لمجموعة مؤلفين
فاطمة بنت ناصر
لقد دأبت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية منذ سنين على رفد المكتبات العربية والأجنبية بإصدارات لدراسات فكرية مُتخصصة حول عمان وإرثها التاريخي الممتد إلى أصقاع شتى من العالم وتسليط الضوء على المذهب الإباضي الذي ظُلم تاريخياً بقلة مؤلفاته وضياع الكثيرمنها. وقد تمكنت الوزارة من إصدار ما يفوق العشرين مجلداً باللغة الإنجليزية وحدها، مستعينة بخبراء متخصصين من جنسيات مختلفة. وفي السلسلة القادمة من المقالات نضع بين أيديكم قراءة تلخيصية لعدد من تلك المجلدات.
يتناول كتاب "الإباضية في منطقة المحيط الهندي(القسم الأول- شرق أفريقيا)" والذي يعد المجلد الأول في سلسلة تفوق 13 مجلداً مجموعة من المحاور المهمة التي تزيح الستار عن تاريخ منطقة شرق إفريقيا المتمثلة في المنطقة الواقعة بين الصومال من جهة الشمال وموزمبيق من جهة الجنوب) حيث يستعرض الكتاب من خلال الآثار المادية المتبقية فيها تاريخاً هاماً عن تلك المنطقة. فالشواهد الأثرية متنوعة ومتفرقة على مساحات شاسعة من تلك الأرض وتعكس بشكل كبير الحياة الاجتماعية لسكان تلك المنطقة والأديان التي تأثروا بها وغيرها من التفاصيل المهمة التيساعدت الباحثين في رسم ملامح لصورة تاريخية كادت أن تندثر لولا هذه الجهود البحثية. ومن أهم الآثار التي عثر عليها في هذه المناطق (محاريب المساجد وشواهد القبور والأوعية الخزفيةوبقايا البيوت والأبواب وغيرها).كما أن بعض إسهامات المؤرخين والجغرافيين حفظت جزءاً هاماً من التاريخ المادي والشفاهي كذلك. وقد وصفت كتاباتهم حالة التجارة بين هذه المناطق الأفريقية والتقلبات السياسية الكثيرة التي ألمت بتلك المنطقة، كما أعطت وصفاً دقيقاً للبيوت وخاصة بيوت العرب الذين عاشوا في تلك المناطق وغيرها من الأمور مما ساهم بشكل كبير في فهم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعيةلتلك الحقبة. وعلى الرغم من مسمى الكتاب الذي قد يخيل لقارئه بأنه سيتعرف على ما يخص الأثر الإباضي في منطقة شرق أفريقيا إلا أن القارئ سيجد في هذا الكتاب معلومات هائلة لتاريخ تلك المنطقة التي عرفت العمانيين ومذهبهم الإباضي كما عرفت غيرهم من الأمم كالفرس الذين يشار إليهم في كتب التاريخ (بالشيرازي) وكذلك البرتغاليين. في دلالة هامة أن من وصلوا لأفريقيا في الماضي كانت الأمم ذات الأساطيل البحرية القوية والنظرة التجارية الثاقبة.
الآثار المادية (أمثلة: الفخاريات، المساجد، المحاريب):
إن الآثار المادية التي اكتشفت في منطقة شرق أفريقيا أسهمت في تأكيد الوجود العماني فيها والذي ارتبط في أذهان عامة الناس من غير المتخصصين بدولة البوسعيدي والسلطان سعيد تحديداً، إلا أن الآثار المادية في منقطة (بات - pate ) مثلاً في كينيا تعود لمرحلة أقدم بكثير وتحديداً لفترة حكم النبهانة لعمان في القرن الثالث عشر، فكانت (بات) بمثابة العاصمة لهم كما كانت زنجبار لدولة البوسعيد، وسبب ذهاب النباهنة إلى هناك يعود للهزيمة التي تلقوها من اليعاربة. وقد تكون العلاقة أقدم من ذلك حيث أن لجوئهم إلى تلك المنطقة مباشرة لايكون من فراغ؛ فالمصادر التوثيقية تقول إن سليمان النبهاني حين وصل إلى (بات) تزوج ابنة حاكمها العربي، فمن المرجح أن يكون هذا الحاكم عماني الأصل وقد يكون من آلِ الجلندى كما يرجح المؤرخ ( ويلكينسون -Wilkinson)[1].
