونزاع بعض الصحابة... فظهور الفرق السياسية ... وصراع علي ومعاوية، فمصرع علي ... واتساع صيته بعد مصرعه.

وخلاصة الفصل أن أهم سمة طبعت الخلافة الراشدة ما كانت هي الحرب الأهلية القصيرة، وإنما أنه لم يفرض على البلدان التي فتحتها، باستثناء الخراج، لا اللغة ولا الدين ولا العادات: لقد استمرت الكنائس تشتغل كما من ذي قبل، وبقيت الوثائق تصدر باليونانية. وقد شهدت آخر الوثائق المكتشفة أنه ما كان من أثر للمسلمين على السكان الأهالي.

  • الفصل 8 –ترخيص جديد

يشرع هذا الفصل على الحديث عن أول خلفاء بني أمية وعن مساره ودلالة إقامته الملك بدءا من دمشق وليس من مكة أو المدينة، وعن موازين القوى بين بيزنطة وفارس. ويشير إلى استمرار الفتوحات، وإلى صراع معاوية مع البيزنطيين ومحاصرته قيصرة، وإلى مواصلة عدم القطع مع التوازن القائم على واقع الحال. ثم يصف خلافة معاوية بعد وفاته (680 م) والحرب الأهلية الثانية التي خاضها عبد الملك ضد ابن الزبير...والانقسام السني الشيعي الكبير. ثم يلمع إلى التغير الحادث: بداية فرض اللغة العربية لغة رسمية للإدارة وتعريب الدواوين وضرب النقود... بما يشي عن الطابع التوحيدي المركزي لحكم الأمويين.

ويشير المؤلف إلى عودة مكة إلى سالف عهدها: مكان للحجاج مقدس جامع للمؤمنين وليس أكثر ... وهو الأمر الذي واصله العباسيون (بغداد). وهنا يتساءل المؤلف تساؤلا يتركه معلقا: وماذا لو أن الأمويين حكموا بدءا من مكة؟

  • 9 –قبة الصخرة

يخصص الباحث هذا الفصل للحديث الطويل عن عمل عبد الملك الأموي المعماري: قبة الصخرة. ويصف القبة بالتفصيل: مكوناتها، موقعها، مكان بنائها، مكتوباتها، منقوشاتها، حضورها في كتابات أهل القدس وحجاجها، حضورها في مصادر الرحالة ... والرويات حولها وحول حادثة الإسراء، وأهميتها الرمزية بالنسبة إلى المُسلمين ...

وبالنسبة إلى المستقبل، يلاحظ أن القدس مدينة جامعة للمسلمين والنصارى .. وفيها إحياء للتوحيد العتيق، إلا أن الغائب هو توحيد اليهود. ويرى أنه لسوف يمضي زمن طويل قبل أن يفكر المسلمون واليهود في المشترك الإيماني بينهم البين، وفي انحدارهم معاً عن إبراهيم. ويشير إلى أنه لا أحد فهم هذا الأمر أكثر من ابن ميمون، في القرن الثاني عشر الميلادي، والذي كان قد أتقن اللسانين العربي والعبري، كما خبر ما الذي يعنيه التعصب. وفي رسالته إلى أهل اليمن جابه بين المذاهب التوحيدية الثلاثة، وطرح مشكلة أن يحيا الواحد منهما تحت الآخر: ما الذي يعنيه أن تكون يهوديا تحت الحكم الإسلامي وتحت الحكم النصراني؟ على الأقل اليهود والنصارى يشتركون في التوراة، لكن القرآن يبقى مقدسا فحسب بالنسبة إلى المسلمين. لقد بنى عبد الملك قبة الصخرة على أنقاض ما كان مشتركا بين الأديان الثلاثة، لكن صارت القبة تعني ديانة واحدة، ولا تقدم، في رأي المؤلف، سبيلا إلى التعايش مع الآخرين.

