فيكتوريا زاريتوفسكايا *
* أكاديمية ومستعربة روسية
بحُكم تجربته الطويلة في الشرق الأوسط والأدنى، والتي كرس لها ستين عاما من حياته؛ وذلك مذ كان طالبا في معهد موسكو للعلاقات الدولية، ونظرا لخبرته في المنطقة العربية، حيث درس في جامعة القاهرة، وتنقل بين العديد من الأقطار العربية بصفته مراسلا لجريدة البرافدا السوفيتية، ثمَّ أخيرا باعتباره مُستعرِبا ومُختصًّا بالشأن الإفريقي، وأستاذا في الأكاديمية الروسية للعلوم، فإنَّ الدراسات التي يقدمها ألكسي فاسيلييف تعزِّز من مصداقيتها لدى القارئ، وتضاعف من أهميتها ضمن المجال الذي تعمل فيه. وفي رصيد هذا الأكاديمي نحو أربعين كتابا ومئات المقالات التي تُرجِمت إلى اثنتي عشرة لغة. ومن عناوين مؤلفاته: "الوهابية والدولة السعودية الأولى"، و"تاريخ المملكة العربية السعودية"، و"إفريقيا وتحديات القرن الحادي والعشرين"، و"جسر عبر الفوسفور"، و"مصر والمصريون".
ويعدُّ الكتاب الذي بين أيدينا "من لينين حتى بوتين.. روسيا في الشرق الأدنى والأوسط" محصلة جديدة لنصف قرن من الدراسة والبحث في منطقة الشرق الأدنى والأوسط، وهو تقييم يتوسَّل الحياد في مقارباته لقاضايا هاتين المنطقتين من العالم، ولا يتحيز لسياسات دولة بعينها، ومن بينها بلده روسيا التي تربطها علاقات ومصالح كبرى وإستراتيجية بالشرق عموما، بل نراه يفند الأخطاء التي اعترت رؤية موسكو في التعامل مع قضايا تلكم المنطقتين، ويكشف عن الخطل الذي أحاط بتوجهات بلاده في رسم إستراتيجياتها تجاه ذلك العالم الذي لطالما أطلق عليه تسمية العالم الثالث. الفترة الزمنية التي يغطيها الكتاب، من لينين قائد الثورة البلشفية إلى بوتين الرئيس الحالي لروسيا، تصل إلى نحو مائة عام، تبدلت فيها الأحوال وتغيرت طبيعة العلاقات التي حكمت روسيا بالمنطقة من الرومنسية التبشيرية إلى البراجماتية الصارمة - حسبما يصفها المؤلف.
ينظُر المؤلف في كتابه إلى عملية صنع القرار في الكريملين حول قضايا الشرق الأوسط على ضوء حقائق لم تكن معروفة من قبل تتعلق بأزمة السويس عام 1956، والحروب العربية-الإسرائيلية في عامي 1967 و1973، وحرب الخليح عام 1991، والتدخل السوفيتي في أفغانستان وسياسة موسكو تجاه إسرائيل، إلى جانب الخطوات البراجماتية التي تقود روسيا الجديدة للحرب ضد الإرهاب، ناهيك عن الاحتلال الأمريكي للعراق، وأزمة الربيع العربي والأزمة السورية.
لقد وضع المؤلف نفسه أمام مهمة صعبة وطموحة نوعا ما، معربا عن أمله في تحقيق نجاح ولو جزئي في خوض غمار منطقة معقدة ومشتعلة، وإلقاء ضوء كاشف جديد على السياسة التي انتهجتها موسكو حيال المنطقة؛ سواء في زمنها السوفيتي الغارب أو في الوقت الراهن. ويشير المؤلف إلى مستويين من المعطيات التي يجب النظر إليهما عند تحليل العلاقات الروسية بالشرق الأوسط؛ أولهما يتعلق بالوضع الاجتماعي والسياسي الواقعي للشرق الأوسط، حيث تعمل وكالات الشؤون الخارجية الروسية، والثاني يتعلق بالهياكل السياسية البيروقراطية السوفيتية التي حدَّدت السياسة الخارجية للبلاد عبر تصميم أيديولوجي معين، ولا يزال التعالق مع هذه الهياكل ساريا حتى اليوم.
ثمة أيضا مستوى ثالث، لكنه أقل تأثيرا من سابقيه، ويتعلق بالكوادر التي شاركت في رسم أو تنفيذ السياسة الروسية مع كل ما يعتري الكادر البشري من معرفة وجهل وحماقة، وما يسيره من معتقدات وتحيزات ومصالح، وما يستولي عليه من شجاعة وجبن، وبكل ما يتلبسه من أوهام. وهناك أخيرا المستوى الرابع الذي يترك أثره الطبيعي على هذه الدراسة؛ أي حضور المؤلف نفسه الذي كان شاهد عيان على الأحداث التي يسوقها في كتابه، ومشاركا في بلورة بعضها.
