الحج في عصر الإمبراطوريات:تاريخٌ أوروبيٌّ من الحج إلى مكة

Picture1.png

تأليف: لوك شانتر

عرض: سعيد بوكرامي

في عصر الإمبراطوريات الاستعمارية كان يتوافد على الحج إلى مكة المكرمة كل سنة ومنذ القرن السابع، آلاف المسلمين لأداء المناسك في المدينتين المقدستين في الحجاز. ورغم الشروط الشاقة التي يتم فيها الحج إلا أنّه كان يحافظ على المظهر الوحدوي المتميز في العالم الإسلامي، لكن في المقابل يبدو الحج لأول وهلة أنه لم يحافظ إلا على علاقات بعيدة ومضطربة مع أوروبا التي تتصرف في أماكن حجيجها الخاصة بها في روما أو بيت المقدس أو سانت جاك وكأنها تتعامل مع إحدى مقاطعاتها الاستعمارية.

ومع ذلك، وفي ظل استعمار جزء كبير من العالم الإسلامي، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية، بمبادرة منها أو مضطرة بحكم الأحداث، إلى تبني اختيار التدخل المتزايد في عمليات تنظيم الحج إلى مكة.خلال أكثر من قرن، أي ما بين 1840 وبداية 1960 قامت بريطانيا وفرنسا وهولندا وروسيا وإيطاليا، وإلى حد أقل، النمسا وإسبانيا، بإرسال سفن مستأجرة، على متنها موظفوهاوجنبا إلى جنب الحجاج المسلمين. وكان هذا يستدعيالكثير منالأعمال والوظائف.

فضلا عن ذلك، من كان يتصور أنّ المستكشفين الأوروبيين قد تنكروا في شخصيات أمراء حلبيين، أو أطباء أفغانيين، وخاطروا بحياتهم في بعض الأحيان،لأجل ولوج الأماكن المقدسة المحظورة على الكفار.

اليوم نعلم أن أريستيد بريان أو بينيتوموسوليني، مثل السلاطين المماليك أو الخلفاء العثمانيين، قد اهتموا بشكل خاص بتنظيم قوافل الحج؟ هذه "المرحلة الاستعمارية" للحج هي ما يسعى هذا الكتاب الشيّق إلى تعقبها، عندما كانت الإمبراطوريات تهتم بشكل دقيق بنظافة الحج والتنافس على النفوذ في البحر الأحمر من توظيف الكثير من سفن الرحلات البحرية أو الجنود الحجاج الذين كانوا يعملون عيونا بعيدة لرصد أوضاع وتحولات المنطقة الخاضعة للحكم العثماني. يقول الكاتب إن القوى الاستعمارية لم تتوقف، خلال تلك الفترة، عن التجسس، جاعلة من الحج مجالا لمواجهات مؤقتة أو دائمة. إنّتجاهل حدود الإمبراطورية، قد دفع الحجاج أنفسهم إلى المساهمة في خلق حج استعماري أي إلى عيش واقع رحلات عابرة للحدود، مما أثار المخاوف في عودة الأوروبي، وهذه الهواجس كانت تلقي دائما بظلالها على العلاقات من وجود مؤامرات تحاك ضد الطرفين المسلم والمسيحي.وعلى مر السنين، كانت أوروبا تراقب تحول الحج إلى ظاهرةجماهيرية، عندما لم تكن تسعى إلى ابتكار أشكال جديدة من الحجيج، قبل أن تأتي الحقيقة الاستعمارية لإنهاء أحلام عظمة هذه "القوى المسلمة".

