تأليف جماعي تحت إشراف آنا مرمدورو و صوفي كارثوايت
عرض: وليد العبري
من الأمور المُعقدة التي تناولتها الفلسفة ولا تزال، مسألة الصلة بين ذهننا وجسمنا، ويعد هذا الكتاب أول كتاب جامع في تناول هذه المسألة كما طرحت على عهد القدامة المتأخرة "العهد الهلينستي" الذي تثاقفت فيه الحضارتان اليونانية والرومانية. وهو كتاب يستكشف التصورات التي سادت عن الذهن وعن الجسد وعن أوجه التعالق بينهم، خلال تلك الحقبة، عارضا هذه التصرفات كما بدت عند الفلاسفة الوسنيين والمسيحيين على حد سواء نومينيوس، دينيسوس المنحول، أوغسطينوس وغيرهم، ولا سيما منها ما تعلق بالبعث والتجسد والتنسك. وقد نهضت جماعة من الباحثين بإيراد هؤلاء المفكرين، في لسانها الأصلي مع إشراف آنامرمدوروالتي تحمل منصب رئيس قسم الميتافيزيقيا فيجامعة دورهام، وهي في نفس الوقت زميل أبحاثكلية كوربوس كريستي وعضو مشارك في الفلسفةكليّة في جامعة أكسفورد، وكذلكصوفي كارثوايت وهي مؤلفة الأنثروبولوجيا الإنسانية. ويعتبرهذا الكتاب مرجعا للطلاب والعلماء والمفكرين عن العقلية المتأخرة، وتاريخ الدين واللاهوت، وفلسفة العقل.
في الفصول الأولى تحدث الكتاب عن مشاهد الفلسفة القديمة منذ بدايتها، وعن النهج التاريخي للفلسفة، وعن سوء استخدام مصطلح الفلسفة في وقتنا الحاضر؛ إذ في عالمنا اليومي هناك استخدام شعبي لفلسفة الكلمة، الفلسفة هي مصطلح يطبق على أي منطقة من مجالات الحياة، قد تعبر بعض الأسئلة عن هذا الموقف العام: ما هي فلسفة عملك؟ ما هي فلسفتك فيقيادةالسيارة؟ أو فلسفتك في استخدام المال؟ إذا ساد سوء الاستخدام الشعبي للكلمة، فيمكن للمرء أن يعترف بأن أي شخص يفكر بجدية في أي موضوع هو فيلسوف،وإذا فعلنا ذلك، فإننا نتجاهل التخصصات الأكاديمية، أو أصول الفلسفة،وإذا تم قبول هذا التعريف العام، يصبح الجميع فيلسوفا. ومن قبيل المفارقة، أنّه عندما يكون الجميع فيلسوفا، تصبح الفلسفة بلا معنى كتعريف، وبسبب هذا القصور يصبح من الواضح أن علينا أن نبحث في مكان آخر عن تعريف للفلسفة.
وعلى الرغم من هذا التنوع، فإنّ الفلسفة مهمة،إذ قال أفلاطون إنّ الفلسفة هي هبة من الآلهة منحت للبشر،وقد يعكس هذا قدرة الإنسان على التفكير بشكل عام حول العالم، وبشكل خاص حول ذاته وداخله،ويعكس بيان سقراط الشهير "اعرف نفسك"، كما حذّر أفلاطون من إهمال الفلسفة، إذ قال في إحدى عباراته المشهورة "إنّالحيوانات البرية جاءت من الرجال الذين لم يكن لهم استخدام للفلسفة".
وعند الحديث عن النهج التاريخي والتغلل فيه، يجب علينا دراسة الشخصيات التاريخية،وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو وأوغسطين وتاليس وفيلو وأبلتينوس وأكوينيز وكانط وإريغينا وهيوم وماركس وهيجيل وإنشتاين وغيرهم الكثير، كلهم يعتبرون فلاسفة،لكن ما الذي يجمعهم معا؟ لأنّهم متنوعون جدا في كثير من وجهات نظرهم؟ إجابة واحدة تكمن في مجموعتهم المشتركة من المشاكل والمخاوف؛إذ اهتم الكثيرون بمشاكل الكون، وأصله، وما هو في طبيعته، ومسألة وجود الإنسان، والخير والشر، والسياسة، ومواضيع أخرى.