ولعل من أهم ما عثر عليه في تلك المنطقة آثار المساجد،حسب المؤلف ( جالاك - Garlack) وكتابه (العمارة الإسلامية الأولى في الساحل الشرقي الأفريقي) المنشور عام ١٩٦٦. وقد تمكن جالاك من تقديم وصف دقيق لهذه المساجد وطريقة بنائها وأهم ما يميزها، وهو جهد عظيم بسبب ندرة التوثيق لتواريخ إنشاء المساجد المتفرقة في تلك المنطقة، حيث ذكر الآتي:
١- معظم المساجد في معظم المناطق ذات مساحة مربعة وتحتوي على صف أو أكثر من الأعمدة في منتصف قاعة المسجد.
٢- معظم ماوجد من مساجد يخلو من المنارات.
كما تعتبر محاريب المساجد كنزاً أثرياً مهماً لما تحتويه من جمل حفرت عليها لتؤرخ معلومات مهمة عن تاريخ البناء وغيرها من المعلومات.
أما ما عُثر عليه من بقايا الأواني الخزفية فتشير المصادر إلى أن أغلبها من البورسلين الصيني المعروف باللونين الأزرق والأبيض، كما تم العثور في بعض المناطق ذات التواجد العماني على فخاريات تطابق تلك المصنوعة في ولاية (بهلا) والتي كانت شائعة الاستخدام في ذلك الزمان.
التنافس على الساحل الشرقي الأفريقي:
كما يستعرض الكتاب القوى التي تنافست على الساحل الشرقي الأفريقي من عمانيين وبرتغاليين وشيرازيين وهي الأمم ذات الأساطيل التجارية البحرية القوية في ذلك الحين، غير أن الكتاب يستعرض أيضاً التنافس بين العمانيين أنفسهم ومقدرة بعض القبائل في السيطرة على مناطق بعينها، ومثال ذلك سيطرة قبيلة المزروعي على ممباسا في أثناء الوجود اليعربي في الساحل الشرقي الأفريقي. ويذكر الكتاب أن المزروعي قبيلة عمانية من الرستاق تحديداً وهاجرت إلى هناكبعد سيطرة الإمام سيف بن سلطان اليعربي على تلك المنطقة في عام ١٦٩٨. وقد تمكنت هذه القبيلة العمانية من مد سيطرتها على أجزاء كبيرة بدءاً من رأس نجوميني في الشمال وإلى نهر بانجاني في الجنوب بالإضافة إلى سلطنة بوري و سلطنة فومبا، وقد حاولوا السيطرة على زنجبار في ١٧٥٤ في فترة سيطرة الإمام أحمد بن سعيد، وبالفعل تمكن علي بن عثمان المزروعي من السيطرة عليها ولكنه اغتيل بعد هذا النصر بفترة قصيرةعلى يد أحد من أبناء إخوته وتقهقرت قواته إلى ممباسا مبتعدةً عن زنجبار وحكم البوسعيدين فيها الذي بلغ ذروة مجده في العصر الذهبي لحكم الإمام سعيد بن سلطان.
ومن المهم أن نلفت الأنظار إلى نقطة هامة أشار إليها هذا المجلد وهي المحاولات المستمرة (لأفرقة) هذه المنطقة وتغييب كل الشواهد الدالة على تمازج الحضارات فيها منذ القدم. نعم قد تكون هذه المنطقة أفريقية من الناحية الجغرافية ولكن من الناحية الحضارية والعرقية هي مزيج من أعراق متعددة وأهمها العرق العربي الذي تشير إليه الشواهد الأثرية المادية وتلك المكتوبة والتاريخية على طول فترة مكوثه بها، وقدم هذه الفترة التي تمتد إلى ماقبل الإسلام.
إن قصة الوجود العماني في الشرق الإفريقي ضاربة في القدم وقد لانعلم عنها سوى بعض الخطوط العريضة. ورغم كثرة المراجع التاريخية إلا إنها لا توفر ما يوفره البحث التاريخي القائم على فحص الآثار الناجية من ذلك الزمان والتي تدعم بلا شك ما وثقته كتب التاريخ وتزيد معرفتنا بأحوال ذلك الزمان وأثر العمانيين في ذلك المكان.
-------------------------------------------------------------
التفاصيل :
اسم السلسلة: دراسات حول الإباضية وعمان
اسم الكتاب: الإباضية في منطقة المحيط الهندي(القسم الأول- شرق أفريقيا) ( المجلد 1)
المؤلف: مجموعة مؤلفين بتحرير هاينز غاوبه وعبدالرحمن السالمي
سنة النشر: 2013
جهة النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية
دار النشر: Georg OlmzVerlag
[1]Wilkinson,J,C.:TheJulanda of Oman. In:Journal of Oman Studies (1975) 97-108