يقترح علينا كتاب لوك كانتور أن نفهم كيف اهتم، في القرنين التاسع عشر والعشرين، الأوروبيون تدريجيا بممارسة الحج (الحج إلى مكة المكرمة)، وكيف كانوا مشاركين في إعطاء الشكل الحالي للحج. الحج فرض مذكور في القرآن الكريم. يجب على المسلمين جميعهم القادرين على القيام بذلك، الحج مرة واحدة في حياتهم إلى مكة المكرمة، خلال الشهر الثاني عشر من التقويم القمري. لطالما كان الحج مركزياً للمجتمعات الإسلامية، سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية. وقد كان رسميا في القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني لسببين: السلطان كان أيضا الخليفة وثانيا منطقة الحجاز كانت تحت وصاية إسطنبول. لكن "القوى الإسلامية" الرئيسية لم تكن تقبل بتدخلات القوى الأوروبية التي ترى فيها محاولةلفرض هيمنتها. وفي سياق هذا الصراع والتنافس أصبح الحج محط اهتمام العواصم الأوروبية، التي كانت تولي، فيما مضى، اهتماما محدودا بهذه المنطقة.

يستحضر الفصل الأول التواجد التدريجي والبطيء للأوروبيين في شبه الجزيرة العربية. فإذا كانوا قد عرفوا منطقة الحجاز منذ وقت طويل، حتى القرن التاسع عشر، فإن اهتمامهم بالمنطقة كان ضعيفا نسبياً. وقد دفعت بعثة بونابرت إلى مصر وتنمية التجارة عبر البحر الأحمر القوى الأوروبية إلى تثبيت التمثيل الدبلوماسي في جدة، وهو الميناء الرئيسي للحجاز. كان الأوروبيون، في بداية القرن التاسع عشر، يُظهرون أيضًا العلامات الأولى لعدم الثقة تجاه الحج ويريدون وضع إطار له. ومع ذلك، فإنّ هذا الترتيب معقد بسبب حقيقة أنّ المكيين كانوا يظهرون العداء للمحاولات الأوروبية للدخول إلى الأماكن المقدسة وأنّ العثمانيين يترددون في السماح للأوروبيين بالتدخل في الحج.

يتناول الفصلان الثاني والثالث السببين اللذين يدفعان الإمبراطوريات الاستعمارية إلى الحذر من الحج وفي الوقت نفسه الرغبة في السيطرة عليه: القضية الصحية والقومية الإسلامية. نجد هذين الموضوعين يترددان كلازمة متناقضة في تقارير الحج الأوروبية. إنّ تحسين وسائل النقل بين مكة المكرمة وبقية العالم الإسلامي يزيد بشكل ملحوظ عدد الحجاج الذين يزورون الأماكن المقدسة سنوياً. هذه التدفقات المتزايدة للحجيج تعمل على تسريع انتشار بعض الأمراض الوبائية مثل الكوليرا، التي لا تقضي على الحجاج، فقط في الحجاز ولكن أيضا على باقي سكان المستعمرات. مثل هذا الانتشار الوبائي يقلق المدن الأوروبية ويدفعها إلى عقد العديد من المؤتمرات الدولية. غير أنّ التدابير المقترحة تطبيقها بطيء جداً، بسبب التحفظات العديدة للعثمانيين، والحجاج أو بعض القوى الأوروبية. الأوروبيون يخشون أيضا خطرا ثانيا، هذه المرة ذو بعد متخيّل في تلك الآونة، ويتمثل في الوحدة الإسلامية التي يدعو إليها الحج. ومما يعزز هذا الخوف من الوحدة الإسلامية التي يمكن أن تؤدي إلى ثورة في الإمبراطوريات الإسلامية، كما حدث في الهند التي كانت مستعمرة بريطانية،ووقعت فيها ثورة السيبوي ما بين 1857 و1858 وفي أوروبا بواسطة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1879-1909)، الذي لعب بهذه الورقة لمحاولة تعطيل فقدان العثمانيين لنفوذهم على الساحة الدولية.

إذا كان الحج هو بالتأكيد فترة زمنية مؤقتة يعيش فيها الحجاج شعورابوحدة الأمة (المجتمع الإسلامي العالمي)، يبدو أنّهذا الشعور لم يتحول في أي وقت إلى تمرد حقيقي. ولمواجهة وهم التهديد الناجم عن الوحدة الإسلامية، حاول الأوروبيون الدفاع عن أنفسهم كقوى جديرة بحماية المسلمين.