ثمّ تحدث الكتاب عن نظريات العقل في العصر الهلنستي.وقبل الخوض في الحديث عن نظريات العقل، سنقوم بتوضيح ما العصر الهلنستي، حتى يتمكن القارئ من ربط الأفكار بعضها ببعض، وتتضح الصورة بشكل عام، إن "العصر الهلنستي" اصطلاح تاريخي أطلق على الفترة الزمنية الممتدة من وفاة الإسكندر عام 323 ق.م. حتى قيام الإمبراطورية الرومانية على يد أوغسطس في عام 30 ق.م. وقد سمي بهذا الاسم تمييزاً له عن الفترة الإغريقية، وهي الهلينية الصحيحة، وعلى أساس أنّ الحضارة الجديدة منتسبة إلى هذه الحضارة، أو متأثرة بها. ويختلف المؤرخون في تحديد معنى لفظة "هلنستي"، وان كان الجميع يتفقون على أن الهلنستية عنوان مناسب للدلالة على حضارة القرون الثلاثة السابقة للميلاد، التي كانت فيها الثقافة الإغريقية تسود، إضافة إلى بلاد اليونان، بلاد الحضارات القديمة، مصر وفارس والرافدين وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين.
تعد نظرية العقل من القضايا الفلسفية التي لاتزال موضوع إشكال وتساؤل حتى في الفلسفة المعاصرة، وقد ظل مفهوم العقل في مرحلة ما قبل أرسطو ملتبسا، لم يرق إلى مستوى التأسيس النظري لفلسفة العقل، الأمر الذي تأتى على يد أرسطو واضع أول نظرية في العقل لتاريخ الفكر الفلسفي؛ إذ كان أكثر وضوحا في التمييز بين التصور الأبيستمولوجي للعقل الإنساني بوصفه أداة برهانية، والتصور الميتافيزيقي والأنطولوجي للعقل بوصفه المبدأ الأساسي للموجودات.
بيد أنّ الدلالات المختلفة لنظرية العقل الأرسطية هي من الخصوبة والغنى، بحيث أصبحت مثارا للجدل والنقاش بين مفسري المشائية اليونانية والعربية وشراحها، وبتأثير من أرسطو وشراحه والأفلاطونية المحدثة.
وتاريخيا تعود نظرية العقل في أصولها الفكرية ودلالاتها الفلسفية إلى أرسطو، الذي ميّز بين نوعين من العقل، هما: "العقل العملي" و"العقل النظري"، وتناولهما في ثلاثة مؤلفات مختلفة من حيث المضمون، فقد خص العقل العملي في كتابه "الاخلاق النيقوماخية"، أما العقل النظري فقد خصه في "الميتافيزيقا" وفي كتاب النفس، وذلك لأن لكل من العقل العملي والعقل النظري مبادئه وغاياته، وذلك بحسب ناحيتي فعل العقل الإنساني.
كذلك تحدث الكتاب عن مومينيوس الأفامي، الشخصية الذي ازدهر اسمه في النصف الأخير من القرن الميلادي الثاني، ويصنف مومينيوس من الفلاسفة الفيثاغوريين الجدد، وجعل من فيثاغورث معلمه الأعلى، على الرغم من أن توجههواقتباساته عن أفلاطون تبدو واضحة كل الوضوح، وقد حفظت الشظايا والبقايا الأثرية بعضامن مؤلفاته العديدة التي قدمت لنا عن طريق أوريجانوس، تيودوريت وخاصة منقبل يوزيبيوس، ومن خلالها أمكننا التعرف على طبيعتهالفلسفية الفيثاغورثية-الأفلاطونية.
على الرغم من كون نومينيوس من الفيثاغورثيين الجدد، إلا أنّهدفه كان تتبّع الفلسفة الأفلاطونية وصولا إلىالفيثاغورثية، وفي الوقت نفسه إثبات عدم تعارضهما مع المعتقدات الدينية اليهودية والمجوسية والمصرية. وكان جُل اهتمامه استعادة الفلسفة الأفلاطونية والفيثاغورثية، والتوسط بين مذهبي سقراط وفيثاغورث، وتطهيرها من الآثار الأرسطية والرواقية.
ومن الشخصيات الأخرى التي تحدث عنها هذا الكتاب هو أفلاطون، إذ خصص مساحة كبيرة للحديث عنه كما خصصها لباقي الفلاسفة الآخرين، وتحدث باقتضاب عن نظرياته في العقل وفلسفة الوجود، التي أثارت جدلا واسعا بينه وبين الفلاسفة الآخرين، وغيرها من النظريات الأخرى. كذلك خصص الكتاب مساحة لكل من الفلاسفة نومينيوس، ودينيسوس المنحول، وأوغسطينوس وامبليكوس، والحديث عن نظرياتهم، وطريقة تفكيرهم، ونظرتهم للجسد والروح.