يبدأ فاسيلييف ربط أفكاره بقبس من ذكرياته حين كان يعمل مراسلا لجريدة البرافدا السوفيتية في عُمان. وبدءاً من تلك المرحلة المبكرة لعمله كانت الأسئلة والشكوك تساوره عن الضرورة الفعلية للاتحاد السوفيتي من تواجده في الجزيرة العربية. فإن كانت الحال تُحتم على دولة كبيرة كالاتحاد السوفيتي مد يدها إلى مختلف أرجاء المعمورة، فما هو -إذن- الوضع المثالي للتواجد في جزيرة العرب والشرق الأوسط برمته؟ يقول في هذا السياق: "لا أعرف ما إذا كان عليّ أن أبتهج أو أحزن لِما رأيته وسمعته وعلمت به. لم أعد عضوا رومنسيا في الكومسمول (اتحاد منظمات الشبيبة السوفيتية)، مستعدا لخدمة قضية النصر القادم للشيوعية على الكرة الأرضية، كما كُنت في شبابي. تتناوب الأسئلة الحادة والسوداء على رأسي: لماذا تُقبل الأفكار الشيوعية في أكثر المناطق تخلفا على الكوكب، مثل جمهورية لاوس التي قمت بزيارتها مؤخرا بينما في الدول المتقدمة كالمجر وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية فيجب فرض الشيوعية بواسطة الدبابات؟ ما الذي نريده من هذا المكان ومن الشرق الأوسط بمجمله؟ النفط؟ ما لدينا منه يفيض عن الحاجة. خلق مجال اقتصادي؟ ليس لدينا شيء نتداوله معهم. بناء مجتمع اشتراكي ومن ثم مساعدته ونصرته؟ هل نربح أم نخسر من انتشار الشيوعية؟ ومن هم "نحن"أولاء؟ الاتحاد السوفيتي؟ روسيا؟ نخبة الحزب؟ الإنتلجنسيا الروسية؟ أجل، ربما لا تكون هذه الـ"نحن" أي روسيا بحاجة لأن يقوم الطيارون العسكريون البريطانيون والأمريكيون بالتحليق في سماء الجزيرة العربية؛ ذلك لأنهم لو فعلوا ذلك سيكونون قادرين على الطيران إلينا بمعية قنبلة ذرية.. حسنا، ولكن ماذا عن الباقي؟" (ص:8).
يُؤكد ألكسي فاسيلييف أن الاتحاد السوفيتي قد أضاع الكثير في علاقاته مع العالم العربي. وفي محاولة منه لطرح تقييم موضوعي لذلك، يستشهد بسلسلة من الحوارات التي أجراها مع دبلوماسيين وسفراء روس سابقين ممن وضعوا أيديهم على مجريات الأحداث. يقول أحد أولئك متذكرا: "لقد حال انغلاق المجتمع السوفيتي بيننا وبين تطوير العلاقات مع العالم العربي. عشرات الآلاف من المواطنين العرب تلقوا تعليمهم في الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك فقد عانى الآلاف من المهاجرين السياسيين وغيرهم من الوافدين من البلدان العربية، عانوا من صعوبة الاستقرار في الاتحاد السوفيتي. كما لم يتمخَّض التواصل الثقافي الروسي العربي عن شيء يذكر. ففي الوقت الذي لعب فيه مهاجرون من الدول العربية -ومن بينهم: أطباء ورجال أعمال وسياسيون ودبلوماسيون- دورا كبيرا في الولايات المتحدة، نجدهم عندنا يعملون في وكالات الأنباء تقنيين في مجال الترجمة والتدقيق اللغوي وليس أكثر من ذلك. لقد عمل المستشرقون العرب جنبا إلى جنب مع زملائهم الغربيين في الجامعات الأمريكية والبريطانية الكبرى، وكانوا يقومون بإعداد ونشر الأعمال العلمية على قدم المساواة، بينما لم يخرج لدينا كتابٌ قيّم واحد يتوّج مجهودا مشتركا بين خبير روسي ونظيره العربي، باستثناء القواميس".
ومن فصل في الكتاب إلى فصل آخر، يُتيح المؤلف لقارئه تتبُّع خط العلاقات التي ربطت الاتحاد السوفيتي، ومن بعده روسيا، بالشرق الأدنى والأوسط، رغم أن تفكير وسلوك القيادة السوفيتية كانا، ولفترة طويلة، مشوبين بأفكار تبشيرية تكفلت بتعكير أولوليات السياسة الخارجية وإعاقتها عن العمل، إضافة إلى أن الجمود في الدعاية الشيوعية شكل ضغطا على صنع القرار السياسي. أفضل مثال يدلل على الأجواء التي هيمنت على طبيعة تلك العلاقات ما جاء في الحديث الذي أجراه مؤلف الكتاب مع سفير الاتحاد السوفيتي في الجمهورية العربية اليمنية آنذاك أوليج بيريسبكين. يقول السفير: "لقد ساعدناهم على خلق الصورة التي تشبهنا والهياكل التي لدينا. أرسلنا لهم مجموعات كبيرة من خبرائنا الذين قاموا بتعليمهم أن يفعلوا بالضبط ما نرفضه الآن. وبشكل ما نقلنا لهم أفكارنا ومعها طريقة تفكيرنا. فإذا ما قام أحدهم بالإساءة إليك، أو إذا ما شعرت بأن ثمة من يفكر بالهجوم عليك، حينها لا ينبغي عليك التفاوض مع الخصم، وإنما بادر بتسليح نفسك واستعد لصد الهجوم؛ الأمر الذي كُنا نفعله بأنفسنا دائما. فإن لاح في الأفق تهديد من قبل المملكة العربية السعودية (على سبيل المثال) كنا نستبق تأييدهم بالدبابات والطائرات بدل تقديم المشورة لبدء المفاوضات والتوصل إلى بعض التنازلات. وعلى هذا الأساس، نمت براعم لمغامرة خطيرة وغير محسوبة" (ص:205).