في الفصل الرابع يميط الكاتب اللثام عن الصعوبة التي واجهها الأوروبيون لتأكيد وجودهم في الحجاز؛ فقد كان الحظر المفروض على غير المسلمين الذين يدخلون مكة وكذا المشاعر المعادية لأوروبا يدفع القناصل للبقاء بعيدا في الحي الأوروبي في جدة. كما كانت تواجه دواوين القنصليات الأوروبية صعوبة في الحفاظ على نشاط قنصلي متواصل، لأنّ الدبلوماسيين المرشحين لهذه المناصب قليلون جدا وبعضهم يعيّن تحت ظروف خاصة وضغوط ملحة، بالإضافة إلى ذلك، فإن التنظيم الفعلي للحج يعد خارج صلاحياتها، أولا بسبب نقص الموارد البشرية أو المالية وثانيا لأن التنظيم هو في المقام الأول من اختصاص شرفاء مكة. هذه الحدود كلها لم تمنع الأوروبيين من الرغبة في التأطير الاداري، بكيفية أكثر أو أقل، للحجاج عند أرصفة النزول إلى جدة، كما يذكر الكاتب في الفصل الخامس. إن الإنجليز، من أجل تجنب إغضاب المسلمين في الهند، يسمحون للحجاج الهنود بتنظيم أنفسهم، و الفرنسيون حاولوا تنظيم الحجاج المغاربيين بطريقة مباشرة. لكن هذا التنظيم ليس ثابتا جداً مادام هذا الجانب يقسم مهام الإدارات المختلفة المسؤولة عن المناطق الإسلامية. وبالتوازي مع هذه المحاولات المختلفة للإشراف الرسمي على الحج، اهتمت خطوط الشحن البحرية المختلفة بالسوق التجاري الهام المتمثل في نقل آلاف الحجاج وما قد يحتاجونه من موارد وما ستجلبه من أموال.

أمّا الفصل السادس، فيتحدث عما كان يمثله الصراع العالمي الأول من تحول في قضية الحج. أولاً، لأن الدولتين الإنجليزية والفرنسية نظمت عدة مواسم حجيج مرموقة: فالسفن التي تستأجرها الحكومات وترافقها القوات البحرية كانت تحمل المسلمين إلى الحجاز. هناك، تستقبل السلطات المكية الحجاج بمودة كبيرة كما تعبر القوى الاستعمارية عن استعدادها لتقديم خدماتها المتعددة. وهنا بدأ العثمانيون يفقدون السيطرة على الحجاز لصالح الهاشميين الذين كانوا المساهمين الرئيسيين في الانتفاضة العربية لعام 1916. وقد سمحت الانتفاضة في نهاية المطاف لهذه العائلة المكية بأن تطالب بلقب الملك. وهنا سيخصص الإنجليز دعمًا كبيرا للملك الجديد بينما سيستبعد الفرنسيون عن صاحب السيادة الذي يطالب بتشكيل اتحاد عربي عظيم من الجزيرة العربية إلى سوريا، على حساب الطموحات الفرنسية في سوريا ولبنان. إلا أن الملكية الهاشمية ستواجه خصومها الوهابيين، الذين التفوا حول ابن سعود وساندوه لتأسيس مملكة جديدة (الفصل 7). وقد تمكن هذا الأخير من فرض نفوذه بسرعة على الأماكن المقدسة في عام 1925.

تركز الفصول 8 و9 و10 على الحج خلال فترة ما بين الحربين. خلال العشرين سنة التي تفصل الصراعين العالميين، ستعرف تطورات مهمة: فالحجاج المغاربيونسيصبحون أقل عددا، في حين أنّ الحجاج المعوزين كانوا كثيرين جداً خلال القرن التاسع عشر، بينما حجاج القرن العشرين هم في الغالب من المسلمين الأثرياء، كانوا يستغلون الحج لزيارة الشرق الأوسط. يشجع هذا التطور أيضاً القوى الأوروبية على تطوير تنظيم نوع من الحج الراقي، الموروث من الحرب العالمية الأولى. وكان على هؤلاء الحجاج الميسورين أن يمجدوا ويعظموا القوى الاستعمارية لدى السلطات المكلفة بالحج. خلال فترة ما بين الحربين، في هذه الفترة أيضا قامت المملكة السعودية أيضاً بتحديث الحج تحديثا تدريجيا ودقيقا، وذلك بإدخال السيارات لنقل الحجاج بين مكة والمدينة أو بين جدة ومكة وتوفير إقامة لائقة.

تميّز النزاع العالمي الثاني بتقلص عدد الحجاج (الفصل11). وقد حاولت القوى الأوروبية إعادة الاتصال بممارسات الحرب العظمى والرحلات الرسمية، لكنها لم تنجح في ذلك كثيرا. تمثل نهاية الصراع العالمي تغييرات جذرية في العمليات التنظيمية للحج (الفصلان 12 و 13). كما زادت اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في عام 1945 بشكل كبير من عمليات استخراج الذهب الأسود والإيرادات المتعلقة بذلك. ومع دخول هذه الأموال الجديدة، ستبدأ المملكة السعودية بتحديث جدة والأماكن المقدسة. كما ستسمح تجارة البترول بتطوير سياسة التأثير في العالم العربي والإسلامي، بما في ذلك شمال إفريقيا وغرب إفريقيا. كما أصبح الحج وسيلة لاحتجاج القوى الاستعمارية، التي بدأت تتخلى تدريجيا عن أية محاولة لتأطير هذا الحج الذي واصل الانفلات منها.

من المؤسف أن المؤلف يمر بسرعة على بعض الأسئلة. على سبيل المثال ، كان من الممكن تقدير دراسة بيزوغرافية للسلك القنصلي أو دراسة أكثر تفصيلاً لشركات الشحن المسؤولة عن نقل الحجاج. يمكن للمرء أن يجد أخيراً بعض الخيارات التحريرية التي من المحتمل أن تزعج القراء الجدد على الثقافة العربية الإسلامية. هذه الملاحظة الصغيرة لا يجب أن تخفي أهمية الكتاب الذي بحث في جوانب غيرمطروقة كثيرا حول ما يمثله الحج الإمبراطوري؛ لأنّ ما يعرضه الكتاب من أسئلة سياسية واقتصادية ودبلوماسية وأيديولوجية التي يسألها عادة الأوروبيون عن الحج هو بمثابة منجم تاريخي لكل دارس أو مهتم. وتجدر الإشارة في الأخير إلى أنّ المؤرخ نجح، رغم تعقيدات الموضوع وحساسيته، في إنتاج دراسة غنية ومحفزة على دراسة مراحل أخرى من فترات الحج. إنّ اقتراح تاريخ أوروبي للحج يدفع إلى العمل ومقارنة العديد من علاقات الإمبراطوريات الاستعمارية بعمليات الحج المعقدة والمتنوعة للغاية. لكن ينبغي أن تكون دراسة مقارنة متصلة بخمس إمبراطوريات هي الإنجليزية والفرنسية والروسية والهولندية والإيطالية، والرجوع بالضرورة إلى معالجة بعض المصادر الحجازية. وفي هذا النطاق، يعتبر الكتاب مثالا جيدا للتاريخ المتصل بالحج والعلاقات الدولية.

............

تفاصيل الكتاب :

الكتاب: الحج في عصر الإمبراطوريات: تاريخٌ أوروبيٌّ من الحج إلى مكة

الكاتب: لوك شانتر

الناشر: منشورات جامعة السوربون. فرنسا

تاريخ النشر: 2018

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 500 ص

أخبار ذات صلة