إنّأفلاطون يمجد الروح ويحتقر الجسد، بل ويعتبره مصدر العمى والتشويش، لأن أساسه حسي أي يعتمد على الحواس الخمس المعروفة. أمّا الروح فإنها أساس النظر الصحيح لأن أساسها عقلي، "لكي تصبح فيلسوفا حكيما ينبغي أن تمارس على نفسك تحويلا ينتهي بك إلى الانشطار إلى ثنائية متنافرة تغلب فيها سلطة الروح على الجسد". يضيف أفلاطون "ينبغي التخلص من حمق الجسد،وإنانطواء النفس على ذاتها وبعدها عن الجسد إنما هو التفلسف على الحقيقة"، هنا تكلم أفلاطون عن النفس بدل الكلام عن الجسد! فهل، ترى، الروح بالنسبة له هي النفس؟ نفهم ذلك من منطوق كلامه الأخير. هذا الكلام ذو مغزى خطير لأن الديانة المندائية تنهج النهج المعاكس إذ تمجد النفس وتحتقر الروح؛ لإنها مصدر الشرور في حياة المندائي، النفس هبة من الله، من مليك النور الحي الأزلي حسب معتقداتهم .
وما كان موقف أرسطو، تلميذ أفلاطون، من الجسد والروح والنفس؟ إنه خالف معلمه في هذا الشأن خلافا كبيرا وطرح فكرة جديدة لم يسبقه إليها أحد من الفلاسفة والمفكرين. قال ما يلي: "جسد باعتباره آلة تملك أدوات النطق، وروح بوصفها نفسا تفكر".اعترض الكثير من المفكرين والفلاسفة على كلام أرسطو طاليس هذا بأن ليس جسدالإنسان آلة للنطق فحسب، وإنما هو مركز وأداة السمع والبصر والشم واللمس والتفكير والخيال والقوة الحافظة (الذاكرة) وغيرها الكثير. ثمإنه ربط الروح بالنفس، روح تفكر ولكن بجهاز آخر هو النفس! خالف أرسطو بأطروحته هذه جميع الفلاسفة والأديان كما سنرى لاحقا؛إذ نعرف جميعا أن الدماغ هو مركز التفكير، ومكانه معروف محدد في رأس الإنسان، فما موقع ومكان النفس في جسد البشر؟ وإذا كانت الروح تفكر بالنفس فما وظيفة الدماغ؟
وللديانة المندائيةرأي آخر في موضوع الروح يختلف جذريا عن باقي الأديان، ولا سيما الدين الإسلامي. يعتقد الصابئة المندائيون أن للإنسان روحا ونفسا، وأن النفسهي هبة الله للإنسان التي فيها من سنا وجلال موطنها الأصلي، ونوره وكماله وجماله وسلامه لإعانتها من شرور الأرض ومغرياتها، تكون عرضةللحساب. أما الروح التي حلت جسد الإنسان مع نفسه فهي التي تدفع الإنسان إلى الشر والفساد والمخالفة، لأنها مجموعة من الخلايا الحية والغرائز والعادات المختلفة التي حملت معها كل ما في عالم الظلام من خبث ومكر وكذب وشر ورياء وفساد وإغراء بالخطيئة والمعصية، هذه هي الروح المندائية حسب العقيدة المندائية وهي على النقيض من الروح في الدين الإسلامي، ومن الروح في فلسفة أفلاطون قبل الدين الإسلامي، ثم في فلسفة تلميذه أرسطو حسب تصورات ومعتقدات المتصوفة المعروفة، هل يعتقد متصوفة الإسلام أنهم، كالمسيح، فيهم روح الله كلا أو جزءا؟ إنهم كأفلاطون أو شديدي التأثر بفلسفته وموقفه من الروح.
وتحدث الكتاب كذلك عن الزهد في المسيحية مؤكدا أن بذور حياة الزهد والرهبانية أي الانعزال في أصول المسيحية الأولى فالعهد الجديد، لم تخل من الإشارات التي تحض الناس على الانصراف للعبادة متى استطاعوا ذلك، وأن يبتعدوا عن النساء وعدم الزواج بهن، فلقد ورد في إنجيل متى { 12 :19 } :" ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، من استطاع أن يقبل فليقبل".
وجاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: "وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة"، وإذا كنا نسمع عن أمثلة لبعض المخلصين الذين آثروا الانقطاع للحياة الدينية في أوائل عهد المسيحية،فإن هذا اللون من ألوان الحياة الدينية لم يصبح أمرا ما في الشرق المسيحي قبل القرن الرابع {حيث أنه في عهد الإمبراطور قسطنطين أصبحت الديانة المسيحية ديانة مرخصة}، في حين لم ينتشر في الغرب قبل القرن الخامس، ولم يصبح شائعا قبل القرن السادس، ويفهم من هذا أن حياة الزهد والرهبانية شرقية الأصل، بل أقوى أثر تركه الشرق في المسيحية.