يصوِّر المؤلف، وبقدر كبير من المكاشفة، كيفية اتخاذ القرارات على هامش السلطة السوفيتية وتقييم الأوضاع في الشرق العربي والحكم عليها. يقول في ذلك: "جاء اتخاذ القرارات في مجال السياسة الخارجية والاقتصاد والشؤون الداخلية الأخرى من قِبل دائرة ضيقة جداً من الناس؛ وذلك من دون مناقشة مستفيضة وكافية، وأيضا من غير إثبات البراهين أو إبداء تقييمات موثوق بها. فغالبا ما تكون النوايا هي السائدة في اتخاذ القرارات. وبشكل عام، فإن كل مسألة، بما في ذلك مسألة الشرق الأوسط، يجري الحسم فيها توافقيا بين ثلاث جهات: وزارة الدفاع ووزارة الخارجية ولجنة أمن الدولة "كي.جي.بي".
إنَّ النزوع الفطري للبقاء ضمن الهيكلية البيروقراطية للحفاظ على الوضع الراهن، وملامسة الأفعال من سطحها، وإحلال الألفاظ محل الأفعال قد وصلت في النصف الثاني من السبعينيات إلى حد الجنون المطلق. يقول المؤلف: "ظاهريا، بدا كل شيء بمنظر لائق للجمهور. إنك تشاهد برنامج "الساعة" في التلفزة وتقبل كل ما يُعرض عليك، أكان الحديث عن المفاوضات السوفيتية اليمنية الجنوبية أو السوفيتية الأردنية. فكل ما يظهر على الشاشة: الكريملين، الأطقم المذهبة، القمصان البيضاء، البدلات الداكنة، كل شيء يظهرُ كما ينبغي عليه أن يكون. وبالمقابل فبالكاد يعلمُ أحدٌ أن لا بيرجنيف ولا تشيرنينكو كانا يعرفان مع من يجري التفاوض"(ص:235).
لم يكن بوسع الكاتب التغاضي عن حدث الساعة في الشرق الأوسط وعلاقة روسيا المباشرة به، أي المسألة السورية والتدخل الروسي فيها، فخصص لها فصلا خاصا من كتابه. لماذا دعمت روسيا نظام الأسد ولم تنأَ بنفسها عن الخوض في منطقة متفجرة؟ ولكن، وبما أنها قد دفعت بقواتها إلى سوريا، فما هي أهدافها الحقيقية من وراء هذا التدخل الخطير؟ هذه عينة من الأسئلة التي ناقشها فاسيلييف في الفصل المتعلق بالمسألة السورية؛ حيث يستعرض الخطر الذي يتهدد روسيا من وراء هذا التدخل، بدءاً بالعبء المالي المكلف، مرورا بتعمق شروط هذا التدخل وانتهاء بظهور موجة من العداء الإرهابي المعادي لروسيا كردة فعل محتملة. ويقف الكاتب في هذا الفصل على حقيقة أن الوضع السوري والموازين على أرض الواقع لا تتيح لأي طرف أن يرفع راية النصر؛ إذ لا وجود لمعايير النصر في واقع رجراج، لا في سوريا ولا في الشرق الأوسط والأدنى برمته.
وختاما، يضع الكتاب الذي بين أيدينا السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق، وروسيا التي خلفته، يضعها في ميزان التقييم النقدي ويطرحها على طاولة التشريح، معربا في الوقت نفسه عن الغموض والتناقض اللذين اكتنفا تلكم السياسة في مخاضات غير قليلة من تاريخها. ويعلن الكاتب صراحة أن السياسات الخارجية للبلدان المؤثرة في عالمنا المعاصر تجاه الشرق الأدنى والأوسط؛ سواء كانت السياسة الروسية، أو الأمريكية، أو الأوروبية، أو الصينية، فجميعها اتَّسمت بالحدية، واستبدلت بالمصالح المطامع، وتخلت عن التناغم الذي تستجوبه الحضارة وتحث عليه الأديان، لتسلك طريق الصدامات والآلام التي تنتج عنها.
---------------------
التفاصيل :
- الكتاب: "من لينين حتى بوتين.. روسيا في الشرق الأدنى والأوسط".
- المؤلف: ألكسي فاسيلييف.
- الناشر: تسنتربوليغراف، موسكو، بالروسية، 2018م.
- عدد الصفحات: 670 صفحة.