ويختم المؤلف بالقول: إن تشكيل المركبة التي ركبها محمد إلى العالم تحت اسم "الإسلام" إنما انطلقت من صهر مذاهب لا تأتلف وتقاليد تتنوع. وإنه لن نفاجأ إذا ما اكتشفنا أن هذه المذاهب والتقاليد غير المؤتلفة دامت دوام الإسلام نفسه. إن تاريخ الصلات بين اليهودية والمسيحية والإسلام مليئة بتأملات عميقة حول هذه المشاكل وحاضرة في أعمال قسم أعظم من المفكرين من داخل التقاليد الثلاثة: حتى وإن بقيت الانفصالات والخلافات بداخلنا، علينا أن نعتبر أنفسنا محظوظين بأننا قادرون على الأقل على ملاحظة ووصف العناصر المتطايرة التي منها بزغ الإسلام.

أخيرًا، لا شك عندي أن لهذا الكتاب فضائل عدة:

منها؛ أنه، وعلى خلاف العديد من الكتب، ما كان فيه لكل سؤال جواب. فهو كتاب في تعليق الأسئلة أكثر منه كتابا في الإجابة عنها. هو كتاب ارتياب ولا كتاب يقين. لا ننس أن مفهوم "اليقين" مشتق من "أيقن" الماء "يوقن" إذا ركد، وفي ركوده يمكن أن تنمو كل الجراثيم المشوشة على إعمال الفكر.

ومنها؛ أن أغلب الكلام فيه معزز بالاكتشافات الحفرية الجديدة. وفي ذلك تكامل بين النصوص القديمة الأصلية، أولا، ثم النصوص المرجعية، ثانيا، فالحفريات النقوش، ثالثا.

ومنها؛ تنوع مصادره سريانية ويونانية وحبشية ولاتينية ... مما يجعله منجمًا مهمًا للمعلومة لا يكتفي باللسان الواحد.

لكن ما قد يشين هذا الكتاب بعض الشين أمور:

أولا؛ مناحي التكرار التي اعتورته، حتى أنه يذكرني بجارية ابن السماك: تكلم ابن السماك يوماً وجارية له تسمع.‏ فلما دخل قال لها:‏ ‏ "كيف سمعت كلامي؟‏" ‏ قالت:‏ ‏ "ما أحسنه لولا أنك تكثِر ترْدادَه!‏" ‏قال:‏ ‏ "أُردِّده حتى يفهمَه من لم يفهمْه".‏ ‏ قالت:‏ ‏ "إلى أن يَفهمَه من لم يَفهمْه يكون قد مَلـَّه مَن فهمَه". ‏

ثانيًا؛ أمام انعدام الوثائق وكثرة البياضات تبقى آلة التخمين المجرد تشتغلوكأنها ذبابة تكسر أم رأسها إذ تنطح زجاجة فارغة. وكأني أمام قصة القرد الألماني على عهد الفلاسفة الألمان الكبار الذينيضربون به المثل في التفكير "الأرأيتي" [أرأيت لو أن ...] فيحكون أن قرداً كان مبتلى بطبخ اللحم كل يوم، فلما لم يجد ذات يوم لحماً، ما كان منه إلا أن ارتد على عقبه مستديرا إلى ذنبه قطعه فطبخه بغية الحصول على هجيراه !

ثالثا؛ يلاحظ لدى المؤلف تقدمةللتحليل السياسي على كل تحليل آخر، وذلك حتى أنه يتهيأ لي أن المؤلف يقرأ الماضي بالحاضر أو يسقط الحاضر على الماضي، لا فرق. فكما تتصارع قوى اليوم على المنطقة، تَصَوَّر المؤلف ـ لربما بشيء من المبالغة ـ صراع "قوى" الماضي.ولو جربت أن تضع محل الساسانيين القدامى ملالي اليوم، ومحل البيزنطيين القدامى أمريكيي اليوم، فإنك لربما لم تجد لقواعد لعبة الأمم تبديلا !

------------------------------------------------------------------

التفاصيل :

عنوان الكتاب :  The Crucible of Islam

اسم المؤلف : G.W. Bowersock

لغة الكتاب : الإنجليزية 

دار النشر : هارفارد

سنة النشر : 2017

عدد الفصول : تسعة، فضلا عن مقدمة، ولائحة مصادر ومراجع، وكشاف ..

 

 

أخبار ذات صلة