تأليف: آلن إهرنبرغ
عرض: سعيد بوكرامي
اكتسبت العلوم الجديدة حول السلوك البشري زخما وإثارة منذ أوائل التسعينيات نظراً لما حققه علم الأعصاب الإدراكي من إنجازات باهرة.كان طموح العلماء أن يجعلوا من استكشاف الدماغ وسيلة لعلاج الاضطرابات النفسية (مثل الاكتئاب أو الفصام...) ولكن أيضاً لمُعالجة العديد من المشاكل الاجتماعية والتعليمية، مثل التعلم أو التحكم في الانفعالات.
هل معنى هذا أنهذه العلوم أصبحت مقياسا لسلوكنا وحياتنا، فأخذت المكان الذي احتله سابقا التحليل النفسي؟ هل الإنسان "العصبي" هو الآن بصدد احتلال مكانة الإنسان "الاجتماعي"؟
يظهرالباحث آلن إهرنبيرغ من خلال كتابه الحديث" آليات المشاعر:الدماغ والسلوك والمجتمع"
أنَّ السلطة المعنوية المكتسبة من خلال علم الأعصاب المعرفي تعود بالدرجة الأولى إلى النتائج العلمية أو الطبية الكبيرة أكثر منها إلىمثاليةالتصور الاجتماعي. إن وجود قدرة الفرد على تحويل المعوقات إلى قيمة مضافة هي في الأصل طريقةلاستغلال "الطاقات الكامنة" لأنه مع تطور علم الأعصاب، أصبح التعرف على الفرد من خلال دماغه وبالتالي سيكون هذا الشخص قادراً، كما يقول عالم الاجتماع ألن إهرنبيرغ،على"تحويل معوقاته إلى امتياز عبر ابتكارات تزيد من قيمته كشخص". هذه الصورةهي نتيجة طبيعية "مثالية للإمكانات الخفية". يتناول المؤلف مرض التوحد الذي يجب أن نفكر فيه أولاً كعبقرية محتملة قبل أن نفكر فيه كمرض أو إعاقة.
يتساءل المؤلف، من أين يأتي نجاح هذا "الرجل العصبي؟" ويربطه بالتقاليد الليبرالية في عصر التنوير، وخاصةً التقاليد الأسكتلندية، التي تجعل من الاستقلالية والمبادرة الفردية النموذج الذي يجب تحقيقه لأي فرد يسعى للتخلص من الاستبداد والرقي. ويستحضر في السياق ذاته المذهبين التجريبيين لديفيد هيوم أو آدم سميثاللذين ركزا على الجانب الأخلاقي، والأسباب وراء العواطف البشرية، التي تجعل من ديناميتها، ولا سيما عن طريق الاعتراف بالآخر والتعاطف معه، ركائز لثورة الأمم وميثاقا لتأسيس المجتمع. إذا كان حصر الإنسان في عواطفه هو شكل من أشكال النزعة الطبيعية، فقد ترجمت لدى الإنسان في القرن الحادي والعشرين بحصرها في دماغه. الآن و"لولا الدعم من دماغه، لما تمكن الفرد على استكشاف إمكانياته العديدة، لهذا يجب عليه أن يقوم بذلك" هذه هي الحتمية الجلية الخفية لعلم الأعصاب التي يكشفها إهرنبرغ دون أن ينتقدها حقًا.
بعد أن اهتم في أعماله الأولى بالتحولات الاجتماعية الناجمة عن الدعوة إلى الاستقلالية في المجتمعات الحديثة، حوّل عالم الاجتماع آلان إهرنبرغ دفّة اهتمامه إلى الطريقة التي تم بها التفكير في الصحة العقلية ومعالجتها أثناء انتقال المجتمعات التي تحكمها معايير جماعية قوية لأنظمة تتمتع بحرية فردية كبيرة. لهذا وجدناه في كتابه الجديد، يواصل تأمله مركزا هذه المرة على التطور الأخير (منذ أواخر السبعينيات) لعلم الأعصاب الإدراكي، المرتبط بالتقدم في التصوير الطبي وعلم الأحياء العصبي، ومفهوم الصحة العقلية التي تحث عليها هذه العلوم في مجتمعنا. لهذا يدعم تحليله بقراءة نقدية للكتابات والتدخلات العامة لعلماء الأعصاب الرئيسيين.
وحسب آلن إهرنبرغ، فإنَّ طموح البحث البيولوجي العصبي يكمن في إظهار المؤشرات الجسدية في الفكر والعواطف وفي النهاية السلوك البشري في الدماغ. وهكذا، يحاول هذا البحث ربط الاضطرابات العقلية باضطرابات دماغية ملحوظة (بدلاً من صراعات نفسية مرتبطة بدينامية نفسية لكل شخص). هذا التغيير في المنظور يتمظهر بشكل خاص في الفهم الحالي لمرض التوحد، فمنذ التخلي عن التفسيرات التحليلنفسية، أصبحت المقاربة الجديدة تفترض أنه عندما يتم تدمير مناطق معينة من الدماغ، أو عندما تكون الروابط بين مناطق الدماغ المختلفة معيبة خلقياً، يمكن أن تبرز الأمراض والسلوكات غير المتكيّفة. بالنسبة إلى ألن إهرنبرغ، فإن هذا المفهوم للصحة العقلية يُشكل علامة فارقة هامة: نحن ننتقل إلى مقاربة من حيث المتلازمات، أي مجموعة من الأعراض إلى مجموعات مستقرة ومتماسكة نسبياً، وبذلك نصل إلى تحليل مبنيّ على أساس المقارنة بين الأدمغة السليمة والأدمغة المريضة.
مع مفهوم "المرونة الدماغية"، يذكرنا إهرنبرغ، بالبحوث التي طورت الفكرة نفسها أن ضعفا أو خللا في الدماغ يمكن أن يقابله تعبئة وتطوير الدوائر العصبية الأخرى، وتفعيل مناطق أخرى من الدماغ. وهكذا يمكن لتقنيات التعلم المناسبة أن تقود المرضى إلى التغلب على مشاكلهم لجعلها نقاطقوة و مؤهلات للنجاح، للانتقال من وضع المعاقين إلى وضع "شخص قادر بشكل مختلف"، وبالتالي إعادة تأهيل المريض. يورد آلن إهرنبرغ في هذا السياق حالة التوحد "رفيع المستوى"، والتي، من خلال العلاج السلوكي المعرفي، والأخذ بعين الاعتبار مصادر قوتهم (على التركيز) ومكامن ضعفهم (الخوف من التغيير أو العلاقات الاجتماعية) يمكن أن يحقق المتوحدون مستقبلا زاهرا.
وإذا كانت فكرة "المرونة الدماغية" قد تبدو جذابة لعلماء الاجتماع لأن من شأنها أن تفسر كيف أن تجربة وتاريخ الأشخاص تعود بالأساس إلى وظائف الدماغ وبالتالي إلى المجتمع في نهاية المطاف. ويعتقد إهرنبرغ أن هذا استخدام مختلف معد من قبل علماء الأعصاب والمستخدمين لأعمالهم، عن طريق إرجاع السلوك الاجتماعي والخيارات الفردية إلى ذبذبات دماغية، وهي فكرة عالم الاجتماع أيضا التي يلتقي فيها مع عالم الأعصاب الشهير مونتكاستل الذي يقول: "لا وجود لدماغين متشابهين." ص 145. و لذلك فإن السلوكات سواء كانت مرضية أم لا، فهي بالضرورة فريدة من نوعها وشخصية، ولا يمكن تفسيرها اجتماعيا بواسطة الآليات الجماعية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة. إن الكشف المبكر عن التشوهات بواسطة المعلوماتية الطبية والمعالجة المتطورة عبر قواعد البيانات الكبيرة، ينبغي أن يسمح مستقبلا بعزل الأفراد "في وضعية خطرة" لإبعادهم عن الوضعيات الصعبةأو الوظائف الشاقة (على سبيل المثال الوظائف المجهدة بدنيا ونفسيا) والتعامل معها على وجه السرعة كنوع من الأمراض المحتملة التي تستلزم العلاج المبكر.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الافتراض الضمني للعديد من علماء الفيسيولوجيا العصبية كل شيء يحدث للإنسان مصدره الدماغ، ولكن العمل الشخصي يمكن أن يساعد على تصحيح المشاكل التي تحدثأو التغلب عليها، من خلال تعزيز العلاج السلوكي المعرفي. في الواقع، تستند هذه العلاجات على فكرة أن تعلم الاستجابات السلوكية الجديدة والمتغيرة يمكن أن يعالج الاضطرابات ويساعد على التغلب على الصعوبات التي تواجه الفرد، دون اضطراره لتغيير بيئته أو علاقاته الاجتماعية. هذا هو السبب في أن السلطة الأخلاقية والعلمية للفسيولوجيا العصبية للدماغ سوف تتعزز بشكل كبير في المجتمع الذي يفسح المجال للاستقلالية الذاتية وتكيف الفرد، والقدرة الشخصية على المبادرة، لتجد مكانها في المنظمات الاجتماعية المعقدة ذات القيم المتطورة. يستشهد المؤلف في استنتاجه، باستعادة مفاهيم علم الأعصاب في علم الاجتماع - على سبيل المثال، يعتمد على عمل أنطونيو داماسيو لدعم تحليل السلوك الاجتماعي – التي تعزز الفردية المنهجية، وبذلك ندرك أن كل الظواهر الاجتماعية التي من شأنها أن تجمع في نهاية المطاف الخيارات والقرارات العقلانية (في الغائية أو القيمة) من الأفراد هي نتيجة سلوكاتهم الفردية.
إن تحليلات آلن إهرنبيرغ - لم نتمكن هنا من الدنو من ثرائها وتنوعها بارتباطها بأعماله السابقة ومرجعيته العلمية الواسعة - لفهم أفضل لتحولات الطب النفسي وقضاياه في دراسة الصحة العقلية. ومع ذلك، فإن أطروحته تساهم في التعزيز المتبادل بين التقدم الذي أحرز مؤخرا للفردانية في مجتمع منفتح وديمقراطي، وتطوير دراسة الدماغ كوسيلة لفهم وتطوير البشرية من جهة، ومن جهة أخرى، يبدو ذلك أكثر تحققا مما هو مبرهن عليه. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المؤلف يميل إلى التقليل من أهمية البحوث التي لا تذهب في هذا الاتجاه الذي يتبناه.
يعيد المؤلف أولاً، مشروع العلماء الذي يهدف إلى جعل التفكير والعواطف عبارة عن ذبذبات أو تفاعلات فسيولوجية إلى أصوله، لأنه أقدم من الفردانية المعاصرة، بحيث نجد مصدره في المدرسة الميكانيكية لتحليل الأحياء، التي كان رونيه ديكارت (1596-1650) أحد روّادها. يشرح دي لا ميتري، في عام 1747، أنه يمكن دراسة الجسم على أنه "نوابض" وأنه يتمتع بالقدرة على التعافي من تلقاء ذاته. يمكن تعريف الفكر على أنه خاصية فيزيائية كيميائية، مثل الكهرباء. بالنسبة إلى دو بوا ريموند، فإن علم وظائف الأعضاء يتألف من إعادة "المظاهر الطبيعية إلى المبادئ الرياضية للسببية"، وبالتالي عزل جميع دراساته عن العناصر التي لا يمكن رؤيتها أو اختزالها إلى حقائق فيزيائية كيميائية. ومن ثم، حتى في الفترة الأخيرة، لا تعتبر الفردانية والتفكك في العلاقات الاجتماعية ظاهرة متجانسة وعالمية. تستمر العلاقات المجتمعية القائمة على قواعد اجتماعية مشتركة في التعايش مع أشكال أكثر تنافسية وانفتاحية. وهذا يعني أنه ليس من الواضح أن اهتمام وامتداد علم الأعصاب لا يتعلق إلا بهذه الأخيرة.بالإضافة إلى ذلك، يبدو لنا أن جزءًا من الأبحاث الحالية في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي ربما ساهم في التشكيك في فكرة وجود عقل اقتصادي/ اقتصادي عقلاني. وقد سمحت هذه الأبحاث أيضًا لعلم الأحياء بشرح آثار البيئة الاجتماعية، وقد وضح المؤلف أن الأفراد الذين شاركوا في النشاط نفسه لسنوات عديدة (على سبيل المثال، سائق سيارة أجرة أو عازف البيانو) يمكن أن يطوروا وظائف دماغية مماثلة. وكذلك، أظهرت الأبحاث حول "العصبونات المرآوية" أو "تزامنية الأدمغة" أن هذه الظواهر - تمامًا مثل التعاطف - تكون أكثر قوة عندما تشرك الأفراد الذين يشعرون بالقرب من بعضهم البعض ويبنون ثقة متبادلة.
أخيراً، تلعب العواطف بشكل جماعي دورًا قويًا بشكل خاص في تكوين الذاكرة العاطفية، وهو أمر مهم جدًا في عملية اتخاذ القرارات البديهية. لا يعزز علم الأعصاب تلقائيا وجهة النظر الفردية لدماغ يعمل في عزلة. من ناحية أخرى، في مجتمع ليبرالي وفردي مثل الولايات المتحدة مثلا، صحيح أن استخدامات ومحاولات التطبيق العملي لعلم الأعصاب يبدو أنهاتسير في هذا الاتجاه الفردي، وغالبًا ما تتجاوز ما يمكن لهذه العلوم أن تثبته في الواقع.
يبدو لنا أن المشكلة الرئيسية والتحدي الذي يطرحه تطبيق علم الفسيولوجيا العصبية على السلوك الاجتماعي ليس من قبل الإمبريالية الانضباطية، التي تهدف إلى حصر دراسة الإنسان في دراسة الأداء الداخلي لوظائفه الدماغية، بدل دراسته كتعارض معرفي ومنهجي بين التخصصات. بالنسبة لعلم الأعصاب، يجب استبعاد أي شكل من أشكال الذاتية من خلال التجارب التي يراقبها المختبر واستخدام أدوات قياس موحدة. من ناحية أخرى، وعلى العكس بالنسبة لعلم الاجتماع، فإن استكمال النتائج المحصل عليها في المختبر أو أثناء التجارب المبسّطة على الحياة الاجتماعية المعقدة المتأصلة في الترابط الواسع لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الانحراف والتفسيرات الخاطئة. ولذلك، فانطلاقا من هذه الفجوة، يجب البحث عن العقبات التي تحول دون إنتاج فعال للمعرفة المشتركة بين علوم الحياة والعلوم الاجتماعية.
في الختم لا بد من الإشارة إلى أن آلن إهرنبرغ من ألمع أساتذة علم الاجتماع المعاصرين، يشغل منصب مدير أبحاث فخري في المركز الوطني للبحث العلمي بباريس. من بين أهم مؤلفاته: الكائن المبهم 1995 والتعب من الذات - الاكتئاب والمجتمع1998 والأمراض العقلية في تغيير، الطب النفسي في المجتمع 2000 والمجتمع العليل 2010.
-----------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: آليات المشاعر:الدماغ والسلوك والمجتمع
المؤلف: آلن إهرنبرغ
دار النشر: أوديل جاكوب. فرنسا.
سنة النشر: 2018
عدد الصفحات:328ص
اللغة: الفرنسية