وتستند عقيدة التزهد والرهبنة القديمة إلى اصطلاح الـ Askesis الذي كان نقطة الانطلاق لكل حركات الرهبنة في الكنيسة القديمة.وأصل "الاسكيزس"، في اللغة اليونانية ومعناه: رياضة أو ممارسة، فكان يعني في الأصل رياضة معينة للوصول إلى كمال معين، ولا تقتصر هذه الرياضة على ميدان واحد من ميادين الحياة بل تشمل كل ميادين الحياة التي من شأنها أن توصل الإنسان إلى درجة الكمال، واعتبر أهم ميدان لتحقيق الكمال هو القيام بتمارين رياضية بدنية مجردة وهو ما نعرفه اليوم ب "اتليتيكا"، ولكن مع مرور الزمن اكتسب الاسكيزس مفاهيم أخرى غير التمارين الرياضية البدنية، وإنما الجانب الروحي، والذي احتل المكانة الأولى في مدلول ومفهوم الاصطلاح.
يبدو من خلال تلك الأفكار الّتي تحدثنا عنها، أننا واحد بدون انفصال جسد وروح، علينا التركيز على هذه الفكرة، لأنّهشئنا أم أبينا، يبقى فكرنا متأثرا بالفكر اليوناني القديم: الإنسان كائن مزدوج وليس موحدا(جسد فان، وروح خالدة). فكل الفكر الغربي الَذي تأثرنا به، والَذي بدوره تأثر بالفكر اليوناني القديم، علمنا هذا "الانفصال" بين الجسد والروح، مع شيء من عدم الثقة بالجسد، أو النظرة السلبية له، لكونه مصدر فوضى، أو ضعف، وبالفكر المسيحي مصدرا للخطيئة، فالروح أو النَفس عليها أن تخرج من الجسد، الذي هو سجنها كما يقول أفلاطون، وإلا تبقى سجينة لهذا الجسد الذي يقودها للظلمات. بينما الفكر السامي، فكر الكتاب المقدس بعيد كل البعد عن هذا المعتقد؛ ففي نظر الكتاب المقدس، الجسد ليس عنصرا خارجيا يمكن للروح الاستعاضة عنه، فالجسد هو جزء أساسي وجوهري من كياننا الإنساني.
ومن هنا يمكننا القول: إن الجسد والروح مترابطان بعضهما ببعض على صعيد الوجود، كارتباط الصوت والمعنى على صعيد اللغة، فالروح لا يوجد أبدا بدون جسد، والجسد بدون الروح يصبح جثة. كل ما هو متعلق بوجودنا الإنساني يعبر عنه من خلال الجسد، كل شيء مرموز له من خلال الجسد، حتى في أعمالنا الأكثر روحية، الجسد حاضر ويفرض علينا متطلباته، وحدوده، ولكنه يجعل هذه الأعمال ممكنة أيضا. فليس الروح هو الذي يصلي، بل الإنسان بكليّته هو الذي يصلي.
يقول المفكر الفرنسي باسكال: "من أراد أن يكون ملاكا كان غبيا" فوحدتنا الإنسانيّة هشة، ومشكوك بها، وعلينا دائما أن نصنعها، ولا يمكننا التَخلي عن هذه المهمة، وبالرغم من كل التعقيدات التي تمسنا، فمهمتنا هي أن نجعل الروح يقود المسيرة،وما هو مصيري في هذا الموضوع هو تحقيق ذاتنا، وشخصيتنا، في النهاية تحقيق نمونا الصحيح. إنّها مهمة أو عمل ولكنها أيضا اختيار، إذا لم نعمل بصبر لكي يكون الروح فينا هو الذي يقودنا، نستسلم آنذاك لنزواتنا مع كلما تحمله من فوضى. يمكننا أن نذكر قول القديس أغسطينوس: "إن لم تصبحوا روحانيين حتى في عمق أجسادكم، تصبحوا جسديين في صميم روحكم".
------------------------------------------
التفاصيل :
إسم الكتاب: تاريخ العلاقة بين الذهن والجسد في القدامة المتأخرة.
الؤلف: تأليف جماعي تحت إشراف آنا مرمدورو وصوفي كارثوايت.
الناشر: منشورات جامعة كامبريدج
اللغة: الإنجليزية.
السنة: 2018م.
الصفحات: 404 صفحة.